الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ملهمة الشعراء

ملهمة الشعراء
ملهمة الشعراء


كتب: شهدى محمد عطية


 فجّرت قناة السويس، ينابيع الفن المصرى، ولعل أهم حدث فنّى كان للقناة الفضل فى ظهوره، هو أوبرا «عايدة» التى كتبها الفرنسى ميريت باشا مدير الآثار المصرية، وصاغها شعرًا الشاعر الإيطالى أنطونيو جيالانزوى، ووضع موسيقاها الموسيقار الإيطالى جوزيبى فِردى عام 1869 فى الحفل الأسطورى الذى أقيم بدار الأوبرا الخديوية، التى منذ ظهورها حتى اليوم لاتزال تصدح فى أركان العالم بأنغامها مقترنة بذكرَى افتتاح القناة، وهذا هو خلود الفن وسحره.

لم ترتبط القناة بالفن الأوبرالى الكلاسيكى فحسب؛ ولكنها ارتبطت ارتباطا قويّا بالفنون الشعبية من أشعار وأغنيات فصحى وعامية وأزجال، وكذلك السمسية، للدرجة التى ذهب فيها البعض إلى أن فن السمسمية ازدهر أثناء حفر قناة السويس، حين كان العمال يلجأون إلى السمسمية فى المساء بعد يوم عمل مرهق لتخفف من مشقة الجهد المبذول فى الحفر وقسوة السُّخرة وآلام البُعد عن الأهل.
لذلك وجد هذا الفن فى مدن القناة أرضًا خصبة ومناخًا اجتماعيّا ملائمًا أواخر القرن التاسع عشر بسبب معاناة مدن القناة من الاحتلال البريطانى. وتتفق الروايات على أن أول من عزف السمسمية وغناها فى منطقة القناة الفنان السويسى «عبدالله كبربر»، ثم تتلمذ على يديه الفنان أحمد السواحلى، الذى نقلها بدوره إلى الفنان «أحمد فرج» لنَسَب بينهما، بعدها ذهب السواحلى إلى بورسعيد ونشر السمسمية هناك.
 وكانت السمسمية حساسة دائمًا تجاه الأحداث الوطنية، وفور إعلان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر لتأميم قناة السويس فى 1956 بادر المغنى الشعبى فى منطقة القناة منشدًا على سمسميته:
دا كنالنا وبحرنا ودا خيرنا وعزنا
واللى حفروه قبلنا أجدادنا وأهلنا
وهذه الأغنية من ألحان «حسن متولى»، وهو سائق ونش فى ميناء بور سعيد وكان أيضًا مالك مقهى «السبع حصون» بحى المناخ الذى كان ملتقى الفنانين والشعراء بداية من أحمد رامى وزكريا الحجاوى، والمطرب عبدالعزيز محمود، وشكوكو، وإسماعيل يس، وصولًا إلى جيل سيد الملاح، قبل أن يحترق المقهى والحى بأكمله فى العدوان الثلاثى.
وقد كان قرار جمال عبدالناصر بتأميم قناة السويس عام 1956 ملهمًا للفنانين شعرًا وغناءً وزجلًا ومسرحًا، فقد أصدرت دار الفكر التى تأسست عام 1955 بواسطة الشقيقين كمال وإبراهيم عبدالحليم سلسلة كُتب تحت عنوان « الفن فى المعركة»، وكان الديوان الأول من تلك السلسلة هو ديوان «موال عشان القنال» لصلاح جاهين، وهى ملحمة طويلة كتبها جاهين متأثرًا بقرار التأميم، وفيها يقول:
يـا ســـايـق الـغليــون
عـــدّى القنــال عـــدّى
وقبــل مـــا تــعــدّى
خــــد مــننـــا وادّى
ده اللـى فـحت بـحـر القنــال.. جـدى
بـحـر القنــال يــا كتـرهـا رمـالـه
وجـدنـا فــوق الـــكتـاف شــالــه
بـحـر الـقنـــال اتبـدلــت حــالــه
وجـدنــا مـتهنـــى بـــعيــالـه...
 «والنصرة عاملة فى الكنال زفة»
وكان صلاح جاهين واحدًا ممن دخلوا معركة التأليف، فقد ألّف نشيدين، الأول لتغنيه أم كلثوم «والله زمان ياسلاحى..اشتقت لك فى كفاحى»، والثانى لنجاة الصغيرة وألحان كمال الطويل:
الجنة هى بلادنا/ وجهنم هى حدودنا/ اللى يخطيها/ راح يهلك فيها/ ويشوف الموت/ على أيدينا.
والعجيب أن النشيدين كُتبا فى ظلام الغارات أثناء المعركة ولُحّنا فى ظلامها أيضًا، وكانت بروفات الغناء أيضًا فى الظلام نفسه، وكتب جاهين بمناسبة انسحاب المرشِدِين الأجانب من إدارة القناة بعد تأميمها «محلاك يامصرى»، ولحنها محمد الموجى وغنتها أم كلثوم سنة 1957، وتقول كلماتها:
محلاك يا مصرى وأنت ع الدفة
والنصرة عاملة فى الكنال زفة
يا أولاد بلدنا تعالوا ع الضفة
شاورولهم.. غنولهم وقولولهم
ريسنا قال مافيش محال..راح الدَّخيل وابن البلد كفى
وكذلك كتب فؤاد حداد ديوانه «حنبنى السد» بعد خروجه من المعتقل عام 1956، وقد صمم غلافه صلاح جاهين وكتب عنه صلاح جاهين قائلًا «عندما أعلن جمال عبدالناصر تأميم قناة السويس هذا الصيف، انطلقت جموع الشعب فى مهرجان مرح مبتهج تحتفل بهذا القرار التاريخى، وسرعان ما انبعثت من قلب الجماهير صيحة منغمة لخّصت كل فرحة بالتأميم، فكانت هتافًا زأرت به الحشود، وغنته راقصة زاحفة فى مسيرها العنيد نحو الهدف، قالت الجماهير:
 (بفلوسنا حلالنا حنبنى السد.. حنبنى السد)، فكانت صيحتها نشيدًا لا نعرف قائله ولا ملحنه، ولكنه نشيد الساعة، والمُعبر الصريح عن عواطف الناس»، ثم يضيف جاهين: «اختار الشاعر الشعبى فؤاد حداد هذا الشعار (حنبنى السد) عنوانًا لمجموعة من قصائده الشعبية الرائعة التى ظهرت أخيرًا، وإذا قيل بأن الكِتاب يُعرَف من عنوانه؛ فإن هذه المجموعة الشعرية لا بُدَّ أن تُعرف طبيعتها من هذا العنوان، إنها مجموعة من القصائد تُعبر عن ضمير الشعب المصرى ووجهة نظره ومطالبه، وتعكس فرحته الغامرة التى فاقت كل فرحة تعيها الذاكرة».
وتستمر قناة السويس ملهمة للشعراء، فيصدر الشاعر كيلانى حسن سند مجموعة قصائد شعرية تحت عنوان «قصائد من القنال»، وتمتاز هذه القصائد بالحماس الوطنى العارم. وقد انتقل سحر القناة وإلهامها حتى إلى بيروت، وفى أثناء انعقاد مؤتمر لندن وبينما كان رئيس المجلس النيابى فى لبنان يلقى خطابه وصلت إلى ساحة البرلمان مجموعة كبيرة من المتظاهرين يقودهم المطرب اللبنانى محمد سلمان وهو يحمل صورة جمال عبدالناصر ويردد نشيدًا عاميّا تردده خلفه جموع الجماهير يقول فيه:
عبدالناصر يا جمال.. بتعطى للعالم أمثال
قالوا السد العالى زال.. قال لهم أممنا القنال!
مهر العروسة
وقدّمت الإذاعة الصور تابلوهات غنائية ودرامية، ومن أشهر الصور التى تناولت قناة السويس «قصة القنال» شِعر مرسى جميل عزيز وألحان أحمد صدقى، ومن غناء محمد قنديل، وسيد إسماعيل، وحورية حسن، وعصمت عبدالعليم، وفى أحد مقاطع هذه الصورة يقول محمد قنديل: «افتح باب القنال باب الرزق الحلال.. عبّى وشيل وشيل وعبّى وشيل..أوعَى تقول الحِمل تقيل..دُق الصخر وشُق البحر وخلى جناين العز تسيل».
كما أنشأ الفنانون التشكيليون ورسامو الكاريكاتير معارض متجولة فى أحياء القاهرة، وكذلك المسرحيات، فقد بدأ المسرح الشعبى نشاطا واسعًا فى الأزبكية ولم تكن قناة السويس بعيدة عنه، فقد ابتكر المخرج أحمد حلمى والكاتب محمد سليمان مسرحية عام 1956 وكان المنظر الخلفى للمسرح عبارة عن كتاب مفتوح يرمز للتاريخ وعلى صفحاته أحداث مصر تظهر بواسطة أشخاص يمرّون خلف  الصفحات، وفى إحداها جندى تركى يمسك كرباجًا غليظا ويقول لفلاح مصرى بلهجة متعالية:
- ياللا فلاح احفر كنال
- أنا عيان
- موش مهم قوم فلاح
- طب استنى للصبح لمّا أروح أشوف أبويا والـ....
- موش مهم احفر فلاح
- موش مهم ازاى ممكن أموت
- أُمّال مين يحفر كنال؟
ويهوى التركى بالكرباج الغليظ على ظهر الفلاح.. ويمر الزمن وينتفض الشعب والجيش بالثورة ويضج المسرح بالنشيد:
سبحانه رجع حقنا
ومصر دى صبحت لنا
يا سعدنا يا فرحنا
مبروك علينا يا قنال
 وفى 27مايو 1961 نشرت جريدة الجمهورية الفصل الأول من أوبريت «مهر العروسة» الذى كتبه عبدالرحمن الخميسى عن تأميم القناة، وقدمت له الصحيفة بنشر صورتى الخميسى والموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب وقالت: «إن وزارة الثقافة عهدت إلى محمد عبدالوهاب بتلحين الأوبريت، وإن عبدالوهاب انتهى بالفعل من تلحين ثلاثة مواقف غنائية فى الفصل الأول».
 واعتبرت جريدة الجمهورية أن هذا هو أول أوبريت معاصر فى تاريخ مصر الحديث، لكن عبدالوهاب توقف ثم طلب مهلة أربعة شهور للانتهاء من الموسيقى، ثم ثلاثة شهور أخرى، ثم توقف فقام بليغ حمدى بتلحينها، وفى حينه حشدت للأوبريت أكبر إمكانيات، فقام عبدالحليم نويرة بوضع الإعداد الهارمونى لها، وقام أندريا رايدر بالتوزيع الأوركسترالى، وصمم الديكور سيف وانلى، وصممت الرقصات نيللى مظلوم، وكانت رتيبة الحفنى مدربة الكورال، وأخرجها سعد أردش، وظلت «مهر العروسة» الأوبريت الوحيد الذى تناول تأميم القناة.
وفيما بعد لم يتوقف سِحر القناة بإلقاء ظلاله على الشعراء طيلة تاريخها المجيد من جاهين للأبنودى ومصطفى الضمرانى وفؤاد حداد وعبدالوهاب محمد، وظل تأميم القناة واستعادتها عاملًا حيّا لا ينقطع إلهامه للفن والفنانين، لتبقَى الأغنيات والقصائد تسجل فرحة مصر وشعبها بالحدث التاريخى.