الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

عن المطبخ الصحفى وديك المزبلة

عن المطبخ الصحفى وديك المزبلة
عن المطبخ الصحفى وديك المزبلة


كتب: فؤاد أبو حجلة


الذين تورطوا فى هذا الكار، أعنى مهنة الصحافة والكتابة الصحفية، ينقسمون إلى فئتين، فئة اختارت سكة السلامة وأخرى سلكت درب الندامة، وصل أبناء السلامة إلى المناصب والثراء، واستقر أبناء الندامة فى السجون أو ماتوا وهم أحياء فى شوارع الفقر والجوع وقلة الحيلة.
هذا حال الصحفيين والكتّاب، ليس فى بلادنا فقط، بل فى العالم كله، لكننا ننفرد بتخليق فئة ثالثة من الصحفيين الذين لا تنطبق عليهم مواصفات التصنيف، ولا يمكن اعتبارهم سالمين أو نادمين، لأنهم يبدون دائمًا حائرين، يقفون فى مفترق الطرق، ويبحثون عن شيء غير محدد، ومجهول تمامًا، وكأنهم ينتظرون أقدارهم.
أعترف بأننى أنتمى إلى هذه الفئة الحائرة التى لا تعرف ماذا تريد، ولا تستطيع أن تصدق خطاب الفئتين، وتجد صعوبة فى فهم الكلام الكبير الذى تجود به قرائح الجهابذة فى المعسكرين السالم والنادم، وخاصة أن خطابهما واحد، ومفرداته متشابهة، ومقدماته متطابقة، وإن كانت خلاصاته واستنتاجاته متناقضة!.
أعترف أيضًا بأننى لا أفهم لغوهم، ولا أستطيع تفسير مصطلحاتهم، وقد عجزت تمامًا عن إدراك مقاصدهم وحل ألغازهم، ولا أعرف إن كانوا فعلا يدركون أن ما يكتبون أحجيات صعبة الحل بالنسبة لكائن محدود الذكاء مثلى.
ولتسمحوا لى بأن أبدأ من داخل البيت الصحفى نفسه، حيث يكثر اللغو والهذر، ويتحدث البعض بفخر شديد عن المطبخ الصحفى الذى ينتج هذه الوجبات الإخبارية الدسمة، أنا بصراحة لا أفهم ما هو المطبخ الصحفى،  وقد عملت فى هذا الكار ما يقرب من أربعة عقود ولم أر مطبخًا صحفيًا فى جريدة أو مجلة، ولم يحدث أن شممت رائحة شياط خبر محروق فى حلة على النار.
لم يحدث أبدًا أن تغديت مثلا فى المطبخ الصحفى،  ولا أعرف إن كان فى هذا المطبخ ملوخية ومحاشى وكوارع، أم أن المقصود إنتاج وجبات إعلامية تشبع الحكومات والمعارضات لكنها لا تسكت جوع القراء «لأجل الدقة فى الوصف يمكن وضع حرف الفاء قبل حرف القاف».
ربما يكون المقصود باستخدام هذا المصطلح تبرير رائحة الزفر التى تفوح من الكثير من المنابر الصحفية، رغم أن أحدًا لا يبدى انزعاجه من هذه الرائحة.. واقع الأمر أن كل صحيفة أو مجلة أو موقع إخبارى يعتمد على نفر قليل من الصحفيين الذين يكلفون بتسويد البياض بما هو مطلوب من أنصاف الحقائق، وبما يخدم توجه المنبر وسياسته التحريرية، وهؤلاء محررون وليسوا طباخين، وإن كان بعضهم لا يؤمن أصلا بالتحرير أو الحرية.
فى المطبخ الصحفى أيضًا يتداول الصحفيون مصطلحات غريبة مثل «المجتمع الدولى» لكن أحدًا لا يوضح لنا مواصفات هذا المجتمع وخصائصه وحدوده وأين يعيش.
هل المجتمع الدولى هو كل دول العالم بما فيها مكرونيزيا وموريشوس وإمارة ليخنشتاين؟ أم أن المقصود شيء آخر؟
هل تصيغ جمهورية بنين موقف المجتمع الدولى من القضايا الكبرى؟ وهل تعنى دعوة المجتمع الدولى للتحرك مناشدة زائير مثلا لاتخاذ موقف حاسم من التصعيد الأخير واستئناف الحرب الباردة بين أمريكا وروسيا؟
حقيقة الأمر أن هناك دولا كبرى تتحكم فى حاضر ومستقبل العالم، ولا تراعى إلا مصالحها فى رسم سياساتها الكونية التى غالبًا ما تكون على حساب الغلابة الذين يسميهم الصحفيون أبناء دول العالم الثالث، رغم أن هذه الدول لا تقترب من التصنيف أصلا ناهيك عن احتلالها المركز الثالث!.. هناك ما هو أكثر غرابة فى هذا السياق، كالحديث مثلا عن توقيع اتفاقية تعاون عسكرى بين الولايات المتحدة ودولة قطر!.
هل يعنى توقيع الاتفاقية أن قطر ستزود أمريكا بمنظومات صواريخ متقدمة؟ وهل يمكن أن تتحرك قطر لصد هجوم روسى على الأسطول السادس الأمريكي؟.
نبقى فى المطبخ الصحفى الذى يتولى طباخوه صياغة عناوين غير مفهومة مثل «وزير الصحة يدعو إلى توفير الرعاية الصحية للمواطنين».. لا يقول لنا الصحفيون من هو المقصود بهذه الدعوة، وخاصة أن صاحبها هو المعنى أصلا بتوفير هذه الرعاية، لمن يوجه الوزير هذه الدعوة؟ هل المقصود هو حث الناس على معالجة بعضهم أو التداوى بالأعشاب والإكثار من شرب الشاى الأخضر والزنجبيل!.
هناك مصطلحات أخرى ملفتة يكثر تداولها فى الصحافة العربية، ومنها القول بأن شخصًا أو دولة «بين المطرقة والسندان»، وهو وصف ممل لكثرة استخدامه، رغم أننا نعيش فى دول وليس ورش حدادة، ورغم أن «الشاكوش» يكاد يختفى من حياتنا الزاخرة بكل أنواع المطارق العصرية.
يظل المصطلح الذى يستفزنى كثيرًا ويثير حيرتى هو «مزبلة التاريخ»، وأظل أتساءل إن كان فى التاريخ حقا مزبلة! وما هى مواصفاتها، وهل ينمو فيها البصل الأخضر، وتمتلئ بالقمامة التى يلعب بينها أطفال فقراء. هل هناك ديك فى مزبلة التاريخ مثل الديوك الأخرى التى تعيش فى المزابل؟ وبماذا يصيح ديك المزبلة؟.
ستظل حيرتى قائمة وسأظل مقتنعًا بأن «الديك الفصيح فى المزبلة يصيح»، وأتمنى ألا يصطاده أحد ويشويه فى المطبخ الصحفى.