الثلاثاء 7 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

«سكن» كريم..

«سكن» كريم..
«سكن» كريم..


«احترامك لموهبتك هو شكل من أشكال الصلاة» كريم عبدالملاك.. فنان ذو عطاء كريم جدًا بداية من مساحات لوحاته الشاسعة ودلالاتها المتعددة وغناها اللونى والتكوينى.. فنٌ باذخٌ، نظرة خصبة، وخيال شاسع.


كان محظوظًا بحياته فى بيت ملأ كيانه بالحب والأمان والفن وكما يقول: «أنا نتاج تربية أمى وأفكار أبى» وهو فى الواقع مزج فريد لآباء مميزين مع أفكاره وأحلامه الخاصة وقراءاته وتطلعاته، فخلق فلسفة تخصه بالحياة والفن.. وهو نتاج كل تلك الذكريات الجميلة والأحلام..
«كلما احترمت ذاتى وفنى والناس، كلما احترمنى الفن وأهدانى النجاح» كريم عبدالملاك، رسام صحفى بمؤسسة روزاليوسف، ابن صباح الخير، شارك بمهرجان كارافان بدوراته الثلاث: القاهرة /لندن ٢٠١٣، والقاهرة /واشنطن ٢٠١٤، والقاهرة /باريس ٢٠١٥. وشارك كذلك بمعارض جماعية كثيرة، ومن معارضه الفردية «روح» ٢٠١٦ و« حرة» ٢٠١٧، وشارك كمشرف ببينالى الطفل الأول «فانتازيا القاهرة»، وهو ابن الفنان إبراهيم عبدالملاك، فنان صباح الخير المميز، رحمه الله.
التقيت كريم لمرة واحدة، فى مرسمه، قبيل الانتهاء من إعداد لوحات معرضه هذا «سَكَنْ».. والذى وجدته لدى كريم من السكون والوداعة، الهدوء والاتساع فى شخصه وعمله يتسع ويفيض غامرًا المكان ومن به.. كريم بروحه الشفافة الواسعة الكريمة، كبير وراق، حالم وواع، هادئ وموزون بميزان ذهب.. فنان وإنسان» مليان بالأصول « مثالى أو يكاد!.
تأملاته الدائمة كصلوات فى الكون، تملأ محيطه بالسكينة والراحة، وتنعكس على لوحاته التى يبثها من روحه الكثير، فكلما التقيت لوحاته كانك التقيت به أو تعرفت على جزء منه، وتعرفت على ذكرياته وأفكاره.
عن والداه.. الذين لهما منه تحية دائمة بكل معرض، لوحة من أعمال والده يحييها بتصرف، ممزجًا عمل يد الأب بعمل يده، كمصافحة شامخة بين رجلين يقدر كل منهم خصوصية الآخر، احترام نادر وحنان يربت على كتف كل منهما محترمًا عمله الخاص.. يقول هو: «لوحة هدية لروح بابا، شايلة الود والحب بين روحى وروحه».
واللافت للنظر أيضًا ذلك القرط الفيروزى الذى يزين أذن نساءه الجميلات جدًا دائمًا، هو فى الحقيقة لوالدته.
 - هى حرة كالهواء.. أو كما قالت سيمون دى بوفوار المرأة كائن إنسانى وحرية.
المرأة أو الأنثى هى جوهر فنه، رجل مكتمل القيمة، يحترم تكوينه الأنثوى والرجولى معًا، نساؤه شامخات جميلات دائمًا، حتى وإن بدت إحداهن منكسرة حزينة تنظر للأسفل إلا أن قاماتهن دائمًا باسقة سامقة.. هى لديه رمز للأرض وللوطن للأم وللسكن لمعنى الحياة والحرية والحضارة.. وإن كان الكون رجلًا فجوهره امرأة.. كانت فى معرضه روح تعبر عن روح المكان والحضارة وإشارة لعلاقتنا مع الحضارة والمرأة على حد سواء، وجاءت بمعرض حرة رمزًا للحرية والطبيعة.
تأملات فى الكون وموجوداته، يعبر عنها ويبحث فيما وراءها دائمًا، يشغله عالم الماورائيات، وبعيدًا عن صراعات المادة يخلص ذاته والمرأة التى يدافع عنها فى جملة معانى يتبناها بأجنحة طيور وفراشات يسمو ويرتفع عما يمكن، ويجعلها شجاعة قوية بعيون واثقة وبناء ثابت تقاوم.
يقدمها كما يقول كصلوات شكر لكل امرأة.. فن يكون يوتوبيا، ويخلق كونًا خياليًا، حتى ألوانه التى يفضل العمل بها ألوان الأرض أو مجموعة الترابيات ويضيف دائمًا عنصر الذهب، وتكتمل ألوان الكون بإضافته الأزرق أو الفيروزى للتعبير عما هو سماوى.
رغم فلسفته الجادة إلا أن بعدها الإنسانى يصل  للمتلقى حتى من غير المتخصصين، يخلو من الغموض والتعالى وغطرسة بعض الفنانين، لا يبتعد عن الإنسانى والجمال البسيط وغير محتاج لادعاء غرائبية ما  تمنحه مكانة مرموقة بين صفوف المتخصصين..  فالفن شأن إنسانى يجب ألا يحتاج لواسطة أو مترجم.
هو امتداد جميل لفنان ذو قيمة بالغة، الفنان إبراهيم عبدالملاك.. ليس بالأمر الهيّن الحفاظ على تلك المكانة ووراثتها ورعايتها حق رعايتها، يعانى أبناء العباقرة دائمًا من قيد المقارنة،  فنان  حقيقى، أضاف إلى تاريخ عائلته جديدًا، لم يحافظ به فقط على ماورث من قيمة أدبية وفنية بل وأضاف إليها بناءًا جميلًا  أصيلًا، والذى أخذه من عبقرية والده، ليس بالاقتباس أو التأثر الفنى الذى اعتدناه من فنان لسابقيه، بل هو الموروث الجينى، ونظرة ثاقبة ومُضاءة ترى من الشيء ما يظهره وتبحث عما يخفيه.. تنظر للصورة وظلال معانيها ودلالاتها.. لا أظن أن هذا بالأمر الذى يمكن اكتسابه وتعلم مهاراته، إنما هى هبة ربانية؛ ففنيًا تميز الفنان الأب وكان رائدًا فى خلق أكثر من وجهة ووجهة نظر للقطعة الواحدة أو المنحوتة.. وكذلك كريم، يصور بالمنظر الواحد مشاهد متغايرة ومتداخلة شفافة متراكبة يكشف كل منها الآخر. تطهر متلقيها من جمود أحادية الرؤية.
سكن..
وفى عالمنا الذى يملؤه الضحيج ويعلوه الصخب والصراعات، يكشف لنا فى معرضه عن جوهر يسكنه هو ويسكن العالم الذى يراه، الروح الحرة والحياة الجميلة التى تجدد ذاتها فى كل جميل، «الكون امرأة» عنوان لأحد معارض الأب، وهو كذلك جوهر فلسفة كريم فى الفن وربما فى الحياة،  يحترم الأنثى بدلالتها الإنسانية كامرأة فى علاقة خاصة مع والدته التى يشكر لها تربيتها وصحبتها له، ودلالتها المعنوية أى اللطف والرقة والجمال الخالص.. كذلك الشبه والاختلاف الكائن بين سلميّ اللحن الغربية «المينور والميجور» اللذان يكونان معًا الموسيقى.
وفى معرضه سكن، يناقش مفهوم السكن بدلالات عدة.. الأمومة.. الرباط المقدس.. الأرض.. الوطن.. مشاعر الحنين.. وغيرها..
فى لوحته لبداية رحلة الإنسان على الأرض.. سكن النفس، لوحة لآدم وحواء  جميلان كما يحب أن يرى المرء أبويه، لطالما كان مخلصًا لأبويه «آدم وحواء» وظلهما فى صورة أخرى.  وفى سكن كل منهما للآخر تكمن الرحمة والحياة.
وفى لوحته للعذراء تحمل وليدها المبارك، وتنظر حاضنة إياه.. بلوعة وجسارة، نظرة لبعيد يصل إلينا الآن من أزمنة أخرى.. تصعد أشجارًا من رأسها بأصل ثابت وتمتد واصلة للسماء ومتداخلة معها.. يلتمس هنا قداسة الأمومة، عزة الأم وشموخها وعنائها فى آن معًا.. رسالة سماوية تغمر الأرض بهذا الحنان الكبير.
لوحات كثيرة فى سكن، لن تكفيها نظرة واحدة أو مرورًا عابرًا.. أنا شخصيًا طال وقوفى أمام ذاك الإطار الذى يحمل صورًا لذكريات ووجوه  معلقة وساكنة فى ثنايا الروح. 
أذكر أن كريم ينطق الكلمات بالفصحى والإنجليزية بالجودة ذاتها وهى جودة ممتازة، يدقق الحرف ويضبطه.. ورسالتى الشخصية له: «شكرًا لتوقيعك بالعربى، إنه لشيء نادر الآن!».