السبت 7 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

"إسلامي أوروبي لبنك عصري"

"إسلامي أوروبي لبنك عصري"
"إسلامي أوروبي لبنك عصري"


 خلطة معمارية فريدة، طراز إسلامى مملوكى غنى بالزخارف والخشب، متداخل مع الأعمدة والطوب الأحمر التى تميز عمارة فينيسيا البحر المتوسط، تتضافر جميعا لتخدم وظيفة «بنك» عصرى.

فى شارع محمد فريد بوسط القاهرة، ستقف كثيرًا لتتأمل ذلك المبنى بثرائه المعمارى الفريد، الواضح بواجهته الرئيسية وستسرح عيناك فى تفصيلات تلك الواجهة ذات الأنواع المختلفة من البلكونات والعقود والأعمدة، وعندما تقترب أكثر سترى نقوشًا وزخارف عدة، وستكتشف أنه لا طابق يشبه الآخر، وستلاحظ زخرفة الهلال والنجوم بلونها الأخضر، وقد وضعت بسيمترية على يمين ويسار الواجهة، وفى المنتصف وبأعلى الباب الرئيسى لوح رخامي كتب عليه «بنك مصر».
هو أول مبنى شيد على الطراز العربى فى منطقة القاهرة الخديوية، التى كان يشترط  ألا يخرج فيها البناء عن الطراز الأوروبى والكلاسيكى، بحسب ما خطط لها الخديو إسماعيل، لتنتشر الخلطة المعمارية فى مبانٍ أخرى بالقرب منه مثل معهد الموسيقى العربية وجمعية المهندسين المصريين وقاعة العرش فى قصر عابدين، تأكيدًا للهوية العربية الإسلامية، كشكل من أشكال مواجهة الاستعمار.
فى تلك اللحظة سيأخذك الفضول لتسأل من يكون المعمارى الذى بنى مقر أول بنك وطنى مصرى. إنه المعمارى الايطالى  «أنطونيو لاشاك»، الذى استطاع كما تقول أستاذة العمارة بهندسة القاهرة سهير حواس، «أن يظهر غنى العمارة الإسلامية ويطوع تفاصيلها فى تصميم يخدم وظيفة البنك، فأنشأ بهوًا كبيرًا للجمهور، وغرفًا للإدارة وصالونات استقبال ومكانًا للخزنة، واستطاع أن يؤمن فتحات المبنى وواجهاته، وبهذا نجح المبنى فى أن يؤدى هذه الوظيفة طوال 100 عام.
«لاشاك»
أنطونيو لاشاك المولود فى إيطاليا 1856، يعد من أفضل المعماريين الأجانب الذين عملوا فى مصر خلال الفترة من 1882-1930، بحسب رسالة الماجستير للمدرس المساعد بآداب عين شمس، كريمة نصر، والتى عنوانها «واجهات منشآت المعمارى أنطونيو لاشاك فى القاهرة والإسكندرية».
جاء لاشاك إلى مصر فى 1882 وعين عام 1907 رئيس معمارى القصور الخديوية، خلفًا لمواطنه ديمتريوس فيبريسوس، وعينه الخديو عباس حلمى الثانى فى 1910 عضوًا بلجنة حفظ الآثار العربية، وظل بمصر إلى عام 1936 ليسافر إلى روما، ثم يعود للاستقرار فى مصر حتى وفاته 1946.
ومن أهم تصميماته محطة مصر بالقاهرة، والعمارات الخديوية بشارع عماد الدين، وقصر الزعفران «مقر إدارة جامعة عين شمس الآن» وقصر سعيد حليم بشارع شامبليون بوسط القاهرة، وقصر الأميرة نعمة الله توفيق الذى
أصبح مقرًا لوزارة الخارجية.
وتشرح كريمة لصباح الخير: «شيد مبنى بنك مصر على الطراز الإسلامى المستحدث، الذى تم إحياؤه فى القاهرة فى القرن التاسع عشر، لحرص أمراء وباشوات أسرة محمد على، على أن تحتفظ بيوتهم بفن العمارة الإسلامية ونفذ هذا الطراز على يد معماريين أجانب، أعجبوا بالطراز الإسلامى المحلى، ومن مميزات الطراز أن يحتوى المبنى الواحد على زخارف متنوعة طولونية تجريدية، وفخامة العصر الفاطمى ودقة نقش الأيوبيين والإبداع فى الأشكال والرسوم المطعمة بالصدف وغير المطعمة «المملوكية» كما تتأثر النوافذ بالعمارة الأوروبية فى طريقة وضعها، بحيث يعلو بعضها بعضًا.
 متعة التفاصيل
وتفصًل كريمة قائلة: مبنى بنك مصر تأسس كما هو مكتوب عليه 1920، وانتهى بناؤه 1927، واستخدم المعمارى الخرسانة المسلحة والطوب الأحمر الحرارى مع الحجر الأبيض فى الواجهات الثلاث، مازجًا بين أشكال مختلفة من البلكونات والنوافذ، وفنون العمارة الإسلامية من زخارف بالجص والفسيفساء الملونة والعقود المدببة والأخرى التى على شكل حدوة الفرس، والتندات «المظلات» الخشبية، التى أراد بها جذب انتباه المشاهد، وإمتاعه بالتفاصيل التى تعمل عقله وتبعده عن الملل.
وبحسب بحث كريمة، تبلغ مساحة البنك 2520 مترًا مربعًا، بارتفاع 6 طوابق، أرضى و5 طوابق، وتنتهى واجهته الرئيسية من الجانبين ببرجين مربعين، بكل منهما ساعة، ويتوسط الواجهة المدخل الرئيسى، الذى يفتح على ارتفاع طابقين الأرضى والأول، معقود بعقد حدوة الفرس، وعلى جانبيه «مكسلتان» صغيرتان، تشبه تلك الموجودة على أبواب المساجد المملوكية التى كان يجلس عليها حراس المساجد فى العصر المملوكى، وتأتى كلمة «مكسلة» من الكسل، كناية على الوضع الذى يتخذه الحراس.
وتزين كوشتا عقد الباب زخارف نباتية جصية بارزة، بأشكال فروع وأزهار على أرضية مذهبة، وعلى جانبى كوشتى العقد من الداخل دائرتان، مكتوب داخل احداهما «تأسس 1338هـ - 1920 م» وكتب على الدائرة الأخرى بالفرنسية 1920  «Fondee». ويحيط بعقد المدخل الزخرفة المعروفة بشريط الجفت اللاعب والميمات، ويتوسط العقد نافذة تتخذ نفس شكل العقد، عليها حجاب معدنى مذهب، وأسفله شريط مستطيل، كتب عليه      بالفرنسية  BANQUE MSR .
شرفات أنيقة
ويصعد إلى البنك بدرجتى سلم إلى الباب الرئيسى، وعلى جانبى المدخل ثلاثة شبابيك مستطيلة مزدوجة، ذات أحجبة معدنية يعلوها الطابق الأول، ثلاثة شبابيك عبارة عن فتحات مستطيلة ذات أحجبة خشبية على هيئة نوافذ تشبه القناديل أو النصف دائرة، ومن الطابق الثانى تقسم الواجهة رأسيًا إلى ثلاثة أجزاء، الأوسط يجمع الطابقين الثانى والثالث فى تصميم واحد من خلال أعمدة متوازية تنتهى بخمسة عقود على هيئة حدوة الفرس، بحيث تبرز فى الطابق الثانى بشكل بلكونات مستطيلة ذات درابزين مخرم، يتوسط درابزين الشرفة الوسطى لوحة رخامية بيضاء، كتب عليها باللون الذهبى «بنك مصر» وأسفلها بخط أصغر «شركة مساهمة مصرية»، ويفصل كل شرفة عن الأخرى عمودان، وتنتهى الأعمدة بعقود تمثل نوافذ الطابق الثالث.
أما الطابق الرابع فهو عبارة عن شرفة متصلة، ذات درابزين على هيئة أعمدة وعقود مدببة، يفصلها عن بعضها زخارف هندسية مفرغة، ويطل على هذه الشرفة خمس نوافذ مستطيلة من الخشب، وواجهة الطابق الخامس عبارة على خمس شرفات مستطيلة بخمسة نوافذ، يعلوها شريط مذهب بزخارف ملونة، وينتهى الطابق بمظلة خشبية تشبه الموجودة بالبيوت الإسلامية والأسبلة.
وبتأمل تفاصيل جانبى الواجهة المتشابهين، نجد أن الطابق الثانى به شرفة مستطيلة ذات درابزين بزخارف هندسية مفرغة، تبرز عما يجاورها من شرفات الجزء الأوسط، وفى الطابق الثالث نجد نافذة خشبية مستطيلة، ثم تبرز الشرفة مرة أخرى فى الطابق الرابع، مكونة من شباك  بعقدين وعمودين.
وفى الخامس تبرز شرفة بدرابزين من الزخارف المفرغة، تعلوها مظلة خشبية، وتنتهى بالبرج المربع ذى الساعة.
مسابقة الأجود والأقل تكلفة
يرجح أستاذ الآثار والعمارة بجامعة حلوان، عبدالمنصف سالم، أن يكون اختيار تصميم مبنى بنك مصر قد خضع لنظام المسابقات المعمارية، الذى كانت تتبعه أسرة محمد على عند إنشاء المبانى والقصور فتختار التصميم الأفضل والأجود والأقل تكلفة.
 ويلفت عبدالمنصف إلى فكرة المفاجأة فى التصميم، التى يتميز بها تصميم بنك مصر، الذى جمع بين طرازين معماريين، الإسلامى المملوكى وطراز فينسيا أو المعروف بعمارة البحر المتوسط، الذى يظهر فى واجهة المبنى، واستخدام الطوب الحرارى وشكل البواكى أو مجموعة العقود المحمولة على أعمدة، بينما يظهر الطراز الإسلامى فى الباب الرئيسى ذى المكسلتين، والكتابات والزخارف العربية التى تعلوه، والتندات الخشبية المأخوذة من الأسبلة، والعقود المدببة والأخرى التى تشبه حدوة الفرس، مما قد يوحى بأنها ستأخذك إلى تصميم بيت عربى بالداخل.
 لكن على غير المتوقع، كما يقول عبدالمنصف، استخدم المعمارى نمط البهو الشبيه بتصميم قصور أوروبا، كما فى تصميم قصر الأمير عمرو إبراهيم بالزمالك الذى شيد فى نفس الفترة، ويرتفع البهو طابقين، وفى الطابق الثانى يوجد درابزان من الخشب الخرط على شكل مربع، يوصلك إلى غرف العاملين.
 ويشير عبد المنصف إلى الشبه بين بهو المبنى وفناء البيوت الإسلامية غير المسقوف، لكن لتلبية وظيفة التأمين انتهى البهو بسقف من الزجاج الملون والمزخرف بزخارف نباتية وهندسية، معشق فى الرصاص، وهو الفن الذى انتشر فى أوروبا وظهر فى كنائس إيطاليا وإنجلترا فى القرن التاسع عشر، وهذا السقف يسمح بالإضاءة الطبيعية للمبنى نهارًا.
 «شبابيك العملاء»
أرائك خشبية وترابيزات رخام
 باب المبنى من الداخل يعلوه عقد معدنى معشق فى الزجاج الملون بالأصفر والأخضر، يأخذك إلى سلم ينتهى ببوابة من الخشب الخرط، تفتح على تمثال نصفى لطلعت حرب، وعلى جانبى البوابة عمودان دائريان من الرخام ينتهيان بتيجان من المقرنصات المذهبة.
وأينما تقع عيناك على حوائط أو أسقف أو أعمدة أو أرضيات بالداخل، تجد ثراءً زخرفيًا بديعًا، فالأرضيات تشبه أرضيات المساجد المملوكية، فهى من رخام فاخر بتكوينات هندسية بألوان متعددة، والأسقف تحاكى أسقف مساجد السلاطين المماليك، المزخرفة بالنباتات وأوراقها والأطباق النجمية، بألوانها المتعددة.
أما شبابيك العملاء فمعدنية مذهبة بزخارف أندلسية مفرغة، تعرف بزخرفة الكف، قاعدتها من الرخام الفاخر السمنى مزخرف من الأسفل ببوائك من عقود وأعمدة سوداء اللون.
والأبواب بالداخل من الخشب الخرط المطعم بالعاج، والأرائك التى يجلس عليها العملاء من الخشب الخرط تعود إلى وقت الإنشاء، والتربيزات من الرخام.
«فاترينة طلعت حرب»
خريطة التأميم ووصف مصر وفناجين ذهب
وتتدلى من سقف البهو ساعة نحاسية ذات إطار من الزخارف النباتية المفرغة، وتتدلى وحدات إضاءة نحاسية بنفس الزخارف.
وبالبهو فتارين لعرض مقتنيات طلعت حرب، مؤسس البنك، منها قلادة النيل الذى منحها الرئيس السادات لاسمه فى 1980، ولعبة دومنيو وعلبة نشوق ومنشة وساعة مكتبه وأباريق وفناجين من النحاس المغطى بالذهب إنتاج 1926،   و13 مجلدًا من كتاب وصف مصر «النسخة الأصلية» تعود لعام 1826، أهدتها أسرته للمتحف فى 1987، وخريطة لقناة السويس تعود لعام 1907، وكلها من مقتنيات طلعت باشا حرب، ويرجح أنها الخريطة التى استند عليها ليتمكن من استصدار قرار من البرلمان المصرى، لعدم مد امتياز إدارة القناة، وهو أحد المراجع التى استند إليها الرئيس جمال عبدالناصر عند اتخاذه قرار تأميم قناة السويس 1956.•