الثلاثاء 7 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

د. منى مكرم: مكرم عبيد دمه خفيف..

د. منى مكرم: مكرم عبيد دمه خفيف..
د. منى مكرم: مكرم عبيد دمه خفيف..


استقبلتنى د. منى مكرم عبيد.. فى منزلها بالزمالك، حيث تملأ الصور أركانه كشاهد على أصالة ذلك الزمان الذى نستمتع بالحديث عنه.. خاصة حينما يكون الحوار عن مكرم عبيد، الرجل الذى حفر اسمه على قائمة زعماء ثورة ١٩١٩ التى عرفت بأنها أول ثورة سطرت مشروع دولة المواطنة، حينما رسخت مبدأ الدين لله والوطن للجميع، وكان دور مكرم عبيد واضحًا ومؤثرًا فيها، فأحبه الجميع لشخصيته السياسية والإنسانية الغنية بالفن والموسيقى والمرح.. وغيرها من ملامح شخصية ذلك الزعيم.. كما لم نعرفها من قبل!


فى بيت مكرم عبيد
ألحظ صورتها وهى طفلة مع الزعيم مكرم عبيد، وهو يحملها بين ذراعيه بقوة وسعادة، فتقول: كنت طفلة شقية، وقد نشأتُ فى بيته وعشتُ معه أكثر مما عشتُ مع أسرتى،  حيث كان بمثابة جدى وليس عمى لأنه يكبر والدى بحوالى ثمانى عشرة سنة، وأعتقد أننى كنت أقرب أبناء إخوته إلى قلبه، فكان هو الذى يأخذنى من المدرسة الداخلية فى نهاية الأسبوع والعطلات، وأتذكر أنه كان يمنع أى أحد من معاقبتى،  قائلا «أتركوها لأنها بنت عندها شخصية». أتذكر أيضًا كم كان يدللنى فى أعياد ميلادى،  وفى سفرياتى التى انطلقت فيها معه إلى الصعيد، كما أننى عشتُ معه فترات طويلة فى منزليه سواء بالقاهرة أو الإسكندرية. أسألها عن أسرته، فتخبرنى أنه كان زوج السيدة العظيمة عايدة مرقص باشا حنا الوفدى المعروف، وقد قام سعد زغلول نفسه بتزويجهما عام ١٩٢٣ فى فندق هليوبوليس بالاس (قصر الاتحادية حاليا).. ولا تزال تستعيد بعض الذكريات، تستطرد: كان يحب أن يجمع أطفال العائلة حوله، ويجد فى ذلك سعادة بالغة. أسألها إن كان يفعل هذا عوضًا عن عدم إنجابه؟ فتقول: كنا نحن أولاده.
تصف د. منى منزل الزعيم مكرم عبيد قائلة: كانت صور العديد من الزعماء السياسيين تغطى جدران منزله، بينما البيت نفسه كان أشبه بالمنتدى السياسى الكبير الذى يجمع السياسيين والأصدقاء والطلبة. أما مكرم عبيد الإنسان الذى عرفته.. تقول د. منى، فيختلف تمامًا عن صورة الرجل السياسى الخطيب المفوه المهاب، بل كان إنسانا بسيطًا عطوفًا ودودًا، محبًا لكافة ألوان الفنون والموسيقى، كما كان أيضًا متواضعًا.. ولا أذكر أنه حاول أن يثير انبهارى أو دهشتى بأى من إنجازاته وأدواره.
 هل يمكن القول أنكِ ورثتِ الاهتمام بالسياسة والشأن العام عن الزعيم مكرم عبيد؟ تجيب: بالتأكيد ورثت منه بعض الصفات، مثل خفة الدم، والجرأة، والقدرة على التعامل مع الناس، بالإضافة لحبى للموسيقى والغناء، كما تأثرتُ به لأننى لم أكن أحب قصص الثعلب والقطة وهذه النوعية من الحكايات، بل كنت دائمًا ما أستمع إليه، وإلى قصصه وحكاياته عن حياته التى كان يرويها لى، وأتذكر أن حديثه المفضل كان يدور حول العامين اللذين قضاهما فى المنفى مع سعد باشا زغلول، ومصطفى باشا النحاس، وبهى الدين بركات، وسينوت حنا، وفتح الله باشا بركات الذى كان رئيس المدرسة الشرعية، والذى ساهم فى تعمق مكرم عبيد بالقرآن الكريم، حيث كانت هذه الخبرة تمثل له شرفًا عظيمًا لمشاركته فى أحداث بلده فى الظروف التى كانت تمر بها، وله العديد من المقولات التى يصف بها هذه الفترة فى حياته، منها: «ما أحسست طوال عمرى أن الوطن قريب إلى قلبى وفكرى إلا عندما أبعدونى عنه إلى سيشيل، فكانت أداة الفصل هى أداة الوصل».
النفى والاعتقال
كان مكرم عبيد شخصية محبوبة ومقبولة على المستويين الشعبى والسياسى،  حيث جسد الزعامة الشعبية بين أوساط الوطن بكل اختلافاته، فأطلق عليه سعد زغلول وصف المجاهد الكبير، مثلما كان نتاجًا طبيعيًا للحركة الوطنية، وإفرازًا للوحدة الوطنية التى صنعتها الجماهير خلال ثورة ١٩١٩، فجاء شعار «يحيا الهلال مع الصليب» طبيعيًا دون تكلف! وكان مكرم عبيد يؤمن أن مصر فوق الجميع، ولا يعلو الولاء لها أى ولاء آخر -كما تقول د. منى- التى أسألها عن شخصية قبطية مماثلة لشخصية مكرم عبيد الذى أحبه المصريون واتفقوا عليه، فتقول: هناك الكثيرون بالتأكيد، ولكن كانت الظروف السياسية والاجتماعية مهيأة ومواكبة لإفراز دور مكرم عبيد والاعتراف به هو وغيره. وماذا إذن عن علاقته بالشيخ «حسن البنا» مؤسس الإخوان المسلمين؟ سألتها، فقالت: هل تصدقين أن لا أحد من العائلة لديه تفاصيل عن تلك العلاقة؟ صحيح إنه كان الرجل الوحيد الذى شارك فى جنازته وهو قبطى، ولكننا فعليًا لا نعلم أكثر من ذلك!.
عمل مكرم عبيد سكرتيرًا لصحيفة الوقائع المصرية عام ١٩١٣، ثم عمل فى المحاماة، واختير كنقيب للمحامين، وفى عام ١٩١٩ انضم إلى حزب الوفد، ثم عين وزيرًا للمواصلات عام ١٩٢٨، وصار سكرتيرًا عامًا لحزب الوفد عام ١٩٣٥، ثم وزيرًا للمالية عام ١٩٣٦ وحصل على الباشوية.. ولكن كيف عمل سكرتيرًا خاصًا للمستشار الإنجليزى «برونيات»؟ فأوضحت د. منى أن البلد كانت تحت الاحتلال، ولكنه رفض سياسته وكتب رسالة معارضة بذلك شارحا فيها مطالب المصريين وحقوقهم فى وطنهم مما جعل الإنجليز يستغنون عن خدماته!.
تخبرنى كيف استطاع حزب الوفد توظيف ذكاء ولباقة مكرم عبيد وصوته العذب فى إلقاء الخطب التى كان يكتبها بنفسه، كما كان الحزب يوفده للخارج كمتحدث عن مطالب المصريين؛ حيث كان تعليمه يُمَكِنه من مخاطبة الخواجات بطريقة تفكيرهم وليس فقط التحدث بلغتهم! بالإضافة لعمله فى مجال الدعاية والترجمة الذى وظفه ضد الاحتلال الإنجليزى بجريدة الوفد، وفى بعض الدول الغربية.. فتم إلقاء القبض عليه بتهمة اعتراضه على قرار نفى سعد زغلول لجزيرة سيشيل، فتم نفيه هو أيضًا.
غيرة زينب هانم
تسترجع د. منى الذكريات التى جمعتها وكتبتها فى كتاب كبير تكريما لذكرى مئوية ميلاد عمها عام ١٩٨٩بعنوان «مكرم عبيد.. كلمات ومواقف».. وتصل فى سردها لعلاقته مع مصطفى باشا النحاس رئيس الوزراء، فأتوقف عند وصفها لتلك العلاقة بأنها علاقة صداقة نادرة، فأتساءل: كيف تصفها هكذا، وقد أصدر النحاس أمرًا باعتقاله؟ فتشيح بكفها قائلة: كان هذا بسبب غيرة «زينب هانم» زوجة النحاس من قوة تلك الصداقة، ما جعلها تعمل على إزاحة مكرم عبيد لتمكين فؤاد سراج الدين من موقعه بالحزب، فانشق عبيد عن الوفد وقام بتشكيل «الكتلة الوفدية»، بينما كان ما يُعرف بالكتاب الأسود هو السبب الرئيسى لاعتقاله، بعدما قام وهو وزير للمالية بجمع وثائق ضد مخالفات حزب الوفد وقدمها للاستجواب أمام الملك.. ما جعل بعض الوفديين يطالبون بإسقاط عضويته من البرلمان، فتم اعتقاله.. ولكنه لم يكن اعتقالا بمفهوم السجن، فقد تم حجزه فى المستشفى الإيطالى معززًا مكرمًا، حتى أن كلبه كان معه – كما قالت د. منى!.
لماذا لا يتم تدريس سيرة هذا الرجل وأمثاله فى الكتب المدرسية، كنموذج وطنى لخدمة الوطن؟ فقد دفعه حبه للفلاحين فى إنشاء أول وزارة للشئون الاجتماعية، وهو صاحب فكرة تكوين النقابات العمالية، وأول من وضع نظام الكادر للعمال، ونظام الحد الأدنى للأجور، والتأمين الاجتماعى،  والتسليف العقارى،  وهو صاحب فكرة العمل بالضريبة التصاعدية للدخل. دفعه أيضًا عمله كمحام للدفاع عن المقبوض عليهم فى تهم سياسية، كما اختير ٣ مرات نقيبًا للمحامين!، وهو أول من اهتم بالبعد العربى لمصر وقام بزيارة سوريا ولبنان وفلسطين فى بدايات الثلاثينيات -كما تقول د. منى-: شارك أيضًا فى وضع بروتوكول إنشاء جامعة الدول العربية، وتوفى عام ١٩٦١، بعدما حاول الملك فاروق اغتياله مرتين، مرة بإلقاء قنبلة فى حديقة منزله، والثانية بإحراق كشك الحراسة الذى أمام بيته!.
شهادات غير متوقعة
ترى الدكتورة منى أن هذا الرجل لم ينل حقه فى التكريم اللائق به، ويتفق معها فى ذلك الأستاذ هيكل، الذى كتب قائلا: أخذ مكرم عبيد أقل مما يستحق فى الاعتراف بدوره فى تمتين الرابطة الوطنية المصرية، وفى صميمها فكرة المواطنة.. من حيث إنه المسيحى القبطى المتمثل لروح الحضارة العربية فى أواخر العشرينات حتى الأربعينات أن يجعل من نفسه ومن دوره رمزًا بالغ الأهمية فى الحياة السياسية.
أما الكاتب أحمد بهاء الدين فكتب عنه: هو الفارس الذهبى للحركة الوطنية المصرية فى مرحلتها الليبرالية أى بين ثورتى ١٩١٩ و١٩٥٢، فهو طراز فريد فى الثقافة والذكاء، وطبيعة الفنان الخلاق فى الثقافة والسياسة.. فقد كان سابقًا لعصره فى الكثير من أفكاره، ولو كانت هناك قيادة سياسية على مستوى فكره لتغير الكثير من حياة مصر السياسية.
 أما الفنان محمد عبدالوهاب فتحدث عنه قائلا: عرفت الكثيرين من رجال السياسة البارزين، ولكنى لا أذكر أية علاقة وطنية حميمة قامت بينى وبين أهل السياسة كالعلاقة التى قامت بينى وبين مكرم عبيد الذى كان فنانًا حتى أطراف أصابعه فى جميع مجالات التذوق الفنى،  والمعاملة مع الأشياء وطريقة حياته.
تخبرنى الدكتورة منى أن لديها سيناريو جاهز عن حياة مكرم عبيد وكل أملاه أن تقوم الفنانة أنعام أحمد على بإخراجه لتضمن نجاح العمل بنزاهة وأمانة.
رحم الله هذا الرجل.. الذى لولاه لما نجحت ثورة ١٩١٩ولا عاشت ليومنا هذا كواحدة من أنجح الثورات فى تاريخ مصر الحديث. •