الخميس 13 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الأغبياء فقط يفهمون لغة العصر

الأغبياء فقط يفهمون لغة العصر
الأغبياء فقط يفهمون لغة العصر


كتب: فؤاد أبو حجلة
 
فى سنوات ما قبل الإنترنت عرفنا نوعًا من التعليم عن بعد من خلال الكتيبات التى كانت تباع فى الأكشاك للراغبين بتعلم اللغات بدون معلم. بالطبع، لم يتعلم أحد من هذه الكتيبات التجارية، ولم أر أحدًا يستطيع التحدث بالإنجليزية خلال ثلاثة أيام فقط، لكن تلك الكتب كانت لها جاذبية كبيرة للحالمين الكُثر فى شوارعنا التى يتبخر فيها الأمل ويسود فيها الحلم.

أتذكر تلك الكتيبات وما كانت تحتويه من أمثلة تعليمية وأنا أحاول تعلم البلادة لكى أستطيع العيش كمواطن نموذجى فى وطن عربى يعيش عصر ما قبل الاندثار. وقد استخلصت من تجربة العمر أن البلادة تحتاج إلى قدر معين من الغباء، وعرفت أن تحقيق مستوى مقبول من الغباء يوجب تدريب العقل على الجمود، وتصديق التصريحات الرسمية، وخاصة تلك التى تجسد عصارة الغباء فى مضمونها وفى صياغتها.
لتفسير ما أعنى أقول إن المرء يجب أن يتمتع بمستوى معقول من الغباء ليفهم تصريحا لوزير صحة يدعو إلى تطوير الرعاية الصحية للمواطنين، وكذلك يحتاج المرء إلى حد متقدم من الغباء ليفهم تصريحا لوزير تعليم يدعو إلى تطوير التعليم فى البلاد.
من الواضح أن هناك الكثيرين ممن حققوا هذا الشرط، وهم الذين أراهم على شاشة التليفزيون يصفقون لوزراء الصحة والتعليم فى عشرين دولة عربية.
أتعلم البلادة لأعيش فى بلادى،  مرضيا على وعنى يوم ولدت ويوم أدفن حيًا. لكن البلادة وحدها لا تؤهلنى لفهم ما يجرى فى العالم واستيعاب تصريحات ومواقف الزعماء وخصوصا رؤساء أمريكا، فالأمر يتجاوز البلادة إلى البلاهة، وعلى المرء أن يحظى بقدر وافر من البلاهة لفهم تصريحات رؤساء أمريكا عن «حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها».
نعم يجب أن يكون المرء «أبله» ليفهم هذا التصريح، ويستوعب ما يعنيه.
أنا لا أبالغ فى وصف البلاهة المطلوبة للفهم، لأن التصريح الأمريكى الممل يوهم البشر بأن إسرائيل مهددة وجوديا، وبأن أعداءها يطبقون الحصار عليها، رغم أننى،  كمواطن نموذجى بليد وأبله، أحلف بالطلاق أن لا أحد يستهدف إسرائيل ولا أحد يهددها، وأكاد أجزم بأنه لم يبق بيننا من يكرهها أصلا.
تعالوا نحاول فهم المقصود أمريكيا. هل يعنى دونالد ترامب وقبله باراك أوباما وقبلهما جورج بوش أن على الفلسطينيين أن يوقفوا حصارهم للمدن الإسرائيلية، وأن يتوقفوا عن اتباع سياسة الإغلاقات المعيقة للحياة؟ أم هل يقصد رؤساء أمريكا أن الاستيطان الفلسطينى المتواصل يبدد حل الدولتين لأنه يقضم أجزاء واسعة من أراضى الدولة الإسرائيلية الموعودة؟ وهل يطالبون السلطة الفلسطينية بإطلاق سراح آلاف الأسرى الإسرائيليين المحكومين بتهمة مقاومة الاحتلال الفلسطينى؟
هل المقصود مثلا هو التوقف عن شن طائرات الـ إف 16 الفلسطينية غارات على أهداف مدنية فى تل أبيب وهرتزيليا ونتانيا وقتل المدنيين الأبرياء؟
أم إن المقصود هو الضغط على السلطة الفلسطينية للإفراج عن عائدات الضرائب الإسرائيلية، والتوقف عن مصادرة هذه الأموال بحجج واهية.
من الواضح أن مستوى البلاهة المطلوب لفهم هذه التصريحات كبير جدًا، كما أن البلاهة وحدها قد لا تكون كافية للفهم إذ ينبغى أيضا توافر مستوى معقول من الغباء للتعاطى مع هذه التصريحات.
نعيش فى العصر الأمريكى،  ويلزمنا التسلح بالغباء لكى نستطيع الاستمرار على قيد الحياة فى زمن أمريكى بالمطلق يحاصرنا بإسلاميى أمريكا وليبراليى أمريكا ورجعيى أمريكا، وحكومات أمريكا ومعارضات أمريكا، وموسيقى أمريكا وأفلام أمريكا ووجبات أمريكا السريعة وقرارات أمريكا البطيئة الهضم، وأولاد أمريكا الذين تأمركوا منذ الصغر وأولئك الذين التحقوا بها فى الكبر.
فى هذا الزمن يبدو الغباء فضيلة، ويبدو العقل خروجا عن النص. وفى هذا الزمن يبدو السكون انسجاما مع الحياة، وتصير الحركة مجرد تبديد غير منتج للجهد البشرى،  وفى هذا الزمن.. فى هذا الزمن فقط يمكن أن تكون زوجتك أمريكية وسيارتك أيضا، وكذلك سجائرك وقمصانك وربطة عنقك، ويمكن أن تشارك فى مظاهرة ضد أمريكا تنطلق من أقرب فرع ماكدونالدز.
لا أعرف من قال «أنا أفكر إذا أنا أعيش»، لكننى أجزم بأنه كان مخطئا حين لم يستثن العرب من هذا التعميم.