الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أحنُ إلى خبز أمى نبوية

أحنُ إلى خبز أمى نبوية
أحنُ إلى خبز أمى نبوية


كتب: أحمد بهاءالدين شعبان

أمين الحزب الاشتراكى المصرى

 حينما وُلدت أمى، بقرية«مجول»مركز «طوخ» بمحافظة القليوبية، كان اسم رائدة التعليم النسائى، «نبوية موسى» قد ذاع وانتشر، وكان لأسرتها بيت بقريتنا، حَزِنتُ حزناً شديداً عندما سألت عنه مؤخراً، فأخذنى أحد الأقرباء لكى يرينى كومةً من الأنقاض هو ما تبقى منه، للأسف الشديد!

وتَيَمُّناً باسم هذه الرائدة، أطلق جدى الشيخ «محمد نصر الدين» على ابنته اسم «نَبَوِيّة»، أملاً فى أن تسير على خُطاها، ولعل مافعلته معنا ونحن أطفال، لحثِّنا على طلب العلم وبذل الجهد للاستزادة من أبواب المعرفة، كان أبلغ دليل على أن هذه الأمنية لم تذهب أدراج الرياح.
أمى ابنة فلاح مصرى بسيط، مثل الملايين من ملح الأرض، تشرَّبت تقاليد موروثة منذ آلاف السنين: الصبر والدعة والعطاء والإنسانية الفيّاضة. ومثّلت بسلوكها قيّماً رفيعة المقام، دون ادّعاء أو تَكَلُّف، تعكس أصالة شعب قديم، عرف الضمير والحب والتعاطف والمرحمة، وعرّفها لشعوب العالم، وحين أذن وقت سفرها إلى القاهرة لتلتحق بزوجها الشاب، والدى، كان برفقـتها حماتها، جدتى أم أبى، وعمتى الصغيرة التى تقربنى فى العمر وعاشت فى بيتنا وتربت معنا وتزوجت فيه.
هذا الثلاثى البديع أفاض على حياتنا البسيطة نوراً ومحبة لا مزيد عليهما، فلم أر زوجة تحب حماتها، وتحدب عليها كأمى، ولا زوجة تتبنى أخت زوجها، وتُرَبيها كبنتٍ لها، كأمى، عشنا حياةً هانئةً فى ظل والد ضابط بالجيش، يعود من عمله لكى ينكبَّ على القراءة فأورثنا محبتها، ومكتبةً عظيمة نمت حتى وصل عدد محتوياتها الآن أكثر من عشرين ألف كتاب.
أعيش فى القاهرة..لكن بالفرن البلدى
حينما طلب والدى من أمه، بعد وفاة جدى، أن تأتى لتعيش معه فى القاهرة هى وأخته، تمنَّعـت كثيراً حتى لا تترك بيتها وأهلها وبيئتها، وقطعة الأرض التى كان جدى يفلحها، ومع إلحاح أبى قبلت، ولكن بشرطٍ غريب، أن يبنى لها «فُرن بلدى»، مثل فرنها فى القرية، لأنها لا تأكل عيش المدن، فوافق والدى، وبرَّ بوعده.
وأصبح لنا فرناً فوق سطح بيتنا الجديد الذى بناه أبى فى «حلمية الزيتون»، وكان يوم الخميس هو يوم عيدنا الأسبوعى ونحن أطفال، حيث تبدأ طقوس الخبيز منذ الفجر، فتصحو جدتى وأمى مبكراً، وبعد أن تنتهيا من الصلاة، تُعِدّان «الماجور»، والدقيق، وماء العجين، والمناخل، وتُشعل النار فى الفرن، وبعد فترة تبدأ أرغف العيش الطازج، ذو الرائحة العطرة والطعم الجميل، تخرج إلى «المشنّة» المنتظرة.
وهنا تتبدى واحدة من ملامح أمى: كرمها وأريحيتها، يَعِزّ عليها أن نأكل عيشاً طازجاً ولا يتذوقه جيراننا، وتبدأ مهمة توزيع أرغف العيش الساخن على البيوت والشقق القريبة، وكلهم فى تلك الآونة من بداية الخمسينيات، كانوا أقرب إلى أسرة واحدة، تجمعهم أواصر المحبة والتعاطف، وكانت هذه العادة تمتد إلى توزيع الطعام المطبوخ أيضاً، حيث تبعثنا مُحَمَّلين بأطباق الطعام إلى هذه الخالة وتلك العمة، والجارة، وكلهم جيران ليس من بينهم فرداً من أسرتنا، والأجمل أن هذا الفيض الإنسانى كان لا يستثنى أحداً، وبالذات من الفقراء والبسطاء والمعوزين، فهذا الطبق لخفير الأرض المجاورة العجوز، وذلك للبواب المغترب فى البيت المقابل، وثالث للست المريضة فى الشارع التالى، وما من شغّالة فى منزل، أو بائع خضروات أو فاكهة، ممن كانوا يمرون بمنطقتنا، إلا ووقف أمام منزلنا لكى يشرب الماء البارد، ويتناول الشاى، ويستريح من عناء الشمس الحارقة.
منزلنا كان قريباً من منطقة التجنيد بالحلمية، فكان طبيعياً أن يستضيف كل أبناء القرية والمعارف والأصدقاء، الذين يمرون عليه لإنهاء موقفهم التجنيدى، وكانت أمى تقوم بالواجب، خاصةً بعد أن يتم تجنيدهم وتوزيعهم على الثكنات القريبة، فطعامهم وغسيل ملابسهم ومنحهم ما يُعينهم على مواجهة احتياجاتهم، أمرٌ مفروغ منه؛ ولعل ميولى «الاشتراكية» التى تَبَدَّتْ بعد ذلك، كانت فى جانب منها انعكاساً طبيعياً لهذا السلوك الفطرى لأمى وأبى وأسرتى، واقتسام اللقمة البسيطة بين الناس، الأقرباء والغرباء، دون تمييز.
ثمن الحب
ومع مرور الزمن، ترسخ هذا الميل وأكَّدته الثقافة والممارسة، ولم تمنع التكاليف الباهظة التى يدفعها  المهتمون بالشأن العام، من استمرارى فى المسيرة الصعبة، فى الجامعة وخارجها، وكانت واحدة من أصعب مراحلها الظروف التى واكبت أحداث انتفاضة 18 و19 يناير 1977، التى أسماها الرئيس «السادات» «انتفاضة الحرامية»، ولم تكن سوى هبّة عفوية، خرج فيها الملايين من بُسطاء الشعب للدفاع عن قوت يومهم، وبدأت موجة اعتقالات واسعة لمناضلى اليسار، وسط حملة إعلامية «مكارثية» تتهمهم بالعمالة والتخريب .. إلخ، وتم تقديم 176 متهماً للمحاكمة بتهمة التحريض على، وقيادة الانتفاضة، كنت المتهم السابع من بينهم.
وضاقت على الدنيا بما رحبت، فبيتنا محاصر وأهلى مراقبون، وكل رفاقى فى السجن أو مطاردين، ولم يكن لى بدٌ من الخروج من مصر حتى تهدأ الأوضاع، وقد كان.
فمن «القاهرة» إلى «بغداد»، فـ «بيروت» الحرب الأهليّة بين المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية من جهة، وبين حزب «الكتائب» اليمينى، المتحالف مع «إسرائيل» من جهة أخرى. وفى شوارع «بيروت» كان يشجينى صوت «مارسيل خليفة» الحزين، وهو يُغنى كلمات «محمود درويش» الآسرة: «أحن إلى خبز أمى، وقهوة أمى»، وأتذكر أمى التى لم أرها منذ سنوات، وأعلم علم اليقين أن عيناها لم تريا النوم قط منذ غادرتها، وكان غاية رجائها أن تضمنى فى أحضانها الدافئة.
غَزَتْ إسرائيل لبنان، واحتلت بيروت، منتصف عام 1982. وكنت قد سافرت إلى باريس قبل الغزو بأيام، واتصلت مراراً بمنزلنا فى القاهرة، طالباً أن أسمع صوت أمى وأطمئن على أحوالها، فكان مَن يرد علىَّ يعتذر بحجج متكررة: «هى نائمة، أو تزور جارةً لها، أو تشترى شيئاً من الخارج».
وفجأةً أدركت الحقيقة المؤلمة، لقد رحلت أمى وهى تُصلّى، بكت لافتقادها إياى، دعت لى بالتوفيق، ووضعت رأسها على السجادة، وفارقت روحها جسدها الطاهر، وصعدت إلى بارئها، وفى عيد الأم الطيبة، التى رحلت حزينة على ولدها الغائب، وتركت فى القلب غُصة، أهدى عرفانى ومحبتى:
«لأمى التى ودَّعتنى
وغادرتنا دامعة العينين
وكنتُ صغيرها التى أَمَلَتْ
أن تراه كبيراً
وقرة عينها فى ليالى السهاد
مشت إلى الأفق الذى لن تعود
منه، دون وداع».•