الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

نافذة على الواقع

نافذة على الواقع
نافذة على الواقع


كانت لدينا شرفة تطل على أرض فضاء تزينها الورود والزرع الأخضر؛ تعتنى بها أمى عناية خاصة تسقى الزرع وتزيح عن أوراقه الأتربة بقطعة قماش مبللة وتهمس لهم بكلمات لا يسمعها سواهما.. وعندما كنا نقول لها أتكلمين الزرع يا أمى؟ كانت تبتسم بحنية وتجيب بأنها روح وتحتاج لمن يؤنس وحدتها.

ثم يأتى وقت العصارى ونبدأ فى تجهيز الشرفة لاستقبال أبى بعد أن يكون قد استيقظ من قيلولته، فنضع منضدة فى منتصفها وحولها مقاعد بعددنا ثم نضع فى الركن راديو ونضبط الموجة على إذاعة أم كلثوم استعدادًا لسماع «الست» فى الخامسة تمامًا، يتوسط أبى المجلس ونلتف حوله هو وأمى بعد أن تكون قد أحضرت الشاى بالنعناع وبعض البسكويت أو الكيك من صنع يديها بطعم الفانيليا أو البرتقال لنتبادل أطراف الحديث أو نردد مقاطع من أغنية الست.
لم نكن نحن فقط من يمارس هذه الطقوس بل كانت عنصرًا أساسيًا من تكوين الأسرة المصرية فقد كانت وسيلة للتواصل الأسرى والاجتماعى، كانت الشرفة متنفسًا لكل مكروب يرفع رأسه للسماء يناجى ربه ويبث همه ويبوح بسره له وحده، أو خلوة لكل من يريد أن يمارس التأمل فى ملكوت الله وعظمته، وربما ملهمة لكل مبدع يطل من الشرفة ويتأمل وجوه المارة فينطلق خياله يرسم مئات الحكايات، فهذه فتاة تركض لتلحق بموعد حبيبها، وهذا رجل ارتكب جريمة للتو، فعلامات الذعر مرسومة على وجهه، وهذا عجوز يخبئ بين أضلعه سرًا كبيرًا سيفصح عنه أثناء سكرات الموت، أو قد تلهم فتاة وهى تتمايل بدلال أحدهم ليكتب كلمات أغنية أو ينسج لحنًا يصف جمال فتاة النيل السمراء، وفى أثناء كل هذا قد نتلقى دعوة من الشرفة المقابلة لاحتساء فنجان قهوة مع الجارة لتبادل الأخبار والاستشارات، وشيئًا فشيء تبدلت الأحوال وعاد المغتربون من دول الخليج ليبنون منازل ومبانى لا تشبهنا ولا تشبه طقس العصارى ولا النسمات الأولى من الصباح، مبان صماء جافة قبيحة وقد تم بتر الشرفات العريقة ليحتل مكانها شبابيك من الألوميتال بلا روح ولا نبض، لم يعد هناك براح بين المبانى بعضها البعض، بل أصبحت ملتصقة لا يفصلها سوى بضع سنتيمترات، أصبح محكومًا عليك ألا تطل من نافذتك وعليك أن تسدل الستائر ليل نهار حتى لا يخدش حياءك فضول جار أو جارة، أصبح أفراد الأسرة الواحدة يتهامسون حتى لا يسمع الجيران أسرارهم، منغلقون على أنفسهم لا يعرفون من هم جيرانهم وعندما يتقابلون صدفة فى طرقات البناية يتعاملون كالغرباء لا يتبادلون حتى التحية، لم يعد هذا القبح النفسى والشكلى قاصرًا على أماكن فقيرة أو شعبية بل أصبحت منتشرة فى أكثر الأماكن غلاءً، والنتيجة أننا أصبحنا مجتمعًا تغيرت ملامحه واختلفت عاداته، أصبحنا أكثر عنفًا وأعلى صوتًا وأكثر كبتًا وتربصًا بعضنا ببعض، كيف كنا فى يوم من الأيام أجمل ثانى مدينة على مستوى العالم وأصبحنا بهذا القبح؟ المكسب والمادة طغت على التخطيط الجمالى، أصبحنا نقتلع الأشجار لنبنى مكانها المقاهى والمحال التجارية، تكدست الشوارع بالسيارات لأنها لا تجد مكانًا مخصصًا يحتويها، البنايات على كل لون وشكل بلا أدنى تناسق أو جمال وإياك أن تتحجج بتزايد عدد السكان، فالكثير من المدن فى العالم مكدسة بالسكان لكنها مخططة بشكل راقٍ ونظيفة ومنظمة، لقد اختفت من حياتنا عناصر قد لا نلتفت لها لكنها كانت مؤثرة وبشدة فى تكوين هذا المجتمع ومنها بكل تأكيد الشرفة. فهل نعود يومًا كما كنا؟ أم كما قالت «الست»: قول للزمان ارجع يا زمان؟.