الخميس 27 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

يوسف إدريس وألحان الإبداع

يوسف إدريس وألحان الإبداع
يوسف إدريس وألحان الإبداع


الطابع المصرى، والإبحار عميقا فى قلب ووجدان الشخصية المصرية من أهم ملامح كتابات يوسف إدريس «19 مايو 1927-1أغسطس 1991»، فهو الطبيب الذى عرف أحوال القرية المصرية، ووضع يده على كثير من مشاكلها، كما اهتم بالعديد من القضايا الاجتماعية، وقد تنوعت أعماله ما بين القصة والرواية والمسرحية، فهو من الرواد الذين قاموا بتطوير فن القصة القصيرة، والمسرح المصرى بإنتاجه الثري.

 أسرار عالمه الأدبى

أصدر يوسف إدريس مجموعته القصصية الأولى «أرخص ليالي» عام 1954، وصدرت عن سلسلة الكتاب الذهبى عن دار روزاليوسف، وهى المجموعة القصصية التى لفتت إليه الأنظار، ودفعت طه حسين عميد الأدب العربى أن يكتب له مقدمة مجموعته القصصية الثانية «جمهورية فرحات» عام 1957، فيقول طه حسين فيها عن يوسف إدريس : «وأقرأه فأجد فيه المتعة والقوة، ودقة الحس، ورقة الذوق، وصدق الملاحظة، وبراعة الأداء مثل ما وجدت فى كتابه الأول من قدرة على تعمق الحياة، وفقه لدقائقها، وتسجيل صادق صارم لما يحدث فيها من جلائل الأحداث وعظائمها، لا يظهر فى ذلك تردد، ولا تكلف، وإنما هو إرسال الطبع على سجيته كأن الكاتب قد خُلق ليكون قاصا أو كأنه قد جرب القص حتى استقصى خصائصه ونفذ إلى أسراره، وعرف كيف يحاوله فيبرع فيه».. وإذا كان يحيى حقى قد رأى أن القصص الأولى لتوفيق الحكيم قد آذنت بانتهاء عهد الهواية والاقتباس، وبدأت عهد القصة من مجال الوجدان والفكر ونقلتها من الرجل إلى الإنسان، ومن الوطن إلى العالم فإن يوسف إدريس قدم مساهمة حاسمة فى اكتمال دوائر مصرية القصة القصيرة، وأسهم بدور بارز فى تطويرها.«محمد فتحى» : «يوسف إدريس- دراسة فى تكوين المبدع وإبداع الأصالة وأصول النبوغ»، صـ 158.

نقلة نوعية فارقة

وقد تحدث إدريس نفسه عن تجربته فى الكتابة وكيف اعتمد على عناصر من الواقع الإنسانى فيقول : «اتجهت مباشرة إلى البحث داخلى، وداخل دائرة الأصدقاء، والمعارف، والمحيطين بى، بمعنى أنى اتجهت إلى الكائن الحى، وليس الكتب».

حيث كان يلتقط من معايشته للناس طريقتهم فى السلوك والتفكير والتعبير عن أنفسهم، وطريقتهم فى الحوار، وكان يختزن هذا كله ليستوحى منه فاستطاع أن يضع يده على لحنه الخاص فى الكتابة، ونقل القصة القصيرة نقلة نوعية فارقة كما يقول النقاد، بل ابتدع مسرحًا له سمته الخاص، وملامحه المميزة.

الأصالة والخصوصية

 ومن أهم ما يميز تجربة يوسف إدريس فى الكتابة أنه بعد سياحته الواسعة فى الآداب العالمية رأى أن الفن ظاهرة إنسانية محلية، وأنه لابُدَّ أن ينبع من داخلنا، ومن أرضنا، وأن تكون لنا قصتنا القصيرة ذات الملامح المشتركة الخاصة والمختلفة اختلافًا تامًّا عن القصة الروسية مثلا، ليس هذا فقط بل أن يكون لكل كاتب منا قصته الخاصة وتطوره الخاص.

بل إنه يعترف بأنه قد كافح كفاحًا مريرًا عاما كاملا – وهو عام 1955على الأرجح – لكى يتخلص من تأثير تشيكوف وسيطرة أفكاره على أعماله..  ومن هنا استطاع يوسف إدريس أن يصنع أصالته، وفنه الخاص الذى تميز بالمصرية الصميمة،فيقول يوسف إدريس : «فكرة الأصالة فجَّرتها الثورة العربية الحديثة فى 23 يوليو 1952، فقد صاحب هذه الثورة السياسية الاجتماعية اتجاه عميق لدى الكتَّاب الثوار للأصالة والبحث عن الجذور الحضارية العربية والإسلامية، فحدث للفكر المصرى، ومن ثم للفكر العربى ثورة زلزلت قلاع الخاضعين تمامًا للفكر الأوروبى والفلسفة الأوروبية، والناسجين فى إبداعهم على منوال «موباسان»، و«بلزاك»، و«تشيخوف»، وإقامة صرح عربى أصيل للقصة القصيرة والمسرحية، والرواية وحتى الاشتراكية العربية».

(شهادة لإدريس فى كتابه الأب الغائب).

ولقد ظل إدريس على إيمانه بضرورة التمسك بالأصالة، والإفادة فى الوقت نفسه من تيارات الفكر والعلم الغربية، فيقول فى كتابه: «انطباعات مستفزة»: «إننا تجاه العالم الغربى فى حالة مواجهة فى أقل قليلها مواجهة حضارية، لن نصمد لها إلا إذا فعلنا كما فعل الوالى محمد على، وكما فعلت اليابان أيضا، أن نأخذ من أمريكا وأوروبا كل تكنولوجيا متقدمة، ونتعلمها، ونهضمها، وأن نُبقى ونُقوى تراثنا نحن الروحى، والوطنى، والحضارى، ومن هذا المنطق وحده نستطيع أن نوجد فى العصر الحديث» ص ص27، 28.

استلهام تجربة سيد درويش

ولقد تاثر يوسف إدريس بالإنجاز الذى حققه فنان الشعب سيد درويش، والذى كان ينفعل دومًا بما يحيط به من أحداث، وقد وجد إدريس فى نفسه استجابة عميقة لتلك الفكرة، بل رأى فى سيد درويش خبرة موازية استفاد منها، ومن هنا أسَّسَ إدريس خصوصية لغة فنية جديدة.
وقد استلفتت هذه اللغة الفنية الجديدة النقاد فيقول غالى شكرى عن ما قرَّ فى وجدان إدريس عنها : لقد كان عمله أقرب إلى عمل سيد درويش فى استفادته القصوى من الإيقاع الشعبى للموسيقى المصرية، ويجب أن نميز دائمًا بين اللغة الفنية التى تنطق بها الشخصية وبين الاقتصار على عامية فظة يُظن معها أنها الأقرب إلى واقع الشخصية، واللغة الفنية هى التى تجسد الواقع الأعمق للشخصية حتى إذا تكلمت بالفصحى المبسطة».

الجملة الأولى

لقد تعامل يوسف إدريس مع القصة كلحن، والسرد كبحر موسيقى كبحور الشعر فهو يقول : «إن أذنى قادرة على حفظ لحن قصصى طوال أربع وعشرين ساعة، لست فى حاجة لتعلم النوتة القصصية من مصادر خارجية».. ويقول أيضًا: «الجملة الأولى مهمة جدًا بالنسبة لى فهى تحدد المعنى، ونوع الموسيقى اللغوية التى سأستعملها والبحر النثرى الذى سأخوض فيه».

القضايا الاجتماعية فى أدبه

المتعمق فى كتابات يوسف إدريس يكتشف قدرته الخلاقة على معايشة أبطاله، وإذا كانت مجموعته القصصية الأولى «أرخص ليالي» تقدم العالم الروحى للفلاح المصرى كاشفًا ما يعانيه من عذاب روحى ومن أشواق، فإنه فى روايته «الحرام» يؤكد مسئولية المجتمع عن قضية الفقر، وما تسببه من مآس اجتماعية، فعزيزة بطلة رواية «الحرام» التى التحقت بالترحيلة للإنفاق على أطفالها وزوجها المريض، قد ذهبت لتحقيق أمنية الزوج فى ثمرة بطاطا، وفى طريقها للحصول عليه من أرض «أبوقمرين» فقدت مقاومتها النفسية واستسلمت لضغوط صاحب الأرض، وخافت مؤاخذة المجتمع لها فلم تصرخ، ولما انتفخ بطنها بطفلها «الحرام»، وامتدت يدها لتمنع صراخه هو أيضًا فلفظ أنفاسه لتدين الرواية الفقر والحرمان اللذين باعدهما الجميع لينهشا فى «عزيزة»، ويبدو صوت الراوى وهو يكشف المستور، ويكشف عورات مجتمع لا يقف وقفة صارمة فى حل قضاياه الاجتماعية وأولها الفقر، لكنه يلقى باللائمة على الضعفاء والبسطاء فيه: فيقول الراوى: مع أن المأمور كان هو أول من عرف بحكاية «عزيزة» إلا أن خبرها كان قد وصل إلى العزبة الكبيرة حتى قبل أن يصلها هو، ذلك أنه الخبر الذى انتظره الناس فيها طويلا، وتلقفوه تلقف الملهوب فلم يكن فيه حل للغز حيرهم فقط لكن الحل أيضا على وجه مُرضٍ، الحل كما أرادوه تماما وخافوا ألا يكون، حل بردت به صدورهم، وهجعت خواطرهم، وأعاد لهم الثقة فى أنفسهم وأخلاقهم ونسائهم وقيمهم، تلك الثقة التى ظلت حائرة مزعزعة تحوم حولها الشكوك، وتتطاول عليها الألسن منذ اللحظة التى عثر فيها «عبدالمطلب» الخفير على اللقيط، ومن الفرحة التى قوبل بها الخبر فى العزبة كان يخيل إليك أنه لو لم تكن هناك «عزيزة» وجذر بطاطا لتكفل واحد منهم أو أكثر بتأليف «عزيزة» من عنده، وألصق بها ما شاء من جذور البطاطا أو كيزان الذرة، ولسرت حكايته، ودارت وأصبحت فى النهاية حقيقية».. (يوسف إدريس: 1987، «الحرام»، الروايات الكاملة، ط1، دار الشروق، ص109).

العمل السياسى فى حياة يوسف إدريس

كان إدريس قد تخرَّج فى كلية طب قصر العينى يناير 1952، ورشح نفسه فى اتحاد الطلبة وصار سكرتيرًا لاتحاد طلاب الكلية ومندوبًا لها فى اتحاد الجامعة، وفى هذه الفترة تعرّف على سعد زغلول فؤاد، وأحمد الرفاعى وعبدالمنعم الغزالى «من الكوادر الماركسية المعروفة حينذاك، وساروا فى مظاهرات مطالبين بالسلاح للشعب، وإلغاء معاهدة 1936، ونادوا بتغيير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وبعد إلغاء المعاهدة وإعلان الكفاح المسلح ضد قوات الاحتلال عام 1951 وبدء حرب العصابات فى منطقة القنال سعى يوسف إدريس لأن يعيش تجربة النضال المسلح وانضم إلى اللجنة التنفيذية للكفاح المسلح من خلال تنظيم سرى حصر جهده فى الإعداد للتدريب على السلاح بين العمال والطلبة، وقد استلهم إدريس هذه الأجواء فى روايته «قصة حب»، ومع قيام ثورة 1952، أيدت «حدتو» أو الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى ثورة 23 يوليو فى البداية، وكان يوسف إدريس أحد المنضمين إلى هذه الحركة، لكن بعد أن وقعت أزمة مارس 1954، وصل لأعضائها توجيه من «حدتو»، بتأييد محمد نجيب، وتوجيه آخر لتأييد عبدالناصر، وتعارضت التوجيهات فى يوم واحد، فتمرد يوسف إدريس وبعض الأعضاء واعتقل بعد ذلك (عن غالى شكرى فى كتابه «يوسف إدريس فرفور خارج السور» وأورده محمد فتحى فى كتابه «يوسف إدريس) مرجع سابق صـ169.

وفى السجن اكتشف إدريس كيف تنقسم الجماعات السياسية على نفسها وتتراشق بالاتهامات، ورأى أنه لا أمل يمكن عقده على هذه التنظيمات، ومن الأفضل أن يكون فنانا فوق السياسة، وأنه بالفن يمكن أن يقول ويدعو إلى ما هو أخطر من كل أقوال ودعوات السياسيين، وعندما خرج إدريس من السجن فى أول سبتمبر 1955 شرع فى الإعداد لمجموعته القصصية الثانية «جمهورية فرحات». والقارئ لعالم إدريس القصصى والروائى يلمح آثار العمل السياسى فى كتاباته، فهو فى روايته «العسكرى الأسود» قد تمثل أحد هؤلاء الذين عانوا الاعتقال وهو الطبيب «شوقي» الذى خرج من السجن إنسانا آخر غير الذى عرفه، خرج وقد فقد أمانه فصار يؤذى الآخرين، ورغم محاولة الراوى – وهو طبيب أيضًا - علاجه فإن ذلك لم يثنه عن مسلكه فى الإيذاء، وعندما بحث بطل الرواية عن كيفية شفاء «شوقي»، وإعادته إلى ما كان عليه من أمان واستقرار يفشل فى ذلك، فقد تعرَّض شوقى فى السجن لانتهاك إنسانيته بالضرب المبرح من عباس «العسكرى الأسود»، وتتطور أحداث الرواية فيمرض عباس وتطلب أسرته أطباء لتشخيص حالته المرضية، فيذهب شوقى وآخرون لكتابة التقرير الطبى، ويصف الراوى هذا اللقاء فى مشهد مؤلم، ويصف ما آل إليه حال العسكرى الأسود المُعذب الذى صار أكثر الناس عذابا: «امتد الفم مرة، وكاد يقضم كتف «شوقي»، وجزع الأخير، وبدا وكأنما عاد إليه وعيه، وفى قفزة كان قد غادر مكانه فوق الفراش ليصبح بعيدًا عن متناول الفم الطويل المفتوح على آخره، ولم تنقطع الهبهبة بل حدث ما هو أكثر، أطبق الفم المفتوح على يد الزوجة القريبة منه، وبدأ يلوكها بين أسنانه ويضغط كمن يهم بالتهامها»، وينتهى المشهد بعباس «العسكرى الأسود» وهو يهوى بفمه على لحم ذراعه النحيلة التى كانت تبدو من كم الجلباب الممزق»، وتأتى عبارة إحدى السيدات العجائز من اللواتى شهدن الموقف المأساوى لتختتم المشهد بل الرواية بحكمة الراوى بأن الذى يعذب الناس إنما فى الحقيقة يؤذى نفسه ويعذبها.

«قطعة لحم عباس بين أسنانه، ودماؤه تكاد تصبغ كل ما تقع عليه العين، سمعت المرأة تمصمص بشفتيها، وتهمس للواقفة بجوارها: «لحم الناس يا بنتى.. اللى يدوقه ما يسلاه.. يفضل يعض إنشالله ما يلقاش إلا لحمه!، الطف بعبيدك».

(يوسف إدريس: 1987، «العسكرى الأسود»، الروايات، الأعمال الكاملة)، دار الشروق، ص 66، ص 67.

نحو مسرح مصرى

 بظهور مسرحية «الناس اللى تحت» لنعمان عاشور انتهى عصر استلهام المسرح الغربى الكلاسيكى الذى يستمد أحداثه من التاريخ أو قصص البطولات، وعصر الميلودراما كما تجلى فى مسرح يوسف وهبى، وبدأ عصر جديد هو عصر الواقعية كما يرى النقاد.

ومن هنا كانت محاولة يوسف إدريس فى مسرحيته «الفرافير» محاولة لتأصيل فن مسرحى مصرى جديد، فقد كان يرى أن لكل شعب من الشعوب تكوينه النفسى والروحى، وذوقه وأحاسيسه المستمدة من تراثه ومناخه وتاريخه وتقاليده، ولا بُدَّ أن نُسَلم بأن الإنسان لم يوجد بمفرده أبدًا، وإنما وجد دائمًا، وسيظل موجودًا كجزء من جماعة ذات كيان وإحساس وذوق خاص».

وهكذا استطاع إدريس بإنتاجه الإبداعى أن يكون مصدرًا أساسيًا لحركة التجديد الأدبى؛ خصوصًا فى القصة القصيرة، والمسرح، واستطاعت أعماله بما لها من طابع مصرى فريد أن تتعمق حياة المجتمع والناس  لتعبر عنهم، وعن تفاصيل حياتهم اليومية، ودواخلهم العميقة، وقد وجد لحنه الخاص فى أعمال عديدة منها ما نشر فى مجلة صباح الخير» مثل قصة :

«أبوالهول» بتاريخ 23/2/1956، و«المحفظة» بتاريخ 29/3/1956، و«داوود» بتاريخ 30/7/1959، كما نشر بعض قصصه فى مجلة «روزاليوسف» مثل قصة «ليلة صيف» و«التمرين 1956، وضم هذه القصص جميعًا فى مجموعته القصصية «أليس كذلك ؟»، كما أصدر عددًا من المجموعات القصصية، منها «أرخص ليالى»  1954، و«لغة الآى أى» عن الكتاب الذهبى بروزاليوسف.

كما أصدر «جمهورية فرحات» عام 1957، و«آخر الدنيا» 1961، و«العسكرى الأسود»1962، و«العتب على النظر» 1988.
ومن أشهر رواياته: «الحرام» 1959، و«العيب» 1962، و«رجال وثيران» 1964، و«البيضاء» 1970.
ومن أهم مسرحياته: «الفرافير»1964، و«المخططين» 1969، و«الجنس الثالث» 1971، و«البهلوان» 1983، كما أن له العديد من المقالات المهمة التى تبلورت فيها أفكاره، ورؤيته الاجتماعية الثاقبة، وتظل قصصه ورواياته نماذج إنسانية حية، وحيوات تتحرك على قدمين، تكمن تفاصيلها فى نسيجه السردى، من خلال رؤية مكثفة وكاشفة استطاع من خلالها يوسف إدريس أن يبدع لحنه الخاص وأسلوبه المتفرد.