الإثنين 20 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

«الأدب» الإنجليزى بدأ يتبخر

«الأدب» الإنجليزى بدأ يتبخر
«الأدب» الإنجليزى بدأ يتبخر


لمشهور عن الإنجليز أنهم يتمتعون بأدب جم وأخلاق رفيعة وتسرى بينهم روح وأخلاق «الجنتلمان» الذى يفتح الباب لتدخل السيدة قبله ويترك مقعده فى المترو أو الأوتوبيس لعجوز أو امرأة حامل..
كان هذا هو الاعتقاد السائد على مدَى عشرات وربما مئات السنين، وكان هذا السلوك مضرب المَثل حول العالم فيوصف مَن يتبعه من أبناء الجنسيات الأخرى بأنه يتمتع بـ «أدب إنجليزى».. ويطلق عليه بكل اللغات وصف «جنتلمان»..

 اوأقول «كان» لأن ملاحظاتى الشخصية تشير إلى أن هذا الأدب والأخلاق بدأ يتبخر الآن.. أو لنقُل إنه لم يعد ظاهرة عامة.. أو إنه أصبح «دقة قديمة» ربما بسبب تسارع الزمن والصراع اليومى واضطراب أحوال السياسة والاقتصاد وانتشار نماذج السلوك الوقح أو الأنانى، وربما أيضًا مع انتشار مشاعر الكراهية لدَى بعض فئات المجتمع البريطانى ضد فئات أخرى كالمسلمين والمهاجرين من شرق أوروبا..
وهذا الأسبوع ظهر لى أن انطباعاتى أو ملاحظاتى الشخصية، التى لم أكن متأكدًا منها 100 % هى ملاحظات صحيحة إلى حد ما، فقد اطلعتُ على دراسة أجريت عبر استطلاع لسلوك نحو 2000 رجُل إنجليزى من رُكاب المواصلات العامة عن موقف كل واحد منهم عندما يرى امرأة حاملًا تركب المترو أو الأوتوبيس بينما هو جالس.. هل يترك لها مقعده؟.. ويتصرف كـ «جنتلمان».. أمْ ينظر بعيدًا ويتجاهل الأمر تمامًا؟!
ماذا كانت الإجابات التى تلقاها من قاموا بالاستطلاع؟.. وكم كانت نسبة من تصرّفوا بـ «أدب إنجليزى» ومن لا يهمهم لا أدب ولا أى شىء؟
تدهور أخلاقى
كانت النتيجة المتوقعة هى 100 %، أى أن كل رجُل محترم «جنتلمان» حقيقى،  سيترك مقعده على الفور لأى امرأة حامل. لكن للأسف كشفت النتيجة الفعلية تدهور مستوى الأخلاق والأدب الإنجليزى بنسبة 40 %،، أى نحو النصف.. وهى نسبة مَن تجاهلوا الأمر ورفضوا ترك مقاعدهم لأى امرأة حامل.. ستة فقط من كل عشرة لايزالون يتمتعون بأخلاق الـ«جنتلمان» ورحّبوا بالتخلى عن مقاعدهم فى هذه الحالة.
واكتشف الباحثون أن الصراع على ركوب المواصلات خلال ساعات الذروة فى الصباح ذهابًا للعمل أو فى المساء عودة منه، والتزاحم والتنافس على الفوز بمقعد، جعل الكثيرين يتخلون عن آداب السلوك المعتادة فى زمن سابق، وأصبح هناك من يرون أنه ليست هناك ضرورة لإخلاء المقعد لمن تنتظر مولودًا..إلا إذا طلبت هى!.
أجرت البحث الاستطلاعى جمعية اسمها «ماما ميو» ضمن حملة بعنوان «أنا حامل» تشجع النساء الحوامل على ألا يخجلن من المبادرة بالطلب من أى راكب بأن يخلى مقعده لهن.
وضمن هذه الحملة أقدمت سيدة تُدعى «آنا وايتهاوس» هى سفيرة الحملة، على مغامرة طريفة؛ حيث ادعت أنها حامل وحشت فستانها بكمية مكوّرة من القماش بدت معها كامرأة فى الشهور الأخيرة من الحمل، وراحت تصعد إلى قطارات الأنفاق فى لندن لتختبر الأمر، وتكشف حقيقة الحال الذى هبط إليه مستوى الأدب الإنجليزى.
 ولأن «آنا»- 39 سنة- وهى أم لطفلين، تمتلك موقعًا «بلوج» باسمها على الإنترنت، فقد صحبت معها فى جولاتها على قطارات المترو، مصورًا كان يتخفّى ويلتقط لها الصور، التى نشرتها مع تقرير كتبته بنفسها عن هذه المغامرة، وجاء فيه أنها وجدت أربعة فقط من كل عشرة هم من لايزالون يتحلون بأخلاق «الجنتلمان» ويتطوعون بالتخلى عن مقاعدهم لها فور دخولها عربة المترو.. أى أن النسبة هبطت كثيرًا عمّا رصده الاستطلاع، فأصبحت معكوسة، فبدلًا من 60 %، هبطت إلى 40 %،، بما يعنى أن أقل من نصف الإنجليز هم فقط الذين يتمتعون بالأدب الإنجليزى!.
فأربعة فقط من العشرة الذين شاهدوها هم الذين تركوا لها مقاعدهم خلال جولتها، والخامس وافق على أن يترك لها مقعده بعد أن تجرأت وطلبت منه ذلك.
نقطة خطيرة
تضيف «آنا»: إن هذا الرجُل الخامس يمثل ما نسبته 20 %، فقط ممن وافقوا على التخلى عن مقاعدهم، وهذه نقطة خطيرة فى الأمر، فالمسألة هنا لم تعد «أدب إنجليزى» أو أخلاق «جنتلمان»، بل بحث عن الشهامة والمساندة الإنسانية، بحثت عنها «آنا» فلم تجدها إلا لدَى واحد فقط من بين عشرة رجال!.
تقول «آنا»: لقد شعرتُ بأن الناس فقدوا القدرة على الإحساس بالغير.. وأصبح كل واحد فى حال توحُّد واستغراق فى شئونه، أعماه عن الإحساس بما حوله.. لقد اضطررت لاستعراض حالتى كامرأة حامل فى شهورها الأخيرة، بالتنهد والتمسّح والطبطبة على بطنى المتضخم، ولم يحقق لى ذلك أى تجاوب أو رغبة فى المساعدة! مع العِلم بأن الاستطلاع الذى أجرى على 2000 من الركاب المنتظمين كشف عن أن واحدًا من كل أربعة لم يعط مقعده للمرأة الحامل؛ لأنها ربما لا تكون بالفعل «حامل»!.
وبيّن البحث أن مَن جرى استطلاعهم يعتقدون أنك غير ملزم بترك مقعدك لامرأة حامل، إلا إذا كان حملها ظاهرًا. وهذه النتيجة معاكسة لما حدث لـ«آنا»؛ حيث أبرزت حملها للجالسين ولم يبدِ أحدهم أى اهتمام.
وهى تقول: الحمل ليس مرضًا، إنه نوع من الضعف، وهذا ما شعرتُ به؛ خصوصًا فى فترات الزحام وفى الجو والقطار الدافئ أو شديد الحرارة والمغلق، فالوقوف طويلًا فى هذا الوضع مرهق ومثير للتوتر جسمانيّا وعقليّا، والقدرة على الحصول على مقعد لتجلس مستريحًا، فى هذه الحالة يمكن أن يُحدث فارقًا جوهريّا. وعلى أى حال فمن واقع خبرتى هذه وجدتُ أن الناس إما غارقين فى تليفوناتهم المحمولة بحيث لا يدرون بما يجرى حولهم، أو أنهم لن يتطوعوا بمقاعدهم لحامل مثلى،  ما لم يُدفعوا لذلك دفعًا..
 الغريب فى الأمر أن هيئة النقل العام فى لندن توفر منذ سنوات شارة معدنية «بادج» للمرأة الحامل من ركاب المواصلات تشبكها فى صدرها، مكتوب عليها «رجاء إخلاء مقعدك للحامل».. وكثيرات من الحوامل يرتدين هذه الشارة وكثيرًا ما تُترك لهن المقاعد على الفور.
صاحبة المغامرة تضيف: إننى أشجع أى إنسان يحتاج للجلوس فى المواصلات العامة أن يُعلق هذا «البادج» وينظر مباشرة فى عيون الركاب، فإذا لم يتحقق له المطلوب عليه ألا يعانى فى صمت، تقول له: أطلب مقعدًا.
اقتراح مفيد
وبالمناسبة؛ فقد تقدمت سيدة من المداومات على ركوب المواصلات العامة، باقتراح لهيئة النقل العام بتخصيص شارة أخرى توزع على الركاب من كبار السن أو المصابين بمتاعب صحية غير ظاهرة، ويحتاجون دائمًا للجلوس؛ حيث لا تسمح لهم حالتهم بالوقوف لمدد طويلة، ولا يملكون شجاعة تساعدهم على أن يطلبوا من الركاب التنازل لهم عن مقاعدهم، وتفهّمت الهيئة الأمر وأصدرت فعلًا «بادجات» تشير إلى أن من يضعها على صدره يعانى من ضعف جسمانى يتطلب الجلوس.
 وطبعًا توجد فى كل وسائل المواصلات البريطانية أماكن ومقاعد مخصصة لكبار السّن والنساء الحوامل ومَن تصطحب الأطفال الرضّع، وأيضًا ذوى الاحتياجات الخاصة ومستعملى المقاعد المتحركة..
ليس هذا فقط، بل إن سيارات النقل العام مجهزة بما يساعد كبار السن والمعوقين، فلدَى وقوف الأوتوبيس عند المحطة تجد السائق يضغط على زر يهبط معه الأوتوبيس إلى مستوى الرصيف مما يُمكّن كبار السن من الصعود والهبوط بسهولة ودون معاناة، وميزة أخرى للمقعدين، هى لسان يضغط السائق على زر أمامه فيبرز هذا اللسان المعدنى أمام الباب ويتحرك نحو الرصيف، مما يسهل للجالس على الكرسى المتحرك الصعود أو النزول من الأوتوبيس بسلام!.
ومع كل هذه التكنولوجيا والتسهيلات الحضارية، هبط مستوى الأدب والذوق فى بلاد الإنجليز!
ومن المؤشرات على تدهور الذوق والأدب الإنجليزى ما ينتشر من ملصقات رسمية وبيانات ولوحات موقّعة باسم عمدة لندن وهيئة النقل العام، داخل وسائل النقل المختلفة من أوتوبيسات وقطارات أنفاق، تدعو الركاب إلى مراعاة ظروف المسنين والحوامل ومساعدتهم، وعدم إزعاج بقية الركاب بالأصوات العالية الصادرة من الأجهزة الإلكترونية أو تليفونات الموبايل.. وأيضًا عدم تناول مأكولات ذات روائح قوية تضايق الركاب.. وطبعًا ممنوع التدخين وشُرب الخمور فى المواصلات العامة؟!
أى إنها دعوات لمراعاة الذوق العام والأدب الإنجليزى الذى بدأ يتبخر!