الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أرق من زجاج الشام

أرق من زجاج الشام
أرق من زجاج الشام


لسوريا فى قلوب المصريين مكانة محاطة بالحب والدفء، تلك المكانة التى تجعل زيارة سوريا حلما ليته يتحقق، وإن تحقق يحمل الذاهب إليها معه شغف رؤية ولمس ما سبق وسمع عنه، مع بلد كان هو الجزء الشمالى من بلده يوم كان البلدان «الجمهورية العربية المتحدة».
وبيقين كامل أول ما يتمنى رؤيته هو ذلك السوق الذى مازال صوت صباح يغنى له مؤكدًا تلك المكانة التى قد لا تعرفها الأجيال الجديدة أن يرى:« سوق الحميدية» ويردد الأغنية: «م الموسكى لسوق الحميدية أنا عارفة السكة لوحدية».
سوف يرى  ما قد سمع عنه، سيرى إبداع أيادى الصنيعية السوريين، فسوريا التى نعرفها لها تاريخ عريق وقديم فى إبداع الصناعات اليدوية، ومنها أومن صناعاتها اليدوية المهمة والبديعة والتى تحظى بشهرة عالمية صناعة المنسوجات اليدوية، التى تمتد جذورها لحقب يقدرها علماء التاريخ بآلاف السنين، ويعتقد أن سوريا هى الموطن الأقدم لصناعة النسيج فى العالم، وهى الأكثر تنوعًا حيث تنتج نحو مائة نوع من النسيج اليدوى، وكل نوع ينتج منه مايزيد على عشرين صنفًا مثل « البروكا» و«الدامسكو»ـ نسبة إلى دمشق- وغيرهما.
تلك الأقمشة التى يشير امتلاك قطعة منها لوضع اجتماعى مرتفع، وكم كانت الأقمشة السورية مدعاة لفخر العروس التى يضم جهازها قطعًا منها تتباهى بها أمام الأهل والجيران والأصدقاء، خاصة مفرش السرير الحريرأو الستان المطرز عليه ورود وعصافير وقلوب بخيوط الذهب والفضة ذلك المفرش الذى سيستقبلها فى ليلة زواجها الأولى وغالبا ما يكون لونه ورديًا إضافة لبعض قطع الملابس الخاصة  والفساتين أيضًا.
كأنه يعزف على بيانو
يجلس متوحدًا مع قطعة من الخشب، تحمل إليها أنامله أسرار الجمال الفاتن، كأنه جالس على بيانو يعزف موسيقاه الخاصة التى ترددها معه قطعة الخشب التى قد تكون قطعة أثاث أو ديكور عادية قبل أن يعزف عليها بأصابعه لحنه الخاص، إنها صناعة «الموزاييك الدمشقى» أو فن تطعيم الخشب بالصدف، وهو العازف العاشق صنايعى الموزاييك، وهى من أقدم الصناعات والمهن العريقة، التى أشتهرت بها ولا تزال دمشق.
وحتما سيرى الزائر إلى سوريا قطعًا من الموزاييك والفسيفساء فى بيوت الأصدقاء والأقارب، وسيرى أيضًا ليس فى البيوت فحسب بل فى الشوارع أيضًا، منتجات النحاس والفخار تطل بمساحة جمالها الخاصة وبإبداع أصابع صناعها. فلا يخلو بيت أيا كان وضعه الاقتصادى من أوانى الزرع الفخار ولن ترى العين نافذة خالية من أوانى الزرع المعلقة عليها مانحة بهجة الحياة وخضرتها للناظرين.
ولصناعة الزجاج الملون والمعشق تاريخ عريق فى سوريا يمتد لآلاف السنين وصلت لألفى عام مضت، وكما تعزف الأصابع على الخشب والنحاس والفخار، تعزف أيضا على الزجاج وتصنع من الألوان نغمًا نراه، لذا جاءت تسمية الزجاج المعشق بهذا الاسم لدقة صناعته التى تقاس المهارة فيه بـ« تعشيق» وبمدى ترابط وتماسك وتناغم الزجاج مع الجص، ومن شدة جمال ورقة الزجاج الدمشقى صار مثلا « أرق من زجاج الشام».
وللصابون الحلبى فى السوق المحلية والعالمية مكانة كبيرة، وهو من أقدم أنواع الصابون ولأنه مصنوع من زيوت نباتية ومواد طبيعية يسمى «بالذهب الأخضر»، وكان فى حلب ستين مصنعا للصابون تم ضربها فى حرب سوريا مع الإرهاب وحتى عام 2010 كانت تصدر 600 طن صابون للعالم سنويا.
  بوظة بكداش والكبة النية
إذا كان الذاهب إلى سوريا من جيل أغنية صباح حتما سيذهب إلى سوق الحميدية، وهو السوق الشعبية الأهم فى دمشق الشهيرة بالأسواق المتخصصة والتى حافظت على تخصصها وتميزها، فسوق الحميدية متخصص فى بيع الملابس والمفروشات، وبها  أسواق للبذور  والعطارة والجلود.
والزائر لسوريا سيسمع من السوريين من كل الأجيال التى سيلتقى بها جملة تبدو كعلامة وطنية خاصة وهى: «فى سوق الحميدية لازم تأكل بوظة آيس كريم  من عند بكداش» ويتبعها بالتأكيد على أن « اللى جه الشام يقصد دمشق ومكلش بوظة من عند بكداش يبقى مجاش الشام» والبوظة أو الأيس كريم  يصعب وصف طعمه ونكهته، وقد قيل إنه مصنوع من السحلب واللبن والمكسرات والمستكة، ربما ولكن المحل كأنه معمل، فهنا من يطحن شىء ما فى وعاء خشب كبير ربما يكون السحلب الخام، وهناك من يفرد على طاولة قطعة بيضاء مطاطة من الحلوى، وفى آخر مرحلة قبل أن توضع فى علبة وتقدم لمن سيأكلها هناك من يحشوها ويلفها بالفستق ويقدمها فى علبة حلوى لا مثيل لها ولا يمكن مقاربتها بلغة المثقفين مع طعم آخر، تحدث هذه المتعة منذ تأسيس «بوظة بكداش» فى عام 1885.
وتشتهر سوريا بصناعة بقية أصناف الحلويات التى وصلنا فى مصر أنواع منها خاصة التقليدية التى تصنع فى البيوت كالكنافة بالجبن والبرازق والمعمول  حيث تنتشر محلات الحلويات  بجودتها المرتفعة.
وللطعام الشهى فى سوريا مكانة كبيرة حيث تشتهر المرأة السورية وباللهجة المصرية «بالشاطرة» فهى « ست بيت ممتازة» تصنع كل ما يمكن صناعته من أجبان وحلوى وفطائر ومربات خاصة مربى اللارنج حيث تنتشر زراعته فى سوريا حتى إن السائر فى الشوارع سوف يرى أشجار اللارنج المثمرة والمتاح قطف ثمارها لمن يشاء، ولمربى اللارنج البيتى طعم يدل على دقة الصنعة ومهارة الصانعة.
ويعد المطبخ السورى من المطابخ الثرية بتنوع أصنافها وتعددها، وللسوريين نظام غذائى خاص حيث يهتمون بما يسمونه مقبلات، والمقبلات السورية وجبة متكاملة، فهى سلطات متنوعة منها التبولة طبق لذيذ أصبح معروفًا فى مصر مع انتشار المطاعم السورية بها منذ سنوات، وطبق آخر سلطة خضراء وخبز جاف مقلى فى الزيت، طبق لذيذ آخر اسمه فتوش مع ملاحظة أن عصير الليمون وزيت الزيتون من الأساسيات فى المقبلات، ومن المقبلات أيضًا الكبة أوالكبيبة الشامى كما يعرفها المصريون وأنواع من العجائن والفطائر ويقدم ورق العنب كمقبلات، «هل شبعتم أم ثارت شهيتكم للأكل» هذه بعض من المقبلات وللعلم هناك أنواع أخرى، ثم يأتى الطبق الرئيسى من لحوم ومحاشى وأرز ومكرونة.
الطعام السورى شهى ولكن على من لايعرف «الكبة النية» وهى تقدم كمقبلات وهى أكلة شهيرة وتقدم للعزيز الغالى فى سوريا، قبل الاقتراب منها هى « لحم نيئ» يقال إن مذاقه لذيذ جدًا وأنه مصنوع بحرفية عالية وأن تعلم صناعته وأسرارها تتوارثها الأجيال ولا يوجد فى سوريا امرأة إلا وتعرف كيف تصنع «الكبة النية» وهى بالمناسبة تعد وتتبل بتوابل خاصة وتدق وتفرد وتعجن فى وقت قيل إنه طويل لتخرج فى النهاية عبارة عن مربع من اللحم له رائحة طيبة ومن تذوقه أكد أنه لذيذ.
وتظل لسوريا فى قلوب المصريين مكانة مستقرة وكبيرة من الدفء والمحبة، مكانة يتشاركون فيها كل لحظة وجع عاشتها سوريا فى حربها مع الإرهاب، ولسوريا حلم تشاركها فيه مصر والمصريين، وهو عودة صوت أصابع أولاد سوريا وهم يعزفون لها موسيقى للحياة التى حتما بهم ستكون «أرق من زجاج الشام». •