الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

تمثال الحرية كان منحوتًا لقناة السويس!

تمثال الحرية  كان منحوتًا لقناة السويس!
تمثال الحرية كان منحوتًا لقناة السويس!


كتب: أحمد الخميسى
 
 بفضل شق قناة السويس تم بناء دار الأوبرا المصرية، وبرزت «أوبرا عايدة»، وقد لا يعلم البعض أنه بفضل القناة أيضًا تم إعداد تمثال الحرية الأمريكى الشهير الذى يزين مدخل نيويورك، لأنه كان مُعدّا فى الأساس ليوضع فى مدخل قناة السويس!

فى حينه استولى على الخديو إسماعيل-  وهو الذى درس فى باريس- حلمٌ قوىٌّ بأن يجعل من مصر «باريس الشرق»، وأن يراها لؤلؤة مشعة بكل مظاهر الحضارة، وسيطر عليه ذلك الحلم إلى درجة جعلته «يغامر بعرشه» كما يقول عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «عصر إسماعيل»، فعُزل فيما بعد ونُفى وقضى ما تبقّى من حياته وحيدًا فى قصر بتركيا حتى توفى وعاد جثمانه إلى مصر ليدفن فى مسجد الرفاعى.
فى إطار حلمه الكبير أنشأ الخديو إسماعيل أولًا مسرح الكوميدى بالأزبكية واحتفل بافتتاحه فى 4يناير 1868، ثم بنى دار الأوبرا بعدها بعام. ويَذكر المؤرخ عبدالرحمن الرافعى أنه تم بناء الدار فى خمسة أشهر فقط، وبلغت تكاليفها مئة وستين ألف جنيه، و: «جلبت لها الحكومة الجوقات الأجنبية وأغدقت الأموال والهبات عليها، فبلغ ما صرف على أفراد إحدى الجوقات فى شتاء سنة من سِنِى إسماعيل 120 ألف جنيه، ولا غرابة فى ذلك فإن الممثلة الواحدة كانت تأخذ أحيانًا ألف ومائة جنيه فى الشهر»!
وكان فى خطة الخديوى أن تبدأ دار الأوبرا بعرض مصرى احتفالًا بافتتاح قناة السويس، فكلف مسيو «أوجست ميريت» (1821- 1881) عالم المصريات الفرنسى بكتابة قصة تصلح لذلك، وكان مسيو «ميريت» موفدًا من الحكومة الفرنسية لدراسة الآثار المصرية،  لكن عشقه لمصر جعله يقيم فيها بصفة دائمة، فأنشأ أول متحف مصرى،وتقديرًا لخدماته الجليلة حاز على لقب «باشا».
المهم أن «ميريت» كتب قصة للأوبرا استلهم أحداثها من تاريخ مصر بعنوان «آييدا» أصبح «عايدة» فيما بعد، وهو اسم أميرة إثيوبية. وتصور القصة انتصار الجيش المصرى على الأحباش والغرام الذى نشب بين «آييدا» الأسيرة الحبشية و«راداميش» قائد الجيش المصرى، وانتهاء ذلك الغرام بقرار الكهنة إعدام القائد لتورطه مع «آييدا» فى محاولة الهروب.
وعندما أصبحت القصة جاهزة كلف الخديو إسماعيل الموسيقار الإيطالى فيردى (1813-1901). بوضع موسيقى الأوبرا خصيصًا لافتتاح القناة، وكان فيردى طمّاعًا فأصَرّ فى التعاقد مع ممثلى الخديوى على استلام مكافأته عن التأليف وقدرها مئة وخمسون ألف فرنك سبائك من ذهب خالص،  وكان له ما أراد !
وتولى صياغة القصة شِعرًا غنائيّا الشاعر الإيطالى أنطونيو جيالانزوى، وكان صديقًا لفيردى. لكن وعكة صحية ألمّت بالموسيقار الإيطالى عطلته عن تقديم «عايدة» فى موعدها، فتم افتتاح الدار بأوبرا «ريجوليتو»، وهى من تأليف فيردى أيضًا ومأخوذة عن قصة الملك يلهو لفيكتور هوجو.
وأحاطت بحفل افتتاح القناة أساطير وحكايات عن المال والهدايا والملوك والزهو الذى أحسّه الخديو إسماعيل وهو يرى أنه أصبح فى مركز اهتمام العالم  يحس البهجة وهو جالس بجوار «أوجينى» إمبراطورة فرنسا الرائعة الجَمال، وبجوار فرانسوا جوزيف إمبراطور النمسا، والأمير فريدريك ولهلم ولى عهد بروسيا، وبالطبع مسيو فرديناند دى ليسبس صاحب امتياز القناة، والجنرال إجناتييف سفير روسيا فى الآستانة وعقيلته، بل بحضور أسطورة النضال الأمير عبد القادر الجزائرى!
وعرضت أوبرا عايدة، التى خلدت اسم فرديناند من بين أعماله كلها بعد ذلك بعامَين فى ديسمبر عام 1871،  واستدعَى الخديوى لأجلها مشاهير المغنين والمغنيات من أوروبا وأمر بصنع الملابس والمناظر فى باريس، وكانت البطلة الثانية فى العمل ترتدى إكليلًا من الذهب الخالص! بينما تسلّح القائد راداميش بأسلحة من الفضة النقية وتناقل مراسلو الصحف الأوربية أنباء العرض،  فأحدثت أثرًا مدويّا فى أوروبا.
التمثال الأصلى.. فلاحة مصرية
 بعد الاحتفال بافتتاح قناة السويس فى نوفمبر 1869، عادت الإمبراطورة «أوجينى» إلى فرنسا مبهورة بكرم الخديو إسماعيل ولطف أخلاقه معها، وأرادت- وقد غمرها الامتنان- أن ترد للخديو إسماعيل بعضًا من أفضاله، فكلفت النحات الفرنسى فريدريك بارتولدى بأن يصنع تمثالًا ليوضع فى مدخل قناة السويس، يمثل فلاحة مصرية بغطاء رأس فرعونى وقد رفعت ذراعها تحمل شعلة الحرية.
 وانتهى النحات من عمل التمثال وسُمى «مصر تنير آسيا»، لكن الحرب نشبت بين فرنسا وبروسيا فعطلت وصول التمثال إلى مصر! وانتهزت «رابطة الصداقة الفرنسية- الأمريكية» الفرصة وطلبت من النحات أن يُدخل بعض التعديلات على التمثال لإرساله إلى أمريكا مادام أنه لن يصل لمصر فى كل الأحوال!
وبالفعل أدخل فريدريك بارتولدى بعض التعديلات على التمثال فأضاف زيادة إلى طوله، ونقل الشعلة من يد إلى أخرى، وغيّر الرداء بحيث لا يشبه أردية المصريات، وتم إرسال التمثال إلى أمريكا ليستقر فى مدخل نيويورك مُطلاً على المحيط الأطلنطى ليشتهر فى العالم كله باسم «تمثال الحرية». 
هكذا تحرك موج القناة ينتقل بالفن إلى فردى فى إيطاليا وإلى تمثال المحيط الأطلنطى بتمثال الحرية.