الإثنين 20 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

د. طه عبدالعليم: الخطاب الديني المستنير دعم تأسيس البنك

د. طه عبدالعليم: الخطاب الديني المستنير دعم تأسيس البنك
د. طه عبدالعليم: الخطاب الديني المستنير دعم تأسيس البنك


 عادة، لا يشغلنا كثيرًا التفكير فى وظائف البنوك، باعتبارها الجهات التى نتعامل معها نقديًا وماليًا واستثماريًا.. حتى ساهم الاحتفال بمئوية بنك مصر فى فتح صفحات التاريخ الوطنى لهذا الصرح، وكيف ساهم فى تشغيل عشرات الآلاف من الشباب فى المصانع.
 وكيف ساهم فى تحويل الفلاحين لعمال صناعيين يضمنون دخولاً أعلى ومستوى معيشة أفضل! وكيف ساهم فى توفير السلع بأسعار أرخص من السلع المستوردة، وكيف ساهم فى توفير درجة من الرفاهية بتنفيذ المشروعات الصغيرة والمتوسطة.. وتشجيع التمويلات الحالية لصالح المشروعات الصناعية والزراعية بضمانات مقدور عليها للمقترضين.. كما ذكر دكتور طه عبدالعليم الخبير الاقتصادى بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام.. فى حوارى معه.

مصر مزرعة الإنجليز
- الرغبة فى تأسيس بنك مصرى لتمويل المشروعات الصناعية كانت مطلبًا موجودًا قبل إنشاء بنك مصر بسنوات طويلة، وهو ما تضمنه تقرير لجنة التجارة والصناعة عام ١٩١٦ برئاسة إسماعيل صدقى باشا وعضوية طلعت حرب، الذى كان ينادى بتأسيس هذا البنك، بينما تعددت الأسباب الحتمية لإنشائه.
يشرح د. طه بعض الأسباب: منها قيام بعض البلدان بتأسيس مجموعة بنوك.. مثل بنك أوف فرانس، وبنك أوف إنجلاند وغيرهما من البلدان التى وفرت بنوكها الوطنية التمويل الضرورى لتأسيس الصناعات الآلية الحديثة، وهو ما كانت مصر فى حاجة إليه.
 أما السبب الثانى، فهو تحول مصر إلى مزرعة قطن للصناعة الإنجليزية فى وقت الاحتلال البريطانى، وتعدد صور النهب وتراكم الثروات النقدية لدى كبار ملاك الأرض، وفئة من التجار المصريين الذين تطلعوا إلى الأرباح من استثمار أموالهم فى الصناعات الأجنبية المحدودة التى أقيمت فى مصر.
ورغم محاربة الاستعمار للتصنيع وبشكل خاص تصنيع القطن المصرى.. كان اندلاع الحرب العالمية الأولى هو أحد العوامل التى أرغمت الاستعمار البريطانى على قبول إنشاء بنك لتوفير منتجات الصناعات المصرية؛ بعدما صعب الاستيراد فى ظل الحرب.
 بينما ساهم الزخم الوطنى لثورة ١٩١٩ فى توفير قوة دفع كبيرة لتأسيس البنك، حيث قام حزب الوفد بتعبئة صغار ومتوسطى المدخرين المصريين، بجانب الأعيان فى الريف والتجار فى المدن.. لشراء أسهم البنك، وبشكل خاص فى عملية الإيداع.
 أما السبب الثالث، فيتعلق بالقطن.. باعتباره المحصول الأساسى الذى من الطبيعى أن تعتمد عليه مصر فى بدايات تصنيعها؛ فقام البنك مع بداية الثلاثينيات بإنشاء مجموعة مصانع متكاملة لصناعة الغزل والمنسوجات من حلج وكبس وغزل ونسج.. إلخ.
صناعة السينما وشركات النقل والطيران و..و..
-  حول الدافع الذى أثار حمية المصريين للمشاركة فى إنشاء بنك مصر، رغم الأمية والفقر- آنذاك- يقول د. طه: كانت الرغبة الوطنية فى بناء أسس الاستقلال الاقتصادى دعما للاستقلال السياسى.. هى الدافع الذى حفز التركيبة الوطنية التى شاركت فى ثورة ١٩١٩ للاقتناع بأهمية رسالة بنك مصر. فى نفس الوقت الذى كان العامل الثقافى وتجديد الفكر الدينى بقيادة محمد عبده، - وغيره - من أهم العوامل التى ساهمت فى توسيع صفوف داعمى تأسيس البنك، بما أصدروه من فتاوى دينية مستنيرة لا ترى توظيف الأموال فى البنوك حرامًا، وكذلك الكسب من فوائد أسهم الشركات والبنوك والودائع.. وقد كانت مسألة التحريم الدينى بمثابة أكبر عقبة منعت المصريين من المشاركة فى تأسيس البنوك والشركات المساهمة.
-   الدافع الآخر هو الدعم السياسى للبنك من كل الأحزاب السياسية - بالإضافة لحزب الوفد - بل من بعض الشخصيات السياسية التى ارتبطت بالصناعات والشركات الأجنبية ومجالس إداراتها - وقتها - خاصة بعد عملية التمصير التى بدأت عام ١٩٢٢ ثم ١٩٢٧.
-  من المعروف أن بنك مصر ساهم فى إنشاء العديد من الصناعات، وتذكر بعض المصادر أنه منذ ١٩٢٠ إلى ١٩٦٠ أنشأ حوالى ٢٦ شركة فى مجالات الغزل والنسيج والتأمين، والنقل، والطيران، وصناعة السينما.
 فلماذا انحدر الحال بهذه الصناعات؟
يجيب د. طه، موضحًا: ليس صحيحًا أن الصناعات التى أنشأها بنك مصر قد انحدرت، ولكن يمكن القول إنها حوصرت ولم تفشل! ويكفى أن البنك ظل ينتج الغزل والنسيج فى مصر، حتى أوائل الخمسينيات! مثلما لعب دورًا فى توسيع حصة رأس المال المصرى فى الشركات المساهمة لتصبح ثلثى تلك المساهمات.
عشية الحرب العالمية
-  بينما كانت هناك بعض المعيقات التى قابلت بنك مصر، مثل أزمة سحب الودائع التى واجهته عشية الحرب العالمية الثانية.. حينما قامت بعض الجهات بسحب ودائعها، وللأسف كانت الحكومة - بضغط من الاستعمار- أول من سحب ودائع صندوق التوفير! فى نفس الوقت الذى أحجم البنك الأهلى عن تمويل بنك مصر، رغم أن الأخير قدم له أقوى الضمانات، وكان البنك الأهلى يقوم بمهام البنك المركزى.. رغم أنه كان أداة الاستعمار كبنك إنجليزى برأسماله وإدارته! مثلما قامت الحكومة بإجبار بنك مصر لقبول ما يسمى بقانون الدعم فى أوائل الأربعينيات.. واشترطوا عليه ألا يؤسس مصانع جديدة!
وظل الضغط على بنك مصر.. الذى كان قد أسس ٤ شركات صناعية كبرى عام ١٩٣٨.. منها كفر الدوار للغزل الرفيع والنسيج (بعدما احتكر الإنجليز الغزل الرفيع الذى يجلب الربح الأكبر.. ثم السماح لشركة المحلة بالغزل والنسيج فقط، بالشراكة مع شركة برادفورد الإنجليزية، ومساهمة ٨٠٪ من بنك مصر فى رأس المال).. بل تم عزل طلعت حرب نفسه وهو مؤسس البنك، وتم تعيين حافظ عفيفى رئيس الديوان الملكى كأول رئيس لمجلس إدارة البنك، حتى يتم قانون انحسار بنك مصر!
لكن، ورغم انشغال الناس فى مشاكل الغلاء.. فإن كبار ملاك الأرض المهيمنين فى مجلس النواب والشيوخ، والذين أصدروا القانون هم أنفسهم الذين أنقذوا البنك من الانهيار نظرًا لوجود رءوس أموالهم به أيضًا!
 ماذا عن كيفية استقبال الإنجليز للدور الوطنى الذى قام به بنك مصر، والنتائج التى ترتبت على ذلك؟
 -   رغم أن انهيار الصناعات التى أسسها بنك مصر لم تكن فى صالح الإنجليز، لكن رأس المال الأجنبى والشركات الصناعية الأجنبية داخل وخارج مصر شكلت منافسة كبيرة للبنك، كما لعبت الامتيازات الأجنبية دورًا فى عدم توفير الحماية الكافية للصناعة المصرية، فكان من السهل - مثلا- الحصول على الضرائب من بنك مصر دون الحصول عليها من الأجانب، كما تم إجبار الشركات المصرية الأكثر ربحية على قبول مبدأ المشاركة، مثل شركتى كفر الدوار للغزل الرفيع وصباغ البيضا اللتين أجبرتا على قبول مشاركة الإنجليز لهما فى رأس المال.
 كل هذا ترتب عليه وجود معوقات كبيرة فى مسيرة التنمية فى بلد زراعى مثل مصر.. تعتبر الصناعة فيه كجزيرة معزولة مع محدودية العمالة المؤهلة والمدربة. فى نفس الوقت الذى كان التربح من شراء المستندات وأذون الخزانة أعلى من التربح الصناعى.. مع كثير من الشروط التى تفرض للحصول على التكنولوجيا المطلوبة للتصنيع والتسويق.
 بالإضافة لطبيعة الشعب الذى كان يضع مدخراته فى شراء الأرض ولو من باب المباهاة الاجتماعية بدلاً من وضعها فى التصنيع! ولذلك جاء مطلب الإصلاح الزراعى الذى أقرته ثورة يوليو ليمنح الفلاحين أرضًا تمكنهم من امتلاك القدرة الشرائية للصرف على احتياجاتهم، ومن ثم تذهب النقود بعد ذلك للصناعة، وليس لشراء المزيد من الأراضى!
حينما غنى العالم للقطن المصرى
وهل كان التأميم فى صالح الشركات التى أسسها بنك مصر؟
- لست مع فكرة تأميم الصناعات الوطنية، فالتأميم كان لا بد أن يقع على الشركات الأجنبية لدعم الاستقلال، كما كان يمكن تأميم حصة بعض الأشخاص الذين يمتلكون البنك - مثل عبود باشا - ليظل البنك قطاعًا خاصًا، ولكن هذا ما حدث!
 والحق يقال: إنه رغم التأميم.. لكن تم تطوير هذه الصناعات أيضًا، وظلت أعظم الأقمشة والملابس فى العالم صناعة مصرية حتى بداية السبعينيات.. لكن للأسف، قامت سياسة الانفتاح والخصخصة وبيع بعض الشركات وعدم سياسة الإحلال والتجديد بتدمير هذه الصناعات، وأهمل التصنيع بزعم أن مصر بلد زراعى.. فوصل بنا الحال لنسبة عجز فى السلع الأساسية بنسبة ٨٠٪ لأننا أهملنا الزراعة أيضًا.. وهكذا لم تنهض مصر زراعيًا، كما أنها لم تتحول لبلد صناعى!
والقطن المصرى طويل التيلة خير دليل على ذلك، بعدما أغلقت كل مصانعه، رغم أننا رقم واحد فى زراعته وإنتاجه بالعالم، وكان العالم يتغنى به.. صرنا نتعامل مع القطن قصير التيلة بالمكسب القليل لمنتجاته، حيث تمنعنا «الخيبة» من التفكير بطريقة سليمة ، فلو فكرنا فى رواد الصناعة الذين اشتهروا فى عهدى السادات ومبارك بتأسيس المدن الصناعية الجديدة فى برج العرب وأكتوبر والعاشر من رمضان، سنكتشف أنهم اتجهوا للمجالات التى تزيدهم مكسبًا مثل بيع الأفدنة وملايين الأمتار المربعة بـ ٢-٣ جنيه ثم بيعها بمكسب كذا ١٠٠٪! فما الذى يجبرهم على الاتجاه للصناعة ويكسبون ٥٠٪؟ لذلك يهتم الحريصون على الإنتاج بقضية التصنيع، لعلنا نصبح مثل كوريا واليابان والصين.. التى لم تتقدم إلا بالصناعة، والصناعة تعنى الاهتمام بالزراعة، وهكذا..
بين طلعت حرب والسيسى
-  أسأل د. طه إذا ما كانت المعوقات التى مرت ببنك مصر.. ساهمت فى تقدم مكانة البنك الأهلى عليه؟
 فيقول: بنك مصر ثانى أكبر بنك قطاع أعمال عام بعد البنك الأهلى الذى يتمتع بميراث تاريخى باعتباره البنك الذى كان يقوم بمهام البنك المركزى فى فترة ما، بينما تم تقسيمه عام ١٩٦٠ لقسمين: قسم تجارى وهو البنك الأهلى المصرى، والقسم الذى خرج منه البنك المركزى.. فكان أقوى من بنك مصر، وسيظل أقوى بحكم تاريخه وأقدميته! بالإضافة لعمليات التطوير والتحديث التى خاضها البنك الأهلى، أكثر من بنك مصر.
ماذا عن دور بنك مصر فى الحد من الفقر؟
- فقال: هناك مثل روسى يقول: «أن يأتى الشىء متأخرا أفضل من ألا يأتى»! ومؤخرًا.. صدر قانون من البنك المركزى يلزم البنوك بالإقراض فى إطار مشروع الـ ٢٠٠ مليار جنيه.. وتخصيصها للمشروعات الصغيرة والمتوسطة الصناعية والزراعية، مع تقليص حجم تحويلهم للمشروعات التجارية، مع ضرورة تخفيف الضمانات المطلوبة، وإلا لن يقترض أحد! مع توفير تدريب العمالة والتوجيه للاستفادة من فرص القرض!
لكى يقوم بنك مصر بدوره فى مواجهة الفقر يستلزم الأمر تغيير سياسات التعليم، والاهتمام بالتصنيع، والتنمية الزراعية، وتحسين مدخلات السياحة، وتوسيع الطرق، ومعدات الرى، وإنتاج محطات الكهرباء.. فهذا هو الطريق الذى سلكته بعض الدول مثل الصين.
-  أختتم حوارى مع دكتور طه بالإشارة لأسلوب طلعت حرب فى استنفار واستلهام الروح الوطنية بالشخصية المصرية، لاستثمار المدخرات المخزونة والمعطلة للمشاركة فى تأسيس بنك مصر منذ ما يقرب من مائة عام، ونفس الاستنفار الذى قام به الرئيس السيسى لاستثمار الأموال المخزونة والمعطلة لبناء تفريعة قناة السويس منذ بضع سنوات.
فيقول: إن أى مشروع وطنى مثل بنك مصر أو السد العالى، أو توسيع قناة السويس هو فكرة ملهمة للمصريين الذين يعشقون وطنهم.. والذين على تنوعهم يلتفون حول أية فكرة وطنية ملهمة.. وفى الثلاث حالات كان هناك الرئيس صاحب العزيمة والإرادة على النجاح، مع ملاحظة أنه كان يجب التأكيد على ضرورة وجود تناسب بين الاستثمار الإنتاجى والاستثمار فى البنية الأساسية بمشروع توسيع القناة.•