الأربعاء 8 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

نوع من الفساد

نوع من الفساد
نوع من الفساد


أرسلتُ لها رسالة تهنئة بالوظيفة الجديدة، فأرسلتْ لى وجهًا ضاحكًا.. قائلة: أفتقدك! قابلينى لتهنئينى بنفسك. التقينا فى منزلها فقدمت لى ورقة مطوية أصرت ألا أفتحها إلا بعد شرب القهوة وتبادل الأخبار!.. أثار أسلوبها اشتياقى لمعرفة سر الورقة، فما إن انتهيتْ من سرد أخبارى وجاء دورها لتحكى عن نفسها، فأشارتْ لى بفتح الورقة، وكانت ورقة إنهاء عقدها بالوظيفة الجديدة! لاحَظَتْ أننى أقرأ بسرعة، فابتسمتْ قائلة: بالراحة.. خُذى وقتك! وبمنتهى الجدية رفعتُ رأسى لمواجهتها، وهى تنتظر رأيى،  فلم تجد سوى ابتسامة خافتة!
 وبدأتْ تحكى: منذ لحظاتى الأولى بالمنظمة الخيرية التى فزتُ فيها بالوظيفة، كانت القائمة بالمسئوليات الإدارية فى غياب المدير العام - ما جعلها مديرتى- تسعى لتوفير بيئة سلبية حولى؛ فأسكنتنى مكتبًا أقرب للمخزن، ليس فقط لا يليق بمديرة العلاقات العامة، بل لا يصلح للبشر، وحينما اعترضتُ أخبرتنى بمنتهى الهدوء أنه مكتب مدير العلاقات العامة السابق! فقلتُ لنفسى: لا يهم، صحيح أنه لا يقارن بمكتبى فى الجمعية التى أتيتُ منها، وصحيح أنها تُميز نفسها بمكتب كبير فخيم، ولكن ماذا يفيد جمال المكتب وحجمه.. إذا كانت الإدارة القديمة ومجلس الإدارة ليس لديهم خبرة، ولا يريدون فهم وظيفتى؟ وسريعًا ما كيفتُ مكتبى الجديد ليواجه السماء لا الحائط الذى فى وجهى،  ولا الملفات المتناثرة فى كل مكان.. وبدأتُ العمل! فقلتُ لها: بداية خاطئة يا صديقتى.. من يتنازل أولًا يتنازل أخيرًا! أطلقتْ وجهها للناحية الأخرى، ثم أعادته قائلة: كنتُ فى حاجة لترك عملى القديم، الذى كدتُ أصدق فيه أن سوء الإدارة الذى يعيقنى هو نتيجة لعدم امتلاكى المواهب والخبرات.. فقاطعتُها: وهكذا نجحت إدارة الجمعية القديمة فى هز ثقتك بنفسك!
لا تبتسم أبدًا
 استكملتْ: قدمتُ لها خطة عملى،  فبدأتْ تصحح اللغة لا الأفكار، ثم لاحظتُ أنها لا تبتسم أبدًا، وأن صوتها الهادئ يحمل نبرات السلطة والقهر معًا.. فانزعجتُ لخبرتى التى علمتنى أن الإنسان المقهور قاس! فسألتُ الزميلات عن بيئة العمل، وكيفية إدارتها، ففوجئت بمَنْ تقول: أهلا.. هى بدأت معكِ هكذا؟ وأخرى تخبرنى أن مقعدى هذا لا يستمر فوقه أحد إلا إذا قًبِل أن يعمل فى الظل، ولا تخرج من فمه كلمة لا، وأن يتحمل تدخلاتها فى التفاصيل رغم أنها ليست تخصصها! اكتأبتُ قليلًا معتقدة أن زميلاتى يبالغن، فطبقًا للجمعية التى كنتُ أعمل بها، حيث كان مديرى يعاقبنى لتميزى فيهملنى؛ لذلك قررتُ قبول تدخلات المديرة الجديدة لأنها فى النهاية تعمل ما تعتقده لصالح الجمعية، وبالتأكيد ستحترم حدودها حينما ستجبرها حرفيتى على ذلك! وأخبرتُ الزميلات أننى سأتعامل مع عيوبها، فهى «بنت ناس شبعانة» وأمثالها بالتأكيد لا ينقصها فلوس ولا مكانة ولا سُلطة! ضحكت زميلاتى فى وقت واحد متمنيات لى التوفيق.. بينما وقفت إحداهن قبالتى قائلة: أتحداكِ.. سجلى تاريخ هذا اللقاء للذكرى! قلتُ لصديقتى أن تصرف الزميلات لم يكن لائقًا، فقاطعتنى قائلة: أنتِ تعلمين أننى لا أصدق ما يقال، بل ما أختبره بنفسى!!
 سألتها إن كان رئيس مجلس إدارة المنظمة هو قائدنا فى الكشافة، أم أنه تشابه أسماء؟ فابتسمت ساخرة وهى تؤكد المعلومة، واستطردتْ: كذّبتُ نفسى حينما لاحظتُ ضيقها، وأنا أقدم نفسى للناس، ورغم ذلك.. كنتُ سعيدة جدًا ببيئة العمل التى أتاحت لى تفعيل خبراتى،  وتأكيد جديتى. فكان من السهل أن أتغاضى عن جفاف أسلوبها المستفز الآمر، فلم أكن أنوى عقد صداقات فى عملى الجديد! وبدأتُ أنغمس فى مهامى حتى قمتُ بتنظيم مؤتمر كبير، شهد الجميع أننى تفوقت فيه على نفسى،  ما جعل رئيس مجلس الإدارة يستدعينى ليهنئنى أمام الجميع على جهدى ونجاحى الملحوظ، وسريعًا ما التقطتُ ملامح غيرتها التى كنت لا أعطيها اهتمامًا، حتى فوجئت بها تصافح وتهنئ جميع الزملاء الذين ساهموا فى تنظيم المؤتمر، مبتهجة وهى تناديهم بأسمائهم، أما أنا.. فصافحتنى وهى تهمهم بكلمات غير مفهومة، وقد تشكلت ملامحها بالغيرة والغضب ما جعل إحدى الزميلات تلفت نظرها لضرورة تهنئتى باعتبارى صاحبة الفرح! ياه.. قلت لصديقتى،  التى بدأت تنفعل أثناء الحديث، وأجابت: وأكثر! اسمعى..
السفر بالطائرة
واستمرتْ: لاحظتُ أنها تقصد تحميلى مسئولية أخطائها، وأنها تمنع عنى بعض الامتيازات التى تمنحها لنفسها وباقى المسئولين، ففى إحدى السفريات لمحافظة سوهاج، تركتنى أخطط للسفر بالقطار رغم علمها بمشكلة ظهرى الصحية، ثم علمتُ بالصدفة أنها هى وصديقاتها ستسافر بالطائرة فاعترضتُ، وكان ردها: اكتبى اعتذار عن السفر! وقد استفزنى الموقف، قلتُ لصديقتى: إياكِ تكونى فعلتِ.. فلمستْ كتفى وقالت: بل كتبتُ شكوى لرئيس مجلس الإدارة باعتباره الشيف القائد الذى علمنا الكثر من القيم!! وقد أخبرتنى ملامحها أن الشيف خذلها، ثم قالت: لم أجد سوى رجل آخر لا أعرفه!  فى اليوم الثانى استدعتها المديرة وأخبرتها أن رئيس المجلس رأى أنه لا داعى لسفرها!
الدجاجة التى تبيض ذهبًا
 وماذا عن مجلس الإدارة؟ ألم تذكرى أنه الذى أصر على فتح وظيفتك وأجرى بعض أعضائه معكِ اللقاء؟ سألتها، فأخبرتنى: نعم، وكان بعضهم يعترف أمامى وورائى أننى ممتازة، ولا تنسى أنهم كانوا يريدون إنجاح الوظيفة التى أنشأوها. قلتُ: ولكنك ذكرتِ أن مديرتك كانت تقوم بهذه الوظيفة فى غيابك!! فصفقتْ بكفيها، وببعض الانفعال قالت: هنا بيت القصيد.. المجلس كان يريد أن يفرغها لتمارس عملها الأساسى فى كتابة المشروعات، ولتدع جانبًا الأدوار الأخرى التى اتضح أنها كانت تحب ممارستها، ولكنهم – صمتت قليلًا وكأنها تبحث عن الكلمات المناسبة – ثم قالت ببعض الشرود: فضلوا عدم مواجهتها بعيوبها لأنها الدجاجة التى تبيض ذهبًا للمنظمة.
 فكرتُ قليلًا، وأخبرتُها: القصة إذن أنها كانت تسعى لتطفيشك؟ وبانفعال ضربتْ كفها بكفها، وهى تقول اسم الله عليكِ.. هذا ما اكتشفته أنا أيضًا.. فتساءلتُ: ولكن لماذا لم ترفض قرار المجلس؟ شخص مثلها له قيمة فى نظر متخذى القرار.. كان سيؤخذ بكلمتها! هيه، قالت صديقتى،  مستطردة: تذكرى أنها مقهورة! معترضة، قلتُ: بل خبيثة.. قررتْ أن تؤدب المجلس الذى تجرأ على إخبارها بطريقة غير مباشرة أنها لا تصلح لهذه الوظيفة، فتظاهرت بالموافقة على القرار، ومارستْ دورها فى تطفيشك، وقد تسببتِ كمحترفة فى انهيار عرشها! هل تتذكرين حينما أخبرتِك إحدى عضوات المجلس أن هذه الوظيفة تتطلب شخصية قوية قادرة على تحمل المشاق.. ضحكتْ صديقتى وأنا أذِكرُها بأحداث توظيفها، فقلتُ: كان الحوار غريبًا فلم أنسه منذ شاركتنى فيه!
ولكن كيف انتهى الأمر؟ قالتْ: كانت الحفلة السنوية هى اللعبة التى قررتْ أن تضربنى بها. فبدأتْ تمارس مهامى متعللة بأننى جديدة، فقررتُ وضع حد للمهزلة، وانطلاقًا من مسئوليتى كمديرة العلاقات العامة.. كتبتُ إيميلًا لتذكير الناس بمهامهم، فما إن قرأته حتى فوجئتُ برئيس مجلس الإدارة يستدعينى لمكتبه فى حضورها، وكانت تبكى!! انزعجتُ متسائلة: تبكى؟؟ أكملتْ صديقتى ساخرة: وبدأ رئيس المجلس يكرر سؤاله عن خطة الحفلة.. وأنا أجيبه بأننى أرسلتها له منذ أسبوع، وفى لحظة انفعال أجابنى:  أعلم.. استلمتُها، وأنا أجيبه: ماذا إذن؟؟ فصرفنى وهو يعلم أننى أفهم اللعبة، وفجأة تكلمتْ مديرتى قائلة: لقد نسيتِ أن لديكِ مديرة!! متعجبة سألتُها: كل هذا لمجرد إرسالك إيميل تستخدمين فيه صلاحيتك كمسئولة؟
 أكملت صديقتى: خاصمتنى بعد ذلك الموقف، وبدأتْ  تتواصل معى عبر السكرتيرة! وسريعًا ما قرأتُ الموقف، وأدركتُ أننى هربتُ من نار جمعيتى لجحيم ذلك المكان الذى كانت هذه المرأة تثير فيه حولى طاقة  سلبية وكآبة سببت لى آلامًا عضلية رهيبة.. فقررت - بعد ٤ أشهر- إنهاء عقدى مع تلك المنظمة، وقطع إجازتى والعودة   إلى الجحيم الذى اعتدتُ عليه بجمعيتى. وساخرة سألتنى: لماذا؟ لماذا يحدث لى هذا؟ لماذا وأنا أمارسُ عملى بحب  وعطاء؟ لماذا، وإنتاجى يشهد بكفاءتى؟
 كان سؤال صديقتى يلح علىّ، وأنا أحاول البحث عن إجابة تفسر ما يحدث، حتى توصلتُ للنتيجة التى أثق أنها تعرفها: ليس للموهوبين مكان فى بيئتنا الحاضنة لكل أشكال الفساد، الذى لا ينحصر فى سرقة المال فقط. فمن يحطم ثقة الإنسان فى نفسه يقتله، ومن يستغل سلطته لإفساد سمعة الناس.. فاسد، ومن لا يساعد الآخرين على النمو لا يصلح لمكانته، ومن يجبر الناس على الطاعة المطلقة مريض نفسيًا.. ومن يسرق فرح الناس بعملهم يسلب أنفاسهم ويتسبب فى شللهم وتحطيم قوى الوطن.. وسريعًا ما تذكرتُ مصطلح «حزب أعداء النجاح» الذى ابتكره الأستاذ مفيد فوزى.. ولكنى الآن أراه متجسدًا فى قصة صديقتى التى لا تجد مكانًا يستوعبها لمجرد أنها صادقة وموهوبة!
عادت صديقتى لعملها بالجمعية التى استقبلتها بأذرع مفتوحة.. لنوع من فساد آخر، سأرويه لكم! •