الخميس 22 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

فرصة أخيرة للإمبراطورية

فرصة أخيرة للإمبراطورية
فرصة أخيرة للإمبراطورية


لأى صراع مستوايات عند التعامل معه قد يكتفى البعض بالنظرة السريعة ويحيل الأمر إلى ماهو ظاهر أمامه من معطيات تكن درجة دقة النتيجة التى يصل إليها على قدر المستوى الذى تعامل معه.

يلزم عند التعامل مع الصراع امتلاك أدوات تحليل جيدة تسمح لنا بالولوج إلى أعماقه من أجل اكتشاف أسبابه المحركة وليست الظاهرة للعيان ويجب مع هذه الأدوات امتلاك مزيد من الخيال لرؤية ما هو غير متوقع وأيضًا مزيد من الصبر حتى لا يخدعنا الصراع ونظن بأننا وصلنا إلى هذه الأعماق ولكن الحقيقة أننا مازلنا على السطح.
مع كل يوم يأتى خبر ساخن عن صراع جديد شرس تدور أحداثه فى منطقتنا المثقلة بالصراعات القديمة ولا ينقصها ماهو جديد، أقصد هنا التصعيد الحادث بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، يبدوللوهلة الأولى أننا أمام صراع تقليدى معتاد تكررت نسخه سابقًا بين القوة العظمى الممثلة فى الولايات المتحدة ونظام الملالى العقائدى فى طهران.
رغم سخونة الأحداث والتصريحات المتراشقة بين القوة العظمى والعقائدين إلا أن أغلب المتابعين يشعرون بالملل بسبب توقعهم لنهاية الحدث.
يجزم أغلب المتابعين أننا أمام مناوشات تقليدية بين الولايات المتحدة وإيران غرضها الأول ابتزاز الولايات المتحدة للجزء الغنى من المنطقة فى الخليج وبيع أطنان من الأسلحة وأيضًا إحكام السيطرة على الموارد البترولية وبعد تحقق هذه الأغراض أو جزء منها سينتهى الأمر بعودة الأساطيل الأمريكية إلى موانئها ويبقى نظام الملالى يمارس عبثه المعتاد فى المنطقة من جديد.
أحال آخرون تصاعد المناوشات إلى ارتباطها بما تريد الولايات المتحدة طرحه على المنطقة تحت مسمى صفقة القرن من أجل تسوية القضية الفلسطينية، أراد هؤلاء إضفاء تجديد نوعًا ما على حدث تقليدى يرون نهايته كما السابقين فى عودة كل شيء إلى طبيعته عقب تمرير ما تراه الولايات المتحدة صالحًا لخدمة مصالحها ومصالح إسرائيل.
تبدو هذه الأسباب وجيهة وعلى درجة كبيرة من الاتزان عندما نحكم على الصراع الحادث بين واشنطن وطهران بأنه صراع تقليدى معتاد مللنا من تفاصيله التى تكررت سابقًا لتحقيق مكاسب عاجلة لكل من الطرفين المتصارعين
يمكن الرجوع للتاريخ القريب المرتبط بتصاعد الأمور فى المنطقة لنرى ماحصل عليه الطرفان من مكاسب على حساب العرب.
أتصور أن هذه النسخة من الصراع الأمريكى الإيرانى مختلفة عن سابقتها، بل أعتقد أنها جديدة بشكل كامل، يأتى الجديد هنا ليس بسبب اختلاف طرفى الصراع بل لاختلاف الظرف الذى يدور فيه والذى يأتى على فترات متباعدة فى المجتمع البشرى بل إن هذا الظرف هوالسبب الرئيسى فى تحرك الولايات المتحدة.
 الأكثر دهشة فى طبيعة هذه النسخة الجديدة أن الطرف الإيرانى فى الصراع ومعه ميليشياته المنتشرة فى المنطقة ماهم إلاهدف أولى، أما الهدف الرئيسى فهو أكبر وأضخم بكثير من إيران وعصاباتها.
يبدو بشكل كبيرأن ملالى إيران أدركوا تلك الحقيقة فمرشدهم يطلق تصريحاته المعتادة حول حرق أمريكا وإدخال العالم فى عصر الظلام بإغلاق مضيق هرمز، أما تحركات الإيرانيين على أرض الواقع فهى تحركات مرتعشة خائفة هدفها إرضاء الولايات المتحدة وإقناعها بالابتعاد عن أبواب طهران ولتذهب إلى أبواب مدينة أخرى تبدأ منها تحقيق غرضها الأكبر الذى رأت واشنطن أنه حانت لحظة تحقيقه وألا فات الأوان.
سيأتى هذا التحقق على حساب الشريك الفارسى القديم الذى قدم خدمات سرية لا تقدر بثمن إلى السيد الأمريكى ولن يشعر السيد الأمريكى بأى حزن على شريكه القديم ولن يحزن على ضياع ماصنعت يداه منذ العام 1979 فاليد الأمريكية هى من وضعت الملالى على عرش إيران ويعود لها الفضل فى تسييد كل الأيديولوجيات الدينية فى منطقتنا سواء فى حالتها التنظيمية كما الفاشيست الإخوان أوصناعة ممالك لها.
عندما نقرأ هذه العبارة سنبدأ فى فهم الظرف التاريخى الذى لا يتكرر كثيرًا وأعطى للصراع الأمريكى الإيرانى بعدًا آخر تمامًا يخرجه من إطار التقليدية والاعتياد ويحوله إلى مقدمة أحداث أكثر خطورة مرتبطة بالصراع الأساسى والحقيقى الذى خرجت الولايات المتحدة ترجو الانتصار فيه.
يطلق على هذه العبارة عنوان هو « فخ ثيوسيديديز» تقول العبارة (عندما تمثل قوةٌ صاعدةٌ تهديدًا لقوةٍ سائدةٍ تدق الأجراس منذرة الخطر قادم) قائل هذه العبارة هوالسياسى والمفكر اليونانى ثيوسيديديزالذى عاش فى القرن الخامس قبل الميلاد وكان يصف هنا صعود أثينا ضد أسبرطة فى بلاده المتوسطية
بالتأكيد ليس المقصود بالقوة الصاعدة فى عبارة ثيوسيديديز إيران بل المقصود هنا الصين والقوة السائدة هى الولايات المتحدة وهذا الظرف الذى لا يتكرر كثيرًا نسميه الصراع الأمبراطورى الدائر حاليًا بشراسة وعنف زائد عن الحد مقارنة بصراعات تاريخية مماثلة له حدثت سابقًا.
يعود هذا العنف إلى طبيعة القوتين السائدة والصاعدة لعل أقرب صراع من هذه النوعية اطلعنا عليه وعايشناه ومازالت بعض أثاره باقية كان الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى والذى انتهى باختفاء الاتحاد السوفيتى تمامًا.
رغم ما يحمله التاريخ من وقائع حول عنف الصراع الأمريكى السوفيتى إلا أنها لا تقارن بين ما يحدث الآن وماسيحدث بين الولايات المتحدة والصين يعود ذلك لأسباب، فالصراع بين الطرفين لم يكن متكافئا فى نواح كثيرة وخاصة على المستوى الاقتصادى التنموى، فالاتحاد السوفيتى كان مجرد طلاء لامع من الخارج وانهيار كامل من الداخل ولم يصل إلى درجة المنافسة الكاملة مع خصمه وتحديدًا قلب هذا الخصم أوالرأسمالية الحاكمة فى مركز الإمبراطورية...إنها قلب المفاعل النووى الذى يدير ماكينات الإمبراطورية الأمريكية العملاقة.
لم يتصارع السوفيت مع الأمريكان على الأسواق العالمية لبيع سلعهم التى تنتجها المصانع السوفيتية لأن المصانع السوفيتية لم تكن تنتج شيئا وإذ أنتجت فلا تجد من يشتريها فنحن لم نسمع مثلا طوال تاريخ الصراع أن الولايات المتحدة أصابها الفزع من غزو السلع السوفيتية إلى أسواقها وأسواق العالم.
لم يحدث إلا تنافس شبه حقيقى فى سوق السلاح وهو شبه حقيقى لأن المقارنة تقول إن مبيعات السلاح الأمريكى مازالت هى الأعلى بمراحل
افتقدت الإمبراطورية السوفيتية الغزو السلعى والتى يمكن وصفها بإمبراطورية نتيجة لاتساعها الجغرافى فقط وتقلص هذا الاتساع فى ساعات عقب إعلان اختفاء الاتحاد السوفيتى.
هذا الغزو السلعى هو أساس فكرة الإمبراطورية ووجودها وقلب الرأسمالية النابض فيها وهوالذى يحرك الأساطيل لحماية خطوط المواصلات البحرية والجيوش لحماية البرية منها وأجهزة المخابرات لوضع أنظمة والإطاحة بأخرى لأجل أن تتدفق سلع الإمبراطورية على العالم فى يسر وسهولة وتمتلئ خزائن المركز الرأسمالى بقلب الإمبراطورية.
نجد الأن العكس تمامًا فى الصراع الإمبراطورى الدائر بين القوة السائدة أمريكا والصاعدة الصين، تعانى الولايات المتحدة من الفزع والإرهاب نتيجة للغزو السلعى القادم إليها من الإمبراطورية الصاعدة..فالصين لا تصدر شعارات مثل السوفيت بل هى احتلت المنزل الأمريكى ومنازل العالم بسلعها ولم يعد أمام القوة السائدة سوى تحجيم هذا التدفق السلعى الصينى حتى تحافظ على سيادتها وهيمنتها
تواجه الإمبراطورية الأمريكية خصمًا صاعدًا أقوى ما فيه أن ما يحركه هو نفس القلب أوالمفاعل الرأسمالى الشرس ولكنه يقدم نموذجًا جديدًا منافسًا للنموذج الأمريكى.
يطرح علينا هذا الصراع سؤالًا بريئًا: لماذا لا تشارك الولايات المتحدة الصين فى تفوقها أو تحد قليلا الصين من طموحها الجامح ولا تثير فزع الأمريكان؟ لا يعرف الصراع الإمبراطورى الشراكة أو البراءة فهو صراع وجود.
القوة الصاعدة إما تسود وتتمكن من مفاصل العالم أو تندحر كل طموحاتها والقوة السائدة لا يمكن أن تتخلى عن هيمنتها لصالح أى قوة أخرى وإلا انزوت ثم اختفت.
تستشعر الولايات المتحدة القوة السائدة الآن إن صراع الوجود اشتعل وإنها لا تمتلك سوى فرصة أخيرة قبل سيطرة الصين القوة الصاعدة على مقدارات العالم.
 ستصبح الصين الاقتصاد الأول عالميًا فى العام 2030 وسيكون بناء نموذجها المنافس اكتمل إلى حد كبير على مستوى العالم عن طريق مبادرة الحزام والطريق التى تعمل عليها الصين بكل جد ودهاء.
قررت الولايات المتحدة وهى القوة السائدة استغلال فرصتها الأخيرة فى محاولة لتحجيم التنين الصينى الصاعد ولم تجد أمامها إلا الحل الكلاسيكى الرأسمالى أو الحرب، لن تذهب الولايات المتحدة بحلها الكلاسيكى إلى بكين فلم تحن لحظة المواجهة المباشرة بعد ولا يرغب فيها أحد.. لذلك ستبتعد عن المباشرة وتلتف بحربها عبر أبواب طهران.. لماذا لجأت الولايات المتحدة للحل الكلاسيكى ثم اختارت طهران؟ نترك الإجابة الى سطور قادمة.