السبت 11 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

يوم خاص جدًا

يوم خاص جدًا
يوم خاص جدًا


يوم لن نبالغ إن قلنا إنه يوم للسعادة والإحساس بالحرية. ذلك اليوم الذى يتنوع وفقا لمناسباته، ولكنه فى كل المناسبات يوم خاص جدًا . وتبقى خصوصيته فى رائحة الطفولة وذكرياتها  الحميمة التى قد تظل متوارية خلف ابتسامة خجلى، وهى  تتذكر ذلك المذاق الخاص جدا لحلوى تقترب مذاقها من الاحتراق، لتلتصق فى سقف الفم الذى يظل يتحرك طرفه الثعبانى حتى يتمكن منها، ويسقطها قابضًا عليها، يمتصها بلذة منتشيًا بذلك الطعم الفريد الذى لا مثيل له فى أية حلوى أخرى.

قبل احتراق السكر
إنها قطعة الحلوى التى كانت الأمهات تضعها فى أفواه أطفالهن وفى أفواه أطفال الجيران، حتى يرضخوا لمحاولات الأمهات لإبعادهم عن المنزل، وللذهاب للعب فى الشارع مع بقية الأطفال أو البقاء فى شقة أو بيت الخالة «أم فلان» مع بقية الأولاد حتى ينادين عليهم، ويفهم الأطفال سر هذا الرضا ويتمادون فى «الغلاسة» طمعًا فى قطعة حلوى أكبر أوفى قرش صاغ أيام كان موجودًا على قيد الحياة لشراء «أرواح» من عم «فلان» البقال، وقد ترضخ الأم حسب الظروف والأحوال .
ذلك اليوم  من كل شهر والذى لا أتصور أن طقوسه قد انقرضت، كان طقسًا فى الأحياء الشعبية وفى الريف. كان النساء أقارب وصديقات يتجمعن فى موعد معلوم بعد أن يغادر الرجال ويتم تسريب الأبناء تبدأ ما يطلقون عليه «الحفلة»، حيث تطبخ الحلوى من السكر والليمون، وتوضع مع الماء على النار بمقادير دقيقة ومدة محددة بلا زيادة أو نقصان . يوم تمارس النساء فيه أفراحهن البسيطة ويعشن حالة حرية أيضًا بسيطة .
تتصاعد رائحة  اقتراب السكر من الاحتراق تتسرب مخترقة النوافذ المغلقة حتى تصل لأبعد ما يمكن أن تحملها الرياح إلى من يسيل لعابه بتلك الرائحة ـ حلوى انتزاع الشعر اختراع مصرى قديم.
لا يقتصر اليوم على طبخ الحلوى «و نزع الشعر بل يقضى النساء اليوم وهن مرتديات قميصًا شفافًا خفيفًا ويسمعن الراديو ويغنين ويرقصن ويطلقن النكات «الخارجة» ويتحدثن عن علاقتهن الحميمة بأزواجهن ويأكلن الفاكهة وكل «ست» تحضر من الموجود. وينتهى الحفل بعودة النساء إلى بيوتهن فرحات منتشيات طازجات كأنهن الفاكهة لحظة قطافها.
 ليلة الجلوة
الماشطة هى كوافيرة الزمن الذى كان، خاصة فى الريف والأحياء الشعبية ووظيفتها قص الشعر وصبغه بالصبغة أو بالحناء وتصفيفه، وتستعين بها النساء الميسورات القادرات على دفع أجرها وهو ليس أجرًا معلومًا ومحددًا، لكنه يدفع حسب حالة المرأة الاقتصادية وأحيانًا فى الريف يكون الأجر عينيًا، كمية من الأرز أو الدقيق أو القمح، ويمكن أن يكون دجاجة أو زوج حمام.
والماشطة تقوم أيضًا بطبخ حلوى نزع الشعر وتزجيج الحواجب وأيًا كان مستوى العروس الاجتماعى، فالماشطة لابد أن تحضر ليلة « الجلوة» وهى ليلة الحنة التى تقوم فيها الماشطة بتجهيز العروسة   وإعدادها لليلة الدخلة، فبالإضافة لما سبق ذكره من وظائف الماشطة فهى تقوم ب«جلوة» العروسة أى دعك قدمى العروس بالحجر«الخفافى» وتنعيم الكعبين وتحميم العروس ودعك جسدها بزيوت عطرية.
طبعًا كانت هذه الليلة هى ليلة العروس وصديقاتها وقريباتها يغنين أغانى إباحية مثل «ياللى ع الترعة حود ع المالح، وسطى بيوجعنى «يأتى الرد بسؤال: من إيه ؟» تكون الإجابة فى الأغنية «من ليلة أمبارح»، وهكذا إلى آخر الأغنية المصحوبة بضحكات صاخبة صافية «تجلو الهم عن القلب  ويرقصن ويطلقن التعليقات عن الحدث الأكبر «ليلة الدخلة». هذه الليلة تشبه ليلة الحنة الحالية مع الفارق الكبير فى التكلفة.
خلطة زيت من عند العطار
ومن الماشطة إلى الكوافير رحلة طويلة قطعت فيها النساء مسافات من الحرملك إلى البرلمان، فقد اختفت مهنة الماشطة ولم تعد النساء يقمن حفلات « الحلوى الشهرية»، فقد ازدحمت الحياة بالمسئوليات والحواجز التى حجبت المودة والمحبة التى كانت، وارتبكت العقول بنعيق البوم الذى حرم الفرح على القلوب وأوشكت أن تختفى الضحكة من وجه الدنيا ،تلك الضحكة التى كانت تشق جدران البيوت فتشرق الشمس.
ولكن وكما هو معلوم بالضرورة من طباع الشعب المصرى بأنه شعب «مالوش» حل وليس له كتالوج ولا قطع غيار فإنه يخلق أفراحه التى تكون فى تصفيف الشعر وقضاء ساعة تجميل فى مركز أو محل كوافير.
وللكوافير حكاياته أيضًا وأيًا كان المستوى الاجتماعى والاقتصادى للمترددات على الكوافير وهو المستوى الذى يحدده المكان. أى أن محل فى الزمالك غير محل فى الوايلى  والمكان يفرض السعر. وهما معًا  يحددان مستوى الزبائن، والمستوى لا يعنى الكفاءة ولا جودة الخدمة، ففى الوايلى والسيدة زينب وحلوان صنايعية أيديهم تتلف فى الحرير.
 وأيًا كان فلا تختلف الحكايات إلا فى بعض تفاصيلها ولا تختلف الحالة والرغبة فى بضع ساعات خاصة بعيدًا عن ضغوط الحياة التى أثقلت كاهل النساء .
فالفضفضة من طقوس تلك الساعات التى تمنى المرأة فيها نفسها بالخروج جديدة وقلبها فرحان بجمال شعرها ووجهها. وحدود الفضفضة مرتبطة بقدرة الكوافير على الإنصات وتطييب الخاطر بكلام لطيف تغلب عليه المجاملة ويتحول فى هذه الحالة كرسى تصفيف الشعر لمكان للاسترخاء كأنه «شيزلونج» المعالج النفسى.
وطبعا لابد من مساحة كبيرة من الثقة فى الكوافير فهو مستودع أسرار البعض رغم أن هؤلاء البعض لا تتحدثن بعيدا عن بقية الجالسات فى المقاعد المجاورة والعاملات فى المحل اللاتى تتدخلن فى الحوار بالمشاركة والتعاطف والنصيحة والشكوى.
من الحكايات الطريفة التى وقعت لصديقة لى شابة لم تكن قد تجاوزت فى ذلك الوقت  الخامسة والعشرين من عمرها ولم تتجاوز خبرتها العملية الثلاثة أعوام، تعمل فى منظمة فى المهندسين واضطرتها دعوة لبرنامج تليفزيونى للذهاب لأقرب محل كوافير فى نفس الحى.
كانت المرة الأولى التى ستظهر فيها فى التليفزيون، وفى النهاية وبعد أن تغزلت فى جمالها الذى سيظهر على الشاشة وستفتخر به أمام خطيبها آنذاك، وهو بدوره سيفتخر بجمالها وطلتها على الشاشة أمام أهله، أفاقت على صوت المحاسب الجالس على تلك الآله التى تفتح بضغطة «زرار» وتبلع الفلوس وتغلق أى والله محاسب سمعت الرقم المطلوب ودارت الدنيا بها وأوشكت أن تبكى من القهر، فقد كان المبلغ المطلوب لمجرد عمل «سشوار لشعرها» مائة جنيه.
ترى هل تحكى هذه الحكاية الآن لابنتها التى بلغت عامها الخامس عشر؟ وربما تقول لها كما كانت تقول أمها: «كفاية كوافير شعرك حيقع حطى له حنة وخلطة الزيت اللى جبتها لك م العطار حيبقى زى الحرير». •