الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أطفال الميدان .. يبحثون عن الامان

أطفال الميدان .. يبحثون عن الامان
أطفال الميدان .. يبحثون عن الامان


[if gte mso 9]>

Normal
0


false
false
false







MicrosoftInternetExplorer4

[if gte mso 9]>




 


هم دائما حولنا.. يظهرون أمامنا ولا نراهم يكلموننا ولا نسمعهم.. يستجدوننا ولا نتعاطف معهم.. يبكون فلا نشعر بهم.. يطاردوننا ولا يصلون إلينا أبدا.. دائما بيننا حاجز إما الخوف وإما الاستهتار أو يمكن يكون زجاج سياراتنا.
هم فى نظرنا أطفال شوارع.. المتسخون.. الزنانون.. المتطفلون بلا حياء ولا كرامة!
ونحن بالنسبة لهم.. قساة القلب.. المتعجرفون الهاربون من مسئولياتنا تجاههم.. الفارون من عقدة الذنب بأصوات الموسيقى الصاخبة.
كم تمنوا لو ذقنا عذابهم ومرارتهم لو تجرعنا المذلة كما تجرعوها من الزمن وقسوة الأيام، لكن فى الميدان اختلفت المشاعر بل انقلبت رأسا على عقب.
زالت الحواجز بلا مقدمات.. وجدناهم بيننا أو نحن بينهم.. نراهم ونشعر بهم.. أحسسنا بواجبنا نحوهم.. وشعرنا بذنب التقصير تجاههم.
ذابت الفوارق فى الميدان.. وذابت فى بحر الحرية الذىأغرق الميدان بصراخ الاستنجاد لطلب بلد حر يدافع عن أبنائه ويحترمهم.
نزلنا الميدان.. كان هناك الكثيرون.. من كل الأطياف والأشكال لكننا كنا ملاحظين بيننا أطفال مبهورون.. ليسوا مبهورين بالأعداد الهائلة ولا الصراخ أو الهتاف بل هم مبهورون بأشكال الناس التى حولهم تسأل أعينهم لماذا أشخاص أمثال هؤلاء مرتاحون؟
ينامون على الأرض ويفترشونها؟ بل أحيانا شعرت بأنهم يتعجبون من هؤلاء الناس الذين قرروا أن يزاحموهم فى الرصيف الذىيعتبرونه بيتهم فى الميدان!!
 
∎ ثوار بطريقتنا
أخذنا فضولنا إلى ميدان سيمون بوليفار المشتعل منذ بداية الأحداث، من أول الشارع تبدو النيران المشتعلة والأطفال يقذفون الحجارة بكل ما يملكون من قوة، لم يتأثروا برائحة الغاز!
كيف يستطيعون الصمود وكيف أصبح العمر والروح بالنسبة لهم رفاهية لا يخافون عليها؟! وهل كم الغضب الذى بداخلهم من الداخلية ورجالها فقط أم أن المجتمع كله هو سبب الغضب والألم بداخلهم؟!
لم أستطع الدخول إلى عمق الشارع، لكن وقفنا فى أوله فجاء ولدان كانا فى اعتقادنا يرتاحان قليلا من المجهود ورائحة الغاز.
صغيرا الحجم والسن لم أصدق أنهما ممن يدمرون ويخربون بالداخل، فسألنا أحدهما مباشرة:
- أنت كنت معاهم جوه فى الضرب؟
يرد علىّ بفخر: آه إحنا الاتنين.
- طيب ليه كده يا حبيبى بس ما تدخل الميدان فى هدوء وتعبر عن رأيك مع الثوار.
- ما أنا من الثوار، بس الناس دول ما ينفعش معاهم الهدوء والأدب، احنا تعبنا منهم، ياما بهدلونا.. وياما ذلونا.. وقالوا علينا ولاد شوارع.. وهو مين اللى رمانا فى الشارع مش هم.. مين اللى أكل حقنا مش هم.. احنا حنفضل وراهم لغاية ما نربيهم وننتقم منهم على كل الذل اللى شفناه منهم.
- طيب فيه ناس مالهاش ذنب زى العساكر اللى بتتصاب دى.. ما هم دول غلابة زيكم.
- غلابة! لا يا أبلة دول «ولاد..» بيغيظونا ويعملوا لنا حركات وحشة بإيديهم.. وبيشتمونا.. زمان كانوا بيشتمونا ونسكت ونبلع الإهانة.. لكن دلوقت لأ.. خلاص.. مش هنخاف وهنعورهم ونعذبهم زى ما عذبونا.
- والولاد التانية اللى بتكسر عربيات الناس.. كده ينفع؟!
- مفيش حد فينا بيعمل كده ده كلام مش حقيقى.
- لأ ده حصل لأصدقائى والله.
- شوفى يا أستاذة ممكن يكون حد اتفرعن عليهم، أو قال لهم كلمة وحشة وزى ما قلت لك احنا خلاص مش هنسكت لحد على إهانة.. زينا زيهم.
أما الطفل الثانى محمود - 31 سنة - فيقول إنه فى تالتة إعدادى!
جاء محمود ليشارك أصدقاءه من سكان الشارع فى شبرا الخيمة، ليقفوا أمام الظلم.
ويقول إن الداخلية بتحمى الكبار وتهين الغلابة، قالوا ثورة والحال هايتغير.. فضلت الداخلية سايبة المخدرات والبلاوى عندنا زى ما هى وجاية تقبض على الثوار.. ما يشوفوا شغلهم عشان الثوار يمشوا.. احنا مش بلطجية.. أنا فى مدرسة لكن المدرسين مش كويسين.. يا ناخد دروس.. يا نتهان فى المدرسة ونضّرب.
فسألته:
- أنت ليه مش فى التحرير تعبر عن كل اللى جواك ده؟
- أنا من الثوار بس بطريقتى اللى أنا شايف أنها بتجيب معاهم.. أنا لما بترشق الطوبة فى دماغ واحد فيهم بحس إنى ارتحت!
- أنا باخد حقى بذراعى.. هم غلطوا ولازم يدفعوا الثمن.. كان عندى صاحب من صغرى كنت بحبه قوى.. واحد من البلطجية فى الشارع ضربه بمطوة قتله. لما بلغنا الضابط قال: كلكم بلطجية ولاد.. وتستاهلوا اللى حصلكوا.
وتظهر فى عينيه الدموع ويتركنى ويدخل لميدان سيمون بوليفار مرة أخرى.
 
∎ بكرة أحلى
12سنة فتى لا أستطيع التحديد إن كان وسيما أو لا.. بسبب الطبقة التى غطت وجهه من الغبار والطين.. يحمل فى يده باكيت من المناديل ويرتدىملابس خفيفة جدا فى هذا البرد.. وشبشب لا يحميه من الطين أو أذى الأسفلت.
 
اقتربت منه فابتسم معتقدا أننى سأشترىمنه «منديلا» أو أننى سأعطيه بعض النقود.. فسألته: أنت مش خايف؟ لأ.. هخاف من إيه؟
 
يعنى من الغاز والزحمة
لا ده.. بالعكس الناس دىلما بتنزل الميدان بتعاملنى حلو أوىوما حدش بيزعقلى ولا يقولي «غور» بالعكس بيخلوني أهتف معاهم وأغنى معاهم وبيقولولي «بكره هيبقى أحسن».
بتكسب كام فى اليوم بقى؟
ينظر لى نظرة خبيثة ثم يقول عادىمش كتير.. 6.5 جنيه
أحيانا يوصل لـ10 جنيه ويارتهم يكفوا.
عندك أخوات؟
اثنين وأبويا مات من زمان وأمى بتشتغل عند ناس بتطبخ وتغسل وكده.
أتعلمت؟
إخواتى بيتعلموا لكن أنا بساعد أمى.
عارف يعنى إيه ثورة؟
ضاحكا يعنى ناس مش عاجبها الرئيس فعايزينه يمشى.
∎ وأنت عايزة يمشى؟
أنا معرفوش.. بس إذا كل الناس دىمضايقه منه يبقى لازم يمشى.
∎ نازلين علشان اللى زيى
سعد - 15 سنة - كنت خائفة جدا قبل التحدث معه وترددت كثيرا فى أخذ هذه الخطوة.. فهو حاد الملامح، هجومى حتى مع زملائه من البائعين، ذهبت له وسألته:
 
- أنت زعلان ليه؟
- مش زعلان.. فى حد يبقى فى الثورة معاكم ويزعل «متهكما».
- أنت نازل التحرير ليه؟
- أنا بأمن الميدان من الناس الوحشة!
- زى مين؟!
- ناس عايزة تعمل مشاكل.. ناس عايزة تتحرش بواحدة.. الناس اللى بيشوهوا الثورة!
- ومين اللى بيدفعلك بقى؟!
- الناس الطيبين.. بيدونى اللى فيه النصيب.. بس أنا مش عايز فلوس.
- عايز إيه؟
- عايز الناس تحبنى.. وتحترمنى.. وتشكرنى.. أنا يوم التلات اتحرش ولدين ببنت وأنا مسكتهم وحوشتهم عنها.. قالت لى: أنت بطل.. وسلمت عليا.. ما كانتش قرفانة منى ولا تنظرلى بقرف زى ناس تانيه، ولما تدورى عليهم تلاقيهم ما يساووش!
- يعنى أنت نازل الميدان تحافظ على الناس اللى فيه.
- أيوه. ناس حلوة متواضعة.. ولاد ناس بجد.. بيقولوا إنهم نازلين عشان اللى زيى.. وبصراحة أنا مصدقهم.. عشان هم مش محتاجين بيهدلوا نفسهم وزعلت من الرئيس لما قال علينا وعليهم لصوص والله غلطان.. أنا باجى كل يوم من حلوان عشان أبقى معاهم وربنا بيبارك فى القرش أكتر من الأيام العادية.. الناس كلها بتضحك وكأننا كلنا إخوات.
∎ اللى زينا حيعيش ويموت شحات..
«شحتة» هذا الاسم الحركى لـ«محمد عبدالمقصود» وهو طفل صغير حكمت عليه الظروف أن يكون «شحات» فى ظل ظروف سيئة.. فهو لا يتعدى العشر سنوات.. قابلته فى الميدان .. لكن شكله لايوحى لى للوهلة الأولى بأنه شحات.. لأننى لم أكن أتوقع أننى سأقابل شحاتين داخل مليونية  بهذا العدد الهائل.. وأثناء هتافى مع الناس وجدته يقترب منى بابتسامة فيها تحفظ بعض الشىء.. وفوجئت به يقول لى باستعطاف وبدأ يرسم البراءة على وجهه: «يا أستاذة متدينى أى حاجة لله».. فقلت له: «ربنا يسهلك».. لكنه طبعا لم ييأس .. فظل يتحايل ويحوم حولى لأكثر من عشر دقائق.. حتى جعلنى أقول له: «أنت ليه بتشحت، مش احنا النهارده عاملين مليونية عشان البلد تكون كويسة وكل الناس الغلابة تاخد حقوقها».. فرد قائلا: «الكلام ده ليكم أنتم لكن اللى زينا حيعيش شحات ويموت كمان شحات ولا حد يعرف عنه حاجة.. فكل رئيس جديد ييجى يقول حعمل للفقراء سواء الرئيس مرسى أو الرئيس السابق و لا شفنا منهم أى حاجة ..المفروض نستنى ونشوف هما حيعملوا إيه، نكون ساعتها احنا متنا من الجوع»! محدش حاسس بينا أصلا.. أنتم بتعملوا كده عشان مصلحتكم أولا.. لكن احنا كل اللى يهمنا إننا نلاقى لقمة ناكلها وبيت  يلمنى أنا وإخواتى وأمى وأبويا.. بدل من النوم فى الشوارع والبرد يقرص فينا وكلاب السكك تحوم حوالينا.. فقلت له: «بس ده مش مبرر عشان تكون شحات».. فقال: «أنا بشتغل فترة الصبح عند الحاج محمد الميكانيكى ويعطينى أحيانا جنيه أو خمسة جنيه فى اليوم وقبل ما أروح بالليل أحاول ألقط رزقى عشان أساعد أبويا فى المصاريف أنا أكبر أخواتى .. فأبويا عنده عربية بليلة يقف بها فى الميدان واللى جاى منها بيصرفه قسط على العربية ومكفينا بالعافية..عرفتى بقى ليه أنا بشحت!!. أنا كل يوم بروح أعيط عشان مش بحب الشحاتة فيه ناس بتشتمنى وناس بتضربنى ومرة واحد كان راكب عربية رمى فى وشى ميه وخلى الناس تضحك على.. تقوللى ثورة، يعنى إيه أصلا ثورة!.. الثورة دى معملتلناش حاجة.. أنا نفسى أعمل مليونية لكل الشحاتين والفقراء بس ونقول فيها كل حاجة احنا عايزينه .. حتدينى بقى حاجة ولا أخدها من قاصرها وأمشى .. بعدها تركنى ورحل لغيرى ليسترزق منهم.
∎ انتم بتتكلموا بلساننا
وبعدها بقليل وجدنا مريم ذات الحادية عشرة تأتى إلىّ وتقول بمنتهى اللباقة: «تخدى مناديل» فقلت لها: لا، طب لبان، فقلت لها: شكرا، فقالت: طب ما تسعدينى بأى حاجة كده قبل ما أمشى عشان ربنا يوفقكم فى المليونية بتاعتكم دى ويغور عنكم الإخوان،.. فقلت لها: المليونية بتاعتنا هى مش بتاعتكم أنتم كمان شكلك بتحبى مرسى طالما قلتى كده!.. فقالت: والله ولا بطيقه ده من ساعة ما جه والواحد ماشفش منه أى حاجة عدلة خالص ربنا يبعده وكل الإخوان المسلمين.. فقلت لها: طب ليه بتقولى المليونية بتاعتكم.. فقالت: أصل احنا اللى زينا بيجرى كل يوم على قوت يومه عشان يعرف يعيش واليوم اللى مبشتغلش فيه أبويا بيضربنى وبيضرب أمى وبيطردنى بره البيت أنام فى الشارع وأمى لما تتحايل عليه بيشتمها ويقول لها: حرميكى بره معاها لو ماسكتيش .. وكتير بتعدى علينا أيام بنام فيها من غير أكل  والجوع بيقرصنا بس خلاص اتعودنا على كده.. وفجأة وجدتها تقول: عشان حياتنا مش زيكم.. فنظرت لها باندهاش مما قالته .. فقالت: قصدى البركة فيكم انتم بتتكلموا بلسانا.. ثم قلت لها: طب عايزانى أساعدك بإيه يعنى؟.. ضحكت وقالت: أى حاجة بقى كلك نظر يعنى هو أنا اللى حاقول لك.. ضحكت وقلت لها ماشى يا حلوة وأعطيتها اللى فيه النصيب وذهبت.∎