الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

من سيرة الملحمة

من سيرة الملحمة
من سيرة الملحمة


 هى حقّا معجزة إنسانية بكل المقاييس، ليست مجرد ممر مائى، هى القناة التى حفرها الفلاح المصرى بأظافره، الفلاح الذى انتزع من حضن أرضه السمراء ومن تحت سمائه الزرقاء ليضرب أول ضربة فأس، يسجل بها ملحمة  سيرة المعجزة. كان جلّاده يعرف قدرة  حفيد الفراعنة على خَلق المعجزة على الأرض التى جاء إليها مقيدًا فى أغلاله لا يملك من حطام الدنيا أكثر من «الهِدمة» التى فوق «بَدنه».

وبفأسه وعزم زنده حفر قناة السويس.
خلق لحظة تدفق ماء البحر إلى ماء البحر، لحظة تعانُق الماء بالماء، وامتزاج الخيال بالواقع، لحظة أتصور أن من عاشوها عاشوا دهشة زلزلت كياناتهم مع نظرة لعناق البحرين المدهش، وبعيدًا عن الخيال يسجل الواقع لنرى لُعاب المستعمرين فى أرجاء الأرض يسيل على قناتنا المحفورة بأظافر رجال مصر، الرجال الذين سالت دماؤهم فى مجراها قبل أن تجرى فيه قطرة مياه مالحة من البحرين.
وقف دليسبس منتصرًا فى تلك اللحظة يتطلع للعالم الذى حلم بالسيطرة عليه باسم بلاده «فرنسا»، ولكن كان يقف على الجانب الآخر القوَى المنافسة «الإمبراطورية الإنجليزية» التى أدركت أن الصمت يعنى ضياع سطوتها على واحد من أهم المواقع الجغرافية فى العالم، فهى مصر بلد الموقع الفريد فى عبقريته وخصوصيته، وقد أصبح أكثر أهمية بعد حفر قناة السويس، تلك الأهمية التى تعنى السيطرة على أسواق العالم.
كانت بريطانيا ضد مشروع حفر قناة السويس، إلّا أن القناة قد حُفرت، وربما وصل رئيس وزرائها فى ذلك الوقت «بنجامين دزرائيلى» صوت البواخر العابرة منها وإليها، وصوت البواخر يعنى نفوذ وسيطرة على مواقع ومنافذ التجارة فى المستعمرات البريطانية، وكان لا بُدَّ من التصرف الذى كان أولى خطواته إغراق الخديو إسماعيل فى الديون، مما اضطره لعرض أسهمه فى قناة السويس للبيع سنة 1875، لينتهز «دزرائيلى» الفرصة ووجد الثغرة التى ينفذ منها ليس للقناة فحسب ولكن لمصر وبالتالى للمنطقة وللعالم، وبمعونة المالى العتيد «روتشيلد» وبتيسيرات من الحكومة البريطانية تم شراء أسهم إسماعيل قى قناة السويس.
لتكتب عملية البيع جزءًا آخر فى سيرة القناة، ويتضح هذا الجزء الأكثر أهمية الذى سيترتب عليه ما سيحل بمصر فى قادم تلك الأيام، بذهاب «دزرائيلى» إلى مَلكة بريطانيا الملكة « فيكتوريا » بعد إتمام المؤامرة ويقول لها «الموضوع قد حُلَّ يا مولاتى، فهى لك الآن مصر وقناتها».
به ضعف لوطنه
ظلت  قناة السويس ساكنة فى عقول ووجدان أصحابها، لم ينسَ الأحفادُ دماءَ الأجداد التى روت أرضَها، لم يقبلوا أو يستسلموا ويستكينوا لوضع النهب ومص دماء وخيرات مصر وشعبها وقناتهم، ولم تتوقف ثورة غضب القوَى الوطنية ضد  إنجلترا وفرنسا دفاعًا عن مصرية القناة، وهنا نتوقف عند الجهد الذى قدّمه والدور الذى لعبه الدكتور «مصطفى الحفناوى»ـ (1911 -1980) قد يتبادر للأذهان فور ذِكر اسمه ذلك المشهد الشهير والجميل فى فيلم «ناصر 56» عندما تم اصطحابه بقوة من الجيش من مزرعته وهو بالبيجامة والروب للقاء جمال عبدالناصر، وكان اللقاء لوضع خطة تأميم قناة السويس، ووضع الإطار القانونى للتأميم، وقد قام «الحفناوى» بالإعداد القانونى للتأميم الذى أعلنه جمال عبدالناصر فى 56. وكان د.«الحفناوى» من المهمومين بوضع قناة السويس، فبحث فى الوثائق الفرنسية التى تؤكد حق مصر فى القناة وتفضح كل أشكال الاستغلال التى مورست على المصريين فى حفر القناة. قدّم رسالته للدكتوراه فى القانون الدولى لجامعة السوربون فى باريس مؤكدًا على الحق القانونى لمصر فى القناة.
ومن المواقف التى أتمنى أن يأتى يوم تُدَرَّسُ فيه سيرة هؤلاء العظماء فى المدارس، ففى مضبطة مناقشة رسالة الدكتور «الحفناوى» تم تسجيل الحوار التالى بين رئيس لجنة المناقشة البروفيسور «جلبيرت جودل» و«الحفناوى»:
البروفيسور: سوف تسمع مِنّى ما لا يرضيك، كيف استبحتَ لنفسك أن تنعت الفرنسى العظيم «فرديناند ديليسبس» بأوصاف لا تليق، وما ينبغى أن تدنس بها رسالتك الرائعة هذه، إننى أطالب بحذف تلك العبارات.
الحفناوى: إنى متمسك بها، وأنها ليست من صياغتى، وإنما وُردت فى أسباب الحُكم بالسجن خمس سنوات على ديليسبس فى قضية قناة بَنَما، وقد صدر هذا الحُكم من محكمة جنايات السين فى باريس.
البروفيسور: بى ضعف لهذا الفرنسى العظيم الذى لو أنصفت فرنسا لأقامت له تمثالًا فى كل ميناء، وبسبب ضعفى هذا أصر على رجائى إياك أن تحذف تلك النعوت.
الحفناوى: هل يسمح سيادة الرئيس لمواطن مصرى أن يكون به ضعف لوطنه المجنى عليه؟
دوت القاعة بالتصفيق فتراجع البروفيسور وقال «أنا فرنسى وأنت مصرى، ومَن يدرى ماذا كنتُ لأقول لو أننى مصرى؟».
وحصل الطالب مصطفى الحفناوى على الدكتوراه من السوربون عام 1951.
وايتمان يغنى للقناة
كتب الشعراء القصائد فى قناة السويس وتنوعت الكتابات من النقيض للنقيض، فمنها قصائد الإشادة والتحية لسواعد الرجال التى حفرتها ولدورها فى ربط العالم ببعضه البعض، ومنها قصائد الهجوم على مَن قرر إقامة المشروع وما صحبه ومن وقائع القهر والاستغلال والاستعباد.
ولكن من المدهش أو المفاجئ أن يكتب الشاعر الأمريكى  والت وايتمان (1809ـ 1892) عن قناة السويس قصيدة تنتمى لقصائد الإشادة وتتسم بالعاطفة الجياشة تجاه القناةـ من المعروف عن وايتمان اهتمامه بالشرق- تقول القصيدة:
 أغنى لأيامى.. وأغنى لإنجازات الزمن الحاضر.
وأغنى للشرق... ولقناة السويس.
وأغنى للعالم الجديد... بسككه الحديدية الجبارة.
التى تشق البر والبحر.... وأغنى للتجارة.
وأصيح بأعلى صوت يا أيتها الروح.
الماضى الماضى الماضى.
الماضى وذكرياته التى طواها النسيان.
والخليج المهجور والنيام والظلال.
الماضى.. عظمة الماضى التى بلا حدود.
وما الحاضر إلا ثمرة من ثمار الماضى.
نبض مصر
ويكتب عاشق مصر الدكتور جمال حمدان (1928-1993) عن قناة السويس فى كتابه العمدة «شخصية مصر.. دراسة فى عبقرية المكان»، فيقول: «لا شك أن القناة التى اختزلت كل موقع مصر الجغرافى والاستراتيجى، أوجوهره فى شريط مائى، حتى أصبح مرادفًا للقناة أو أوشك، لا شك أنها جددت شباب موقعنا، لكنها أصبحت بوابة ذهبية تجاريّا، فبالقناة لم يعد موقع مصر أخطر موقع استراتيجى فى العالم العربى وحده؛ وإنما فى العالم القديم برمته».
ولا يتوقف قلب العاشق عن النبض بعشقه فيؤكد فى كتابه « قناة السويس نبض مصر» الصادر فى عام 1975، مطالبًا بحلمه الذى تحقق بتوسيعها ويقول «إنها القلب النابض فى النظام العالمى».>