الثلاثاء 10 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

دروس من الثورة

دروس من الثورة
دروس من الثورة


كتب: د. محمد حسن خليل
 
فى ذكرى مرور قرن من الزمان على قيام ثورة 1919 مازالت تلك الثورة المجيدة تحتاج لتأمل دروسها.  بالطبع لا يكفى المقال لدراسة ثورة 1919، وأود هنا فقط أن ألقى الضوء على بعض النقاط المهمة فى مسار الثورة وكذلك بعض دروسها.. كان للشعب المصرى حقه الكامل فى السخط الموجه ضد بريطانيا واستبداد  وسطوة السرايا وكبار الملاك الزراعيين.
 يجب أن نتذكر أن المراجع الإنجليزية بما فيها الموسوعة البريطانية لا تعترف بأن إنجلترا احتلت مصر عسكريًا عام 1882 وحتى اتفاقية الجلاء عام 1954، أى لمدة 72 عامًا، ولكنها تعترف فقط بأن إنجلترا أعلنت الحماية البريطانية على مصر, وإلغاء تبعيتها للإمبراطورية العثمانية، عام 1914 مع بداية الحرب العالمية الأولى، وخلعت خديو مصر عباس حلمى الثانى وحولت مصر لسلطنة وولت السلطان حسين كامل عليها، ولكن هذه الحماية انتهت عام 1922 بتصريح 28 فبراير، أى تختزل فترة الاحتلال إلى ثمانى سنوات!
استعمار.. لا حماية
أثناء الحرب استغلت إنجلترا سيطرتها العسكرية على مصر، وأوضح هنا ملمحين بارزين لتلك السيطرة: الأول هو أن احتياج إنجلترا للقمح كان مقدمًا على احتياج الشعب المصرى للغذاء، فأجبرتها على تصدير القمح لها، وحتى لم تدفع مقابله نقدًا، ولكنها دفعت ثمنه سندات على إنجلترا لصالح مصر، ولكن بالطبع علاقات القوى لا تسمح لمصر ببيع تلك السندات أو المطالبة برد قيمتها، وذلك فى مقابل إعطاء إنجلترا لمصر الحق فى إصدار النقد المصرى بضمان تلك السندات كما لو كانت ذهبًا.
المحصلة بالنسبة لمصر هى نقص الغذاء المتاح والسلع بالداخل مع زيادة السيولة النقدية، مما أدى للتضخم الشديد لدرجة أن سعر أردب القمح قد ارتفع بين عامى 1914 و1918 من 14 ريالاً للأردب إلى 42 ريالاً! وواضح بالطبع أثر هذا على كل الشعب المصرى وغذائه.
والمثال الثانى هو أن إنجلترا قررت أن توفر الجندى البريطانى للقتال بينما تُسَخِّر الجنود المصريين فى الخدمات مثل حفر الخنادق ونقل الذخيرة والتموين وخلافه! وكانت طريقة الحصول على تلك المادة البشرية هى قيام إنجلترا وقوات الأمن المصرى بالمكوث عند مداخل القرى وقت الغروب عند عودة الفلاحين من العمل فى الحقول لكى تقبض عليهم وتختار من بينهم الشباب للسفر لخدمة الجيوش الإنجليزية، حيث فُرِض على كل قرية توريد 50 شابًا! كل هذا فى مقابل وعود بريطانية بالجلاء عن مصر بعد الحرب نظير مساعدة مصر لإنجلترا، أحسّ الشعب المصرى كله بالجوع والاضطهاد. خلّدت الأغانى تلك المشاهد فى «بلدى يا بلدى والسلطة خدت ولدى» واحتفلت بعودة من لم يقتل منهم فى «سالمة يا سلامة رحنا وجينا بالسلامة». اتخذت الثورة فى الريف مظهرًا متميزًا: فلأن إنجلترا اعتادت استخدام جنود الشرطة المصرية، وإرسال الجنود الإنجليز بالسكك الحديدية لقمع الثورة فى القرى، لذا اتخذت الثورات مظهرًا ثابتًا: يخرج الفلاحون أولا فيحرقون قسم الشرطة، ثم يقطعون السكك الحديدية لمنع الجنود الإنجليز من الحضور لقمع الثورة، ثم يهاجمون مخازن الغلال الخاصة بالإقطاعيين ويفتحونها ليوزعوا القمح على أنفسهم لسد جوعهم!
كما هو معروف أيضا قدم الإنجليز تنازلات للثورة فى صورة عودة سعد زغلول، وإصدار تصريح 28 فبراير سنة 1922، الذى حول مصر من سلطنة إلى ملكية دستورية مستقلة (شكلاً) ووضع دستور وانتخاب مجلس تشريعى وتشكيل حكومة من أغلبية البرلمان، ولكنها وضعت تحفظاتها الأربعة الشهيرة:
1 - حق بريطانيا فى تأمين مواصلات إمبراطوريتها فى مصر.
2 - حق بريطانيا فى الدفاع عن مصر ضد أى عدوان أجنبى.
3 - حماية المصالح الأجنبية وحقوق الأقليات فى مصر.
4 - إبقاء الوضع فى السودان على ما هو عليه (وكان تحت هيمنة إنجلترا).
ويتضح بالطبع أن مضمون تلك التصريحات هو انتقاص الاستقلال ببقاء القوات البريطانية فى مصر وحقها فى التدخل وسيادتها على السودان. لم يقبل الشعب ولا سعد زغلول ذلك التصريح، ولكن الشعب المصرى استفاد من هذا التصريح، ليس مجرد الاستفادة الشكلية من تحولها من سلطنة إلى ملكية دستورية وتحويل السلطان فؤاد إلى الملك فؤاد، ولكنه شمل أيضًا عمل دستور 1923 وإجراء انتخابات برلمانية فاز فيها حزب الوفد وتولى زعيمه سعد زغلول رئاسة الوزارة. نلاحظ هنا تمتع مصر بمزايا تصريح 28 فبراير دون الاعتراف لإنجلترا بالحقوق التى ادَّعتها لنفسها فى التصريح.
«الجلاء انتظر خمس محطات»
أنتقل هنا لملاحظة مهمة بعد نحو عشر سنوات وأكثر من الثورة، فى أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات من القرن العشرين: لقد عم الشعب الشعور بالإحباط الشديد لفشل الثورة فى تحقيق أى تقدم ملموس فى وضع مصر. كان هدف الثورة هو الاستقلال والدستور، وظن الشعب أنه فاز بهما أو بمعظمهما، ولكنه لم يجد الأمر كذلك! فبالنسبة للاستقلال فقد فقد معناه فى ظل وجود وتحكم القوات الإنجليزية فى كل أنحاء البلاد، وبالنسبة لدستور 1923، فلم تعمر وزارة سعد زغلول سوى أقل من عام، ودستور 1923 تم تجميده فى عهد وزارة محمد محمود منذ 1928، وأصدر إسماعيل صدقى دستورًا جديدًا عام 1932 يخلو من حريات دستور 1923. هنا يسود بين الشعب الإحساس بفشل الثورة ويعم الإحباط. كيف نُقَيِّم نحن هذا الشعور والموقف بعد مائة سنة من الثورة؟ لم تنجح الثورة فى تحقيق هدفيها: دستور ديمقراطى مستقر واستقلال إنجلترا عن مصر: ولكنها رغم هذا لم تفشل. كيف كان هذا؟
نحن ندرك الآن أن هدفًا غاليًا مثل استقلال مصر عن إنجلترا تحقق على خمس حلقات: تمثلت الأولى فى تصريح 28 فبراير عام 1922رغم نواقص ذلك الاستقلال. وجاءت الثانية فى أعقاب الهبة الجماهيرية الضخمة عام 1935، مع نذر الحرب العالمية الثانية، وهذان العنصران (الهبة الجماهيرية ونذر الحرب) أجبرا إنجلترا على توقيع معاهدة 1936 التى تحصر الوجود الإنجليزى فى منطقة قناة السويس فقط باستثناء فترات الحروب فى مقابل أن تقدم مصر لإنجلترا تسهيلات فى النقل وتتعاون معها فى فترة الحرب، كما تتيح لمصر سيادة أكبر على بلادها، مما مكنها من إلغاء المحاكم المختلطة لاستعادة استقلال القضاء، وغير ذلك.
تمثلت الحلقة الثالثة من الاستقلال فى حركة المظاهرات الجماهيرية الضخمة التى قامت بعد الحرب العالمية الثانية فى الفترة بين 1945 و1952. بعد الحرب تراجعت إنجلترا عن تنفيذ تعهدات معاهدة 1936 بالانسحاب إلى منطقة قناة السويس مادامت حالة الحرب قد انتهت. وتطورت المطالب الجماهيرية إلى الجلاء الكامل لإنجلترا، ورفع شعار الجلاء بالدماء، مما تطور لحرب العصابات ضد القوات الإنجليزية، بعد انسحابها من المدن، فى معسكراتها فى منطقة القناة والتل الكبير، بين عامى 1950 و1952، كما نجحت المظاهرات فى وأد محاولة إنجلترا فى تعديل معاهدة 1936 فى صورة معاهدة صدقى بيفن عام 1946، وطالبوا بالجلاء الكامل لإنجلترا وإنهاء الاحتلال الإنجليزى.
الحلقة الرابعة كانت فى عقد معاهدة 1954 مع الضباط الأحرار بعد الثورة، وتتضمن الجلاء الكامل، ولكن مع بقاء قاعدة التل الكبير جاهزة لعودة القوات الإنجليزية لها فى حالة نشوب حرب عالمية أو فى المنطقة لحماية قناة السويس.
أما الحلقة الخامسة والأخيرة فتمثلت فى إلغاء مصر لتلك المعاهدة فى أعقاب العدوان الثلاثى الإنجليزى الفرنسى الإسرائيلى عام 1956. إننا عبر تأمل تلك المراحل الخمسة للاستقلال، نفهم كيف أن ثورة 1919 لم تنجح تمامًا فى تحقيق الاستقلال الكامل لمصر عن إنجلترا، ولكنها أيضًا لم تفشل، فقد نجحت فى تحقيق الحلقة الأولى من الاستقلال الذى تحقق عبر الزمن وليس فى ضربة واحدة.
«ثورة لم تنجح.. ولم تفشل أيضًا»
بنك وطنى لصناعة مصرية
ولكن النجاحات التى حققتها ثورة 1919 لم تقتصر على كونها حلقة أولى من الاستقلال. كان من أهم إنجازات ثورة 1919 إنشاء بنك مصر. كانت فكرة إنشاء بنك وطنى خالص برءوس أموال مصرية لتمويل إنشاء صناعة مصرية وليس كبنك تجارى أو عقارى مثل بقية البنوك الأجنبية والمشتركة، كانت قد تكررت كثيرًا فى كتابات الكتاب السياسيين المصريين فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ولكن لم يقدر لتلك الفكرة بالطبع أن ترى النور فى عهد اللورد كرومر واللورد كتشنر ولا بالطبع فى عهد الحماية نتيجة لميزان القوى بين المحتل الإنجليزى الطاغى ونفوذ الحركة الوطنية المصرية المحدود. كان تغير ميزان القوى لصالح الحركة الوطنية بعد ثورة 1919 هو ما مكّن طلعت حرب من تحقيق ذلك الحلم المصرى بتأسيس بنك مصر، الذى قام فى العشرينيات والثلاثينيات بتأسيس المدن والمناطق الصناعية فى المحلة وشبرا الخيمة وكفر الدوار، غير شركات مصر للطيران كأول شركة طيران فى الشرق الأوسط أوائل الثلاثينيات، وشركة مصر للإنتاج السينمائى، واستوديو مصر.. وغيرها وغيرها.
الثورة و«تطورها الحلزونى»
وكان من أهم النتائج الإيجابية لثورة 1919 هو تأسيس جامعة فؤاد الأول عام 1925 (جامعة القاهرة حاليًا) بتحويل الجامعة الأهلية (وكانت تقتصر على أربع كليات نظرية فقط) إلى جامعة حكومية. ومن أهم النتائج الإيجابية لثورة 1919 إحساس الشعب بنفسه وقيمته وقدرته على المساهمة فى صنع مستقبل أفضل، مما كان له الأثر البالغ فى بعث النهضة المصرية فى مختلف المجالات.إن كل ما سبق يعطينا فكرة عن تأمل التاريخ بشكل علمى، بعيدًا عن النظرة الانطباعية التى تتلخص فى التفاؤل الكبير فى لحظات الثورة، والتشاؤم الكبير فى لحظات خفوت الفعاليات الجماهيرية الثورية (التى لا يمكن بالطبع أن تظل عرضًا مستمرًا)، للانتقال إلى رؤية علمية ترى حركة التاريخ وموقع كل لحظة وفترة فيه فى سياقها التاريخى السابق واللاحق، وترى ما هو جوهرى فى توازن القوى الاجتماعية والطبقية والسياسية ودورها فى صنع التاريخ. التاريخ لا يمثل عبثًا ولا دورانًا فى حلقة مفرغة، ولا يمثل أيضا صعودًا فى خط مستقيم ثابت بدون عوائق، ولكنه يتمثل فى تطور لا يستبعد فترات من الردة، تطورًا حلزونيًا إن جاز التعبير. واللجوء للتاريخ يحمى من الإحساس بالفشل أو اليأس، ويؤكد الحكمة التاريخية فى أن الشعوب تصنع التاريخ، ولكن وفق قوانينها وتوازنها وليس وفق أمانينا المتسرعة!•