الخميس 2 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

العودة إلى الحياة

العودة إلى الحياة
العودة إلى الحياة


ريشة الفنانة: نشوى الحناوى
دروس وحكم الحياة لا نتعلمها على الورق، بل تترك بصمات غائرة فى أعماقنا لا تمحوها الساعات والأيام كما أننا نتلقى فى لحظات فاصلة فى رحلتنا الحياتية رسائل إلهية لتقوى إيماننا وتؤكد لنا أننا أضعف من جناح بعوضة وأنه لولا العناية الإلهية لكنا هباءً منثورا.
عشنا فى المغرب خمس سنوات، وحقيقة الأمر أن المغرب من أجمل الدول التى تركت أثرًا جميلا فى نفسى وفى نفس أسرتى، فهى تتمتع بطبيعة خلابة تجمع بين الجبال الخضراء والغابات والبحار، شعبها شعب عاشق لمصر والمصريين، وكانوا عندما يسمعون لهجتنا المصرية يستوقفوننا فى الطريق ليطلبوا منا إرسال تحياتهم لحسين فهمى وسعاد حسنى وميرفت أمين.. وأينما حللنا يصدح صوت أم كلثوم وعبدالحليم وأسمهان ليملأوا أركان المكان بهجة وحنينًا إلى الوطن.. أما المطبخ المغربى فحدث ولا حرج من أشهى المطابخ التى يمكن لك تذوقها فى حياتك.. وكان من أهم مميزات المغرب أنك تستطيع زيارة أوروبا من خلال السيارة، وهذا ما كنا نقوم به فى إجازة الصيف، كنا نتوجه بالسيارة إلى مدينة سبتة المغربية المحتلة من إسبانيا لنستقل معدية تقلنا إلى مدينة مالاجا الإسبانية ومن هناك ننطلق بالسيارة لنستمتع بإجازة الصيف.. وفى إحدى المرات قررنا قضاء الإجازة كما تعودنا لكننا قررنا أن نقضى الليلة فى المدينة الساحلية طنجة.. وفعلا أمضينا يوما كاملا فى طنجة واستيقظنا فى السادسة صباحا لنلحق بالمعدية التى ستقلنا إلى إسبانيا.. وانطلقنا بالسيارة وبما أن الوقت كان مبكرًا، فكان بعض الضباب يغلف الجو، وكان والدى عادة يستعين بخريطة ليستوضح الطريق، لا أدرى ماذا حدث تحديدًا هذه المرة، لكننا وجدنا الضباب يزداد كثافة وكلما تقدمنا فى الطريق ازداد الضباب كثافة وسمكًا حتى بتنا لا نستطيع تمييز كف اليد إذا أخرجناها من النافذة، قرر والدى أن يتوقف ويترجل من السيارة ليحدد موقعنا، فإذا به يفاجأ وهو يفتح باب السيارة أننا على حافة جبل، ضاق بنا الطريق دون أن نشعر حتى أصبحت إطارات السيارة تلامس حافة الجبل، وإذا نظرنا إلى الأسفل لا نرى نهاية، ولا نميز طريقًا ولا نلمح طيف بشر.. عدل أبى بالطبع عن فكرة الترجل من السيارة فلا مجال لموضع قدم، وحبس الجميع أنفاسه لا نعلم كيف المخرج من هذا اليم، وما هو المصير الذى ينتظرنا.. طلب أبى منا جميعًا أن نتلو الشهادتين وقال لنا لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، لا مخرج لنا مما نحن فيه سوى عناية الله، وصمت الجميع وبدأ أبى وأمى فى تلاوة القرآن، كانت سورة يس هى الملجأ الدائم لهما فى الأزمات، وبعد تلاوتها عدة مرات إذ فجأة ينشق الضباب الكثيف عن رجل يجر حمارًا.. مرت لحظات ونحن لا نعلم هل هو حقيقة أما سراب رسمه الضباب وتيقنا أنه حقيقة عندما سمعنا صوته يسألنا باندهاش: من نحن وما الذى أتى بنا إلى هنا؟؟ سأله والدى ما هو هذا «الهنا»  فقال لنا هذا طريق لتهريب البضائع والمخدرات ومن المستحيل أن تمر سيارة من هنا، فكيف وصلتم إلى هنا؟؟ لم تكن لدينا إجابة لأننا ببساطة لا نعرف.. كان لابُدَّ أن نعود أدراجنا، ولكن كيف وليس هناك مساحة لكى تستدير السيارة، وكان الحل الوحيد والخطير أن يعود أبى للخلف وأن يكون الرجل وحماره هو من يرشدنا  وأن تفتح أمى باب السيارة قليلا لتراقب إطارات السيارة وتنذر أبى قبل أن ينزلق من فوق الجبل.. وبدأنا رحلة العودة للحياة، رحلة محفوفة  بالمخاطر ولا  أحد يستطيع أن يجزم بالنهاية... استغرقت رحلة الخروج من الضباب  ساعات لا نعلم عددها والسيارة ترجع إلى الخلف ببطء شديد .. نتوقف من حين لآخر لالتقاط الأنفاس المحبوسة وليرخى أبى العضلات والأعصاب المشدودة وليجفف عرقه المتصبب بغزارة لأنه كان من غير المسموح له أن يفقد أعصابه أو يتوتر حتى نصل لبر الأمان.. لن أصف لكم شعورنا جميعًا سأترك لخيالكم العنان.. ولا أدرى كيف مرت تلك الساعات لكنها مرت كما يمر كل مُر وانقشع الضباب فجأة وقال لنا الرجل وهو يبتسم ابتسامة المنقذ المنتصر «حمد الله على السلامة لايزال فى العمر بقية»... حاول أبى أن يعرض عليه أى مبلغ من المال لكنه رفض غاضبًا على الرغم من مظهره الفقير وقال: أنتم ضيوفنا وهذا فعل لا يصح أبدًا..  مرت سنوات طوال وعشنا أحداثا ومواقف صعبة، لكن لاتزال تلك الرحلة لا تمحوها أحداث سابقة أو لاحقة من الذاكرة، وكلما استدعيتها ازداد إيمانى بأن المعجزات لاتزال تحدث فى هذا الزمن.•