الثلاثاء 11 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الـقيـادة

الـقيـادة
الـقيـادة


توقفنا فى الأسبوع الماضى عند نقطة مواجهة الدولة المصرية للأزمات المتجذرة الظاهر منها والخفى وأبرز مثال على النوع الظاهر من هذه الأزمات هو كارثة العشوائيات والملايين من المصريين المصابين بفيروس الكبد ومن كثرة اعتيادنا على وجودها أصبحنا نتقبلها كأمر  واقع ولم نتصور أن تأتى الدولة فى يوم ما وتقرر المواجهة والحل.
أما النوع الخفى الذى يطبق على مقدرات الأمة ولا نستطيع تلمس أسبابه فأقوى ما يشير له حالة التردى الصحى والمعيشى الضاربة بعمق فى كثير من شرائح المجتمع المصرى بل لا نبالغ أن قلنا أنها ترسخت فى جسد الأمة لتصبح أزمات تاريخية.
للأسف ظللنا فى العقود الماضية لا نملك مهارة التشخيص حتى نصل لتلك الأسباب ثم نعمل على حلها، لكننا فى النهاية كنا نستشعر الأثر الرهيب لهذا النوع الخفى من الأزمات المتجذرة وكان يلزم لمواجهتها دولة حديثة متطورة الوظائف كما حادث الآن.
قبل الدخول فى آليات تنفيذ هذه المواجهة حتى الانتصار يجب أولا طرح سؤال هام: لماذا استطاعت الدولة المصرية متمثلة فى القيادة السياسية اتخاذ القرار بمواجهة الظاهر والخفى من الأزمات بهذه القوة والسرعة والتصميم؟.
لكى نعثر على إجابة لهذا السؤال يجب أن نعرف طبيعة الظرف الذى أتت فيه القيادة وأيضًا تحولات العلاقة الأعرق على مستوى الوجود البشرى بين الأمة المصرية والقيادة.
عندما تتخذ القيادة المصرية قرارًا بهذا الحجم فإنها تعلم جيدًا أنها تطبق قرارًا مصيريًا يهدف إلى علاج أمراض استعصت على البعض والأغلب لم يهتم بعلاجها أحد.
فى نفس الوقت تعلم القيادة أن العلاج ليس هينا أوسهلا وطبيعته مؤلمة مثل العملية الجراحية اللازمة للشفاء، ولكن الفرق بين العملية الجراحية الطبية والعملية الإصلاحية أن الأولى تجرى تحت تأثيرالتخدير والثانية أساسها المصارحة.
اتخذت القيادة القرار رغم مصيريته وألم العملية الإصلاحية وذلك لأن القيادة جاءت فى ظرف تاريخى مؤسس فارق، فثورة 30 يونيو لم تكن فقط ثورة من أجل الإطاحة بحكم الفاشيست الإخوان وإنهاء قرن من التلفيق بين ماهو سياسى ودينى هذا التلفيق الذى استفاد منه الفاشيست طويلاً.
كانت ثورة يونيو أعمق من هذا فى تأثيرها على الأمة، فالأمة أرادت بثورتها كتابة عقد اجتماعى جديد بين المواطن والدولة ولكن ليست أى دولة.
أرادت الأمة دولة حديثة فى جميع مقومتها تنهى العلاقة بالدولة المصرية الأولى التى أسسها محمد على بشقيها الملكى والجمهورى بعد أن أدت الدولة الأولى كل ماعليها تجاه الأمة واستنفذت كامل طاقتها.
اختارت الأمة فى هذه اللحظة التاريخية الفارقة بكامل إرادتها الثورية والديمقراطية عبر صناديق الاقتراع قيادة قادرة على تنفيذ التكليف ببناء الدولة المصرية الثانية والحديثة وفق مقومات العصر الذى نعيشه مع إدراك الأمة مشاق وتحديات البناء والعملية الإصلاحية.
نأتى هنا إلى الشق الثانى وهو طبيعة العلاقة الأعرق بين الأمة المصرية والقيادة لنفهم هذه الطبيعة يجب إدراك محددات ثلاث موغلة فى تاريخ الأمة المصرية الممتد لسبعة آلاف عام فهذه الأمة طوال وجودها عبدت إلهًا واحدًا ومصدر الحياة فيها من نهر واحد وإدارة السلطة والقرارالنهائى فى شئونها مستمد من قائد واحد.
حكم هذا المثلث الفريد علاقة المصرى القديم والحديث بالسلطة التى تديره ورأس السلطة المتمثل فى القائد، قد يظن البعض أن الضلع الثالث فى المثلث أى العلاقة بين الأمة والقائد ينفى العمل الديمقراطى.
فى الحقيقة هناك فارق بين شكل النظام السياسى والمؤسسات التى تديره بحكم الدستور كالبرلمان والقضاء والسلطة التنفيذية ومراقبة الصحافة لعمل هذه السلطات والصلة الفريدة بين الأمة المصرية والقائد الحائزعلى ثقتها، فتلك الصلة قائمة على جذور تاريخية واجتماعية ووجدانية تخص الحالة المصرية بعيدًا عن شكل النظام السياسى وآليات عمله.
تعطينا هذه الصلة الفريدة بين الأمة المصرية والقائد الحائز على الثقة إشارات هامة تلقى الضوء على سؤال مهم: لماذا تتحرك الأمة ضد السلطة الحاكمة مطالبة بتغيرها فى لحظة تاريخية ما وفى لحظة مغايرة تعطى لقائد آخر ثقة مطلقة وتكلفه بعملية البناء رغم تحدياتها وتتحمل معه كل المصاعب؟.
أرجع الكثيرون لحظة التحرك ضد السلطة أو إعطاء الثقة المطلقة للقائد إلى تفسيرات سياسية واقتصادية وقد تكون الأسباب السياسية والاقتصادية عوامل مساعدة ولكن كما أعتقد فالسبب الرئيسى فى التحرك الضد أو إعطاء الثقة يعود إلى هذه الصلة الفريدة فإن اهتزت تحركت الأمة وإن ثبتت ثبتت الأمة وراء قائدها.
يعطى التاريخ المصرى القديم والحديث منه أمثلة كثيرة تبين متى تهتز هذه الصلة وتشعر الأمة وقتها أن قائدها لا يمتلك قدرة إعطاء القرار النهائى وأن هناك شراكة تسللت إلى عرين السلطة ولم تعد الصلة بين الأمة والقائد خالصة بينهما تدرك وقتها الأمة بحسها الوجدانى أن القائد غلت يده عندما سمح لهذه الشراكة بالتسلل وكسر ضلع من أضلاع المثلث الحاكم للوجدان المصرى منذ آلاف السنين.
عندما نرصد الحراك الجزئى فى يناير 2011 ثم الخروج الكامل للأمة بعنفوان طاقتها فى ثورة 30 يونيو نجد أن هناك سببًا مرتبطًا باهتزاز الصلة بعيدًا عن العوامل السياسية والاقتصادية المساعدة.
سبق يناير شراكة التوريث وأصبحت القيادة مقسمة على عائلة حاكمة وقبل يونيو كان الوضع أكثر كارثية، فبدلًا من العائلة أدركت الأمة بوضوح لا يقبل الشك أن الحاكم الحقيقى عصابة فاشية تتلاعب بمسخ مشوه وضعته على رأس السلطة وسمته رئيس.
قد تتحمل الأمة المصرية جميع المصاعب وتتقبلها لكنها لا تطيق صبرًا على تشظى القيادة وعدم وجود قائد واحد واضح فى يده القرار، وهذا  ليس غريبًا على أمة هى من أهدت البشرية مفهوم الدولة وترسخت  فكرة مركزية القيادة فى وجدانها عبر آلاف السنين.
تحقق اللحظة التاريخية الفارقة التى أتت من خلالها القيادة ومركزية القيادة وثباتها هو مافتح الباب على مصراعيه أمام قدرة الدولة على مواجهة الأزمات الظاهر منها والخفى واتخاذ قرار مصيرى بإنهاء هذه الأزمات وتخليص الأمة المصرية من أعبائها التى عانت منها طويلا.
رغم مكاسب الانتصار الذى حققته القيادة بالمواجهة والتغلب على الأزمات ثم إنهائها من خلال عملية الإصلاح إلا أن هناك من يرى صعوبات تواكب هذا الإصلاح ويتم تحملها من قبل المجتمع هذه الرؤية تغفل شيئًا هامًا هو أن طريق عملية الإصلاح ليس سهلا أو هينًا.
نضرب مثالًا بسيطًا لو أراد طالب تحقيق النجاح ثم التفوق هل سيتخذ اللهو سبيلا أم سيتخذ طريق الجدية؟ الأمم المتفوقة مثلها مثل هذا الطالب إذا أرادت النجاح والتفوق سيكون قرارها الجدية والالتزام وستتحمل كل المصاعب وتبذل مزيدًا من الجهد لتحقيق هدفها المنشود.
فى بعض الأحيان يُقابل المجتمع الجدية المصاحبة لعملية الإصلاح بحالة من الاستغراب وقد يحاول الإفلات منها وهذا أمر طبيعى، فخلال العقود الماضية ألفت الأمة التهريج واللامبالاة فى مواجهة أزماتها، ووضعت السلطة كل هذه الأزمات فى خانة التسويف، لذلك عندما تقرر القيادة الآن إنهاء حالة التهريج واللامبالة وتواجه الأزمات ينتابنا هذا الاستغراب بسبب انتقال المجتمع من منهج التهريج إلى منهج الجدية والالتزام.
ما تحققه الدولة والقيادة من انتصارات بعد تطور وظائفها لتصبح دولة الأمان والرعاية ليس هدفها إثبات التفوق بل أن يكون أول المستفيدين من عوائد هذا الانتصار الشرائح الأكثر احتياجا فى المجتمع وهو الهدف الرئيسى من عملية الإصلاح.
هذه الشرائح التى تم إهمال وجودها لعقود طويلة بدأت الآن فى عام الانتصار تحقق مكاسب افتقدتها من زمن بعيد، تلك المكاسب هى روح العدالة الاجتماعية الحقيقية وهى الانتصار الذى أهدته الدولة والقيادة للأمة المصرية فى عام انتصار الدولة.