الإثنين 20 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أربعة مشاهد لا يدرسها الطلاب عن القناة

أربعة مشاهد لا يدرسها الطلاب عن القناة
أربعة مشاهد لا يدرسها الطلاب عن القناة


د. إيلاريه عاطف زكى
 
الحفاظ على مكتسبات الماضى والتعلم من دروسه من أجل المستقبل، هو أهم أهداف تدريس التاريخ فى مدارسنا، ولهذا يجب علينا أن نعيد النظر فى  طريقة تناول مناهجنا لمشروع قناة السويس، خاصة محتوى كتب التاريخ، ليرى أبناؤنا الماضى بعيون مختلفة  ووجهات نظر متنوعة، ويركز المعلم على تنمية مهارات التفكير الناقد والإبداعى لدى طلابنا، ليصبحوا أصحاب فكر حر، وليسوا قوالب نشكلها كما نريد.

تتناول مناهجنا المدرسية من الصف الرابع الابتدائى حتى الصف الثالث الثانوى،  قناة السويس، باعتبارها مشروعا حوَل مصر من «دولة لها تاريخ» إلى «دولة لها تاريخ وجغرافيا» تؤثر فى العالم ويتأثر العالم بها، لكن طريقة عرض المعلومات التاريخية وأيضا طريقة تدريسها تحتاج إلى إعادة نظر، نجملها فى المشاهد التالية.
المشهد الأول: الفكرة
المفروض أن تعرض فكرة «قناة السويس» كمشروع قومى وتطورها على مر العصور، من الملك سنوسرت الثالث حتى محاولات فرنسا لدراسة حفر قناة تربط بين البحرين الأحمر والمتوسط فى أثناء الحملة الفرنسية على مصر، وأن خطأ فى الحسابات حال دون تنفيذ المشروع، وبعد دراسات عدة أثبتت أن منسوب مياه البحرين متساوٍ، أعيد عرض المشروع على محمد على باشا، فأصر على أن يكون تمويل المشروع بميزانية مصرية خالصة، وأن تكون القناه على الحياد، فرفضت فرنسا وظل المشروع معلقاً فى أذهان فرنسا حتى تقلد حكم مصر سعيد باشا فانتهر المهندس الفرنسى «دى لسيبس» فرصة تقلد صديقه حكم مصر وعرض المشروع عليه فوافق سعيد على امتياز المشروع.. بطريقة العرض هذه، يدرك أبناؤنا أن المشروع والفكرة مصرية ولكن تطورت بتطور الحضارات وانتقلت من حضارة إلى حضارة تبعاً للحضارة الأكثر قوة والأكثر تأثيراً.. وسيستنتج الطالب بنفسه: أنه عندما كانت مصر قوية ومؤثرة فى العالم ببراعة شعبها وتميز موقعها، أصبحت درة العالم بحفر القناة فى عصر الأسرة الثانية عشر، عندما حفرت قناه سيزوستريس، وعندما ضعفت مصر فى ظل السيادة العثمانية، وبمجىء الحملة الفرنسية أصبحت مصر أداة فى يد الأكثر حضارة والأكثر إبداعاً، فتم توقيع عقد امتياز شركة قناة السويس فى عهد سعيد باشا، بشروط مجحفة لمصر والمصريين، ليتوقف الطالب أم المعلومة التاريخية بعقلية ناقدة محللة للحدث.
المشهد الثانى: الحفر
علينا عرض مشهد الحفر فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر بموضوعية ومن رؤى مختلفة، فعلى سبيل المثال تحكى صفحات التاريخ عن قصص المصريين الذين دفعوا ثمناً فادحاً من دمائهم وحياتهم فى حفر القناة، مئات الآلاف يساقون بالعنف من قراهم، تاركين حقولاً ودياراً وأسراً تبكى فقدان عائلها ليتساقطوا قتلى بأعداد لا تحصى.. أما عن رؤية المشهد من زوايا أخرى فنجد أن (أوليفين) كبير المهندسين الفرنسيين الذى شارك فى حفر القناة قال: «كان العمال المصريون يخوضون فى الماء والطين السائل الذى ينساب ويغمر أجسامهم فى حين رءوسهم فى جحيم الشمس وأبدانهم فى عذاب السخرة والألم والجوع والبؤس والأوبئة، العمال المصريون الذين يعملون وهم غائصون بكل أجسامهم فى الماء ولا يحمى رؤسهم سوى السماء، بلغوا أكثر من مليون ونصف مليون عامل مصرى وكلهم مدهشون حقاً كلهم ذوو صبر وجلد عظيمين، لقد عرفتهم عن قرب وأحسست أنهم أبناء شعب عريق».. كيف لا يدرس طلابنا هذه الزاوية لمشهد الحفر فى مناهجنا؟، ليتعلموا مدى تحمل المصرى الألم والجوع والسخرة والظلم من أجل حفر القناة، ويتمرنوا على دراسة التاريخ من أكثر من وجهة نظر، وليس وجهة نظر مصر فقط، من خلال النظر فى الوثائق العالمية التى تحدثت عن افتتاح القناة فى عهد الخديو إسماعيل، وكيف كان الحفل أسطوريًِا، وتحدث عن القناة شعوب العالم وكيف لفتت القناة أنظار العالم إلينا، وكيف كان يمكن لمصر أن تستفيد من هذا الحدث فى مجالات عدة كالاقتصاد، ولكن الاستعمار حال دون ذلك.
 المشهد الثالث: الافتتاح
أقيمت ثلاث منصات مكسوة بالحرير لكبار الملوك والأمراء، ورجال الدين الإسلامى، ورجال الدين المسيحى،  وحضرت الاحتفال أوجينى إمبراطورة فرنسا وفرنسوا جوزيف إمبراطور النمسا وملك المجر وولى عهد بروسيا والأمير هنرى شقيق ملك هولندا وسفيرا بريطانيا وروسيا بالأستانة، والأمير محمد توفيق ولى العهد والأمير طوسون نجل محمد سعيد باشا وشريف باشا ونوبار باشا والأمير عبدالقادر الجزائرى. وقد كان احتفالاً غير مسبوق، حتى أنه قيل أن الإمبراطورة أوجينى أرسلت إلى زوجها نابليون الثالث تصف له ما شهدته معبرة عن ذلك بأن الاحتفال كان فخماً وأنها لم تر مثله فى حياتها.. عند عرض هذا المشهد  نهدف  نحن  كصناع للمناهج للتركيز على كيف كان الاحتفال أسطوريا، وبحضور ملوك وأمراء العالم، ورأى العالم  فى الحدث التاريخى العظيم، وكيف تشهد فترة حكم الخديو إسماعيل على وحدة وطنية ظهرت بحضور رموز الدين الإسلامى والمسيحى فى مشهد واحد، وكيف ظهرت رموز عربية فى الحفل متمثلة فى شخصية الأمير عبدالقادر الجزائرى.. أين مناهجنا من هذا المشهد وتلك الأهداف؟.. زاوية أخرى مهمة لمشهد الافتتاح، عندما انتشر المصريون من فلاحين ونوبيين وعربان بأسرهم على خط القناة مرتدين ملابسهم التقليدية، واصطف الجيش والأسطول المصرى فى ميناء بورسعيد على ضفاف القناة، ما أضفى مهابة وروعة على الاحتفال، وهو المشهد الذى يصور عمق التماسك المجتمعى وملحمة الوحدة فى مصر بمشاركة الفلاحين والنوبيين والعربان للجيش، وهو الدور الذى كان له أثر كبير فى تماسك هذا المجتمع عبر التاريخ..  بينما  اقتصر مشهد الافتتاح فى مناهجنا على حضور ملوك وأمراء العالم وبذخ إسماعيل فى الحفل، هذا هو نصف الكوب والنظر من زاوية واحدة للحدث، فيصبح طلابنا أحادى النظرة ونظرتهم مقتصرة على وجهة نظر واحدة، فى الغالب تكون وجهة نظر صناع المناهج.
المشهد الرابع: أزمة تمثال الفلاحة وتمثال الحرية
مع افتتاح قناه السويس حضر إلى مصر المثال الفرنسى «فريديريك أوغست بارتولدى» فى 1869 م مع تمثال لفلاحة مصرية تحمل جرة ترمز إلى زاد الخير من عسل أو جبن أو زيتون منذ زمن المصرى القديم، ترمز إلى الزاد الحديث للخير فى مصر الحديثة بافتتاح قناة السويس.. لكن الخديو إسماعيل لم يستطع تدبير تكلفة التمثال وقاعدته وملحقاتها، فقد كانت خزينة البلاد خاوية بسبب ما دفع لحفر القناة وحفل افتتاحها، فما كان من المثال الفرنسى إلا أن قام بتقديم التمثال هدية إلى الولايات المتحدة بمناسبة مئويتها الأولى على استقلالها، ولكن  الأمريكان أخذوا التمثال وغيروا فى هويته ليصبح فتاة تحررت من قيود الاستبداد وألقتها عند قدميها حاملة بيديها مشعلا وباليد الأخرى كتاباً نقش عليه تاريخ (الرابع من يوليو) تذكاراً لإعلان استقلال أمريكا، وعلى رأسها أكليل صنعه أيضا المثال الفرنسى ليصير ذلك التمثال هو تمثال الحرية، أشهر معالم أمريكا ويحل محل تمثال الفلاحة المصرية،  تمثال دى لسيبس بتكلفة أقل ليوضع عند مدخل قناة السويس، لتضيع الهوية ويطمس التاريخ.. هذا المشهد لا يدرسه طلابنا فى مناهج التاريخ.