الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

لغتنا الجميلة.. عندما نرفع المفعول به وننصب الفاعل ونعالج كسر المجرور

لغتنا الجميلة.. عندما نرفع المفعول به وننصب الفاعل ونعالج كسر المجرور
لغتنا الجميلة.. عندما نرفع المفعول به وننصب الفاعل ونعالج كسر المجرور


كتب: فؤاد أبو حجلة
لم يبق ما يتوحد فيه وعليه العرب غير اللغة، فلا موقف سياسيّا واحدًا تجمع عليه الدول، ولا سوقًا عربية مفتوحة للمنتج العربى،  ولا حدودَ مفتوحة أمام أبناء الأمة الذين يضطر الكثيرون منهم إلى ركوب البحر هربًا من الفقر وسعيًا وراء الرزق فى بلاد الآخرين أو الموت غرقًا فى رحلة اللجوء، ولا اتفاق على أى شىء بما فى ذلك موعد بداية ونهاية رمضان. لم يبق ما يَجمَع العرب ويُجمِعون عليه غير اللغة التى نتغنى بجمالها ثم نهينها ونعبث بقواعدها تحت شعار التحديث والعصرنة.

لغتنا لم تَعد جميلة فقط، بل هى الآن مهددة بالعَبث والاندثار أمام اللهجات المحكية والاختراق الإنجلو ساكسونى والفرانكفونى،  حتى أصبح لدينا لغة غريبة تُسَمى «العربيزى»، وهى خليط بين اللغتين العربية والإنجليزية، وتُستخدَم كثيرًا فى محادثات منصات التواصل الاجتماعى وفى الرسائل الهاتفية القصيرة.
لا اعتراض على الجهل باللغة وبقواعدها لدَى الناطقين بها من غير ذوى الاختصاص، لكنْ ما يثير الاستغراب حقّا هو الجهل باللغة لدَى كثيرين من العاملين بها؛ سواء فى التدريس أو فى الصحافة والإعلام حتى إن إجادة اللغة وفَهم قواعدها لم يعد شرطًا لممارسة المهنة.
زمان، أى قبل عقود، أعنى فى زمن ما قبل الإعلام الرقمى حين كانت للصحف هيبتها، كان تصنيف الصحفى وقياس تميزه يخضع لاعتبارات أخرى غير إجادته للغة؛ لأن هذا الأمْر كان بديهيّا، ولم يكن هناك من يغامر بالزعم بأنه صحفى وهو جاهل أو حتى ضعيف فى اللغة العربية.
كان شرط التميز هو ثقافة الصحفى وسعة اطلاعه على قضايا الكون، ومهارته فى الحوار، وقدرته على اشتقاق العناوين التى تجمع بين الجذب والإثارة والدقة فى آن واحد.
وكان فى كل صحيفة طاقم من المُدققين الذين ينحصر عملهم فى التأكد من سلامة اللغة فى أى خبر أو مقال قبل دفعه للنشر. ولم يكن ذلك تفرُّدًا عربيّا، بل إن كل صحافة العالم كانت تخضع لشرط الضبط اللغوى باعتبار هذا الضبط أساسًا فى العمل وقيمة كبيرة للمُنتَج الصحفى، وأذكر أن صحيفة «البرافدا» الروسية كانت تضع جائزة مالية ضخمة لمن يجد خطأ إملائيّا أو نحويّا فى أى موضوع فيها، وأذكر أيضًا أن أحدًا لم ينل هذه الجائزة طيلة عقود من صدور الصحيفة الروسية الأكبر والأشهر فى زمن الاتحاد السوفياتى.
تَغير الحال، وبدأت المطبوعات والصحف الورقية والإلكترونية تستخف باللغة بحُجة التركيز على السبق الصحفى وسرعة النشر، ولأن المحرر يعتمد على فطنة القارئ وقدرته على القراءة الصحيحة للنص المكتظ بالأخطاء.
ولو كان لدينا توثيق للأخطاء المنشورة لوجدنا نماذج مضحكة ومسيئة، كأن يفاخر كاتب- مثلًا- بأن مقالته تُنشَر فى الصحيفة «الأوسخ انتشارًا»، وهو يعنى الأوسع انتشارًا. أو أن تؤكد صحيفة كبيرة أنها أجرت آخر حوار مع الفقيد بعد موته! أو أن يكون المقال مكتوبًا بقدم فلان وليس بقلمه!
لا تختلف هذه العناوين بأخطائها عمّا نقرؤه مكتوبًا على صناديق سيارات النقل أحيانًا «مثل رضا الوالدين أهم من رضا أبوك وأمك»، أو إعلانات شركات الاتصالات التى تُصر على أنها تقدم «جزمة باقات» وليس حزمة باقات متميزة لمشتركيها.
ليس مطلوبًا من الصحفى أن يكون عالمًا فى اللغة، ولكن عليه قبل أن يقتحم هذا الكار أن يعرف أن اللغة هى أداته الأهم، وأن لها احترامها وهى تعكس جدية المطبوعة واحترامها لقارئها. لذا ينبغى أن يكون الصحفى ملمّا بالقواعد الأساسية فى اللغة، وألّا يكتب مثلما يحكى؛ لأنه بذلك يُضيّع الفَرق بين الفصحى واللهجة الدارجة.
ولا يجوز أن يصر صحفيونا على رفع المفعول به إشفاقًا عليه من النصب أو الكسر، كما لا يجوز نصب الفاعل رُغم إدراكنا المسبق بأن الفاعل فى أغلب الأحيان نصّاب. أمّا المجرور فليست مهمتنا أن نعالج كسره ونرفعه!.
قليل من الاهتمام باللغة يمنح الكثير من الجدية والاحترام للخبر أو المقالة. وهو الذى يُفرّق بين ما نكتب وما نحكيه فى لقاءات الشيشة فى المقاهى.
ولعل أحدًا ينتبه إلى خطورة التجاوز على اللغة فى الإعلام فينجز بحثًا أو دراسة يضعه بين يَدى المسئولين وأصحاب القرار.