الجمعة 26 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

لجنة مواجهة الأحداث الطائفية.. وعودة الدولة المصرية

لجنة مواجهة الأحداث الطائفية.. وعودة الدولة المصرية
لجنة مواجهة الأحداث الطائفية.. وعودة الدولة المصرية


مصر عرفت الفتنة الطائفية مبكرًا، ودفعت ثمنها غاليًا، من حريتها واستقلالها الوطنى.. فى خضم أحداث الثورة العرابية، دبرت بريطانيا «مذبحة الإسكندرية» يونيو 1882، التى بدأت بشجار بين أحد المالطيين من رعاياها، وأحد الأهالى حول أجرة عربة الكارو، وانتهت بأعمال عنف طائفية، قتل فيها 50 أوروبيًا و250 مصريًا.. إنجلترا وظفت الحادث لشن حملة دولية تتهم مصر بالتعصب ضد الأجانب والمسيحيين، وكانت تلك مقدمة لاحتلالها فى أغسطس 1882، لقرابة 70 عامًا.. وظلت تبرر استمراره بدعوى حماية الأقليات.

الفتنة الطائفية على مستوى العلاقة بين عنصرى الأمة، المسلمين والمسيحيين، عرفتها مصر نتيجة لعاملين؛ الأول: النزعة للتشدد نتيجة لثقافة وافدة من بعض دول الخليج، حتى إن لفظ قبطى المستخدم للدلالة على المصرى بغض النظر عن ديانته، أصبح يستخدم للدلالة على المسيحى فقط، الثانى: توظيف الرئيس السادات نشاط الجماعات الإسلامية، لمواجهة الجماعات اليسارية.. وللأسف الشديد، فقد دفع حياته ثمنًا لذلك الخطأ، الذى تداعت قبله أحداث الفتنة الطائفية منذرة.
الخانكة وأحداث السبعينيات
أولى وقائع الفتنة الطائفية شهدتها الخانكة 1972، عندما أحرق المتطرفون مبنى جمعية «الكتاب المقدس»، بدعوى تحويله إلى كنيسة دون تصريح، القساوسة تزعموا مسيرة للمبنى وأقاموا قداسًا دينيًا، المتطرفون اعترضوهم، فوقعت الاشتباكات، واحترقت عدة منازل.. أعقبها الاعتداء على كنيسة الملاك وتحطيم بعض محلات المسيحيين بأسيوط 1975، وهجوم عناصر الجماعات الإسلامية على الطلبة المسيحيين بالسلاح الأبيض، فى أسيوط 1978 و1981، والإسكندرية 1980.
طائفية الثمانينيات والتسعينيات
الخلاف على قطعة أرض بين المسلمين والمسيحيين بالزاوية الحمراء 1981، أدى لإسقاط عشرات القتلى، وإحراق عشرات المنازل والمحلات.. الاستهداف الطائفى ينتهى عادة باستهداف الدولة، إذا ما حاولت مواجهته؛ مذبحة أسيوط  نفذتها الجماعة الإسلامية، صبيحة عيد الأضحى 1981، اغتالت 118 من الجنود والضباط، بعد اغتيالها للرئيس السادات.. جماعة «التوقف والتبين» المتطرفة حاولت إثارة الفتنة بالفيوم 1984، أحرقت السينما، وممتلكات بعض المواطنين المسيحيين، اعترافات أعضائها كشفت خروجها من رحم جماعة الإخوان، وتعاونها مع تنظيم الجهاد، وتمويلها من خلال عمليات السرقة والنهب.. توليفة كاشفة لمعادلة الفتنة الطائفية فى مصر: 
الجماعة الإسلامية استهدفت ممتلكات بعض المسيحيين فى بنى سويف فبراير 1987، والمتطرفون المسيحيون أحرقوا مسجد القطب بسوهاج، وأصداء التوتر تعددت فى كفر الشيخ وأسيوط.. فتنة أبوقرقاص 1990 نتجت عن ترويج البعض لشائعات مغرضة، أعقبتها الفيوم والإسكندرية وإمبابة.. منشية ناصر بأسيوط وطما بسوهاج 1992، ثم أحداث أسيوط 1993 و1994.. وفى القوصية أكتوبر 1994 حاول البلطجية الاستيلاء على الأموال بدعوى تحصيل الجزية والإتاوات من المسيحيين!!.. فى انتخابات مجلس الشعب 1995 تم توظيف الطائفية فى الدعاية الانتخابية لدعم بعض المرشحين.. وانتقلت الأحداث لقرية دميان بالشرقية، وعزبة الأقباط ببدارى أسيوط 1996.. أحداث الكشح بسوهاج ديسمبر 1999، أوقعت عشرات الضحايا.. العرض المسرحى المسىء بكنيسة الإسكندرية 2006، أشعل اشتباكات وأوقع المزيد من الضحايا.. وحادث مطرانية نجع حماد واشتباكات مطروح والعمرانية اختتما عام 2010.
العلاقة بين الطائفية والإرهاب
تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية مطلع 2011، كان نقطة البداية لتنفيذ مخطط فوضى يناير.. الإخوان والسلفيون الذين دأبوا على إثارة الفتنة الطائفية، حاولوا الوقيعة بين الشعب والجيش، مما يؤكد أن الهدف فى كل الأحوال هو النيل من الدولة المصرية، ومدوا شباك الفتنة وجرائمهم لتفجر العلاقة مع الشيعة ومع الطائفة الصوفية أيضًا.. بعد فض اعتصامى رابعة والنهضة 2013 دمروا 42 كنيسة ومبنى تابعًا للمسيحيين وفقًا لتقديرات «هيومن رايتس ووتش».. عودة الدولة المصرية بعد 30 يونيو، أجبر المتطرفين، صناع الأحداث الطائفية على النزول تحت الأرض، فتحول نشاطهم إلى عمليات إرهابية منظمة، وتأكدت العلاقة العضوية الوثيقة بين الفتنة الطائفية والإرهاب.
خطيئة المجالس العرفية
المناخ المحيط ببعض المناطق، خاصة فى الصعيد، تغلب عليه الطائفية، وتفسير الأحداث ينطلق من قناعات طائفية، لذلك لم يكن غريبًا أن يتم توصيف الجرائم الجنائية استنادًا لمفاهيم طائفية، وخاصة أن هناك من يذكى الإحساس بالمظلومية، وذلك وحده كفيل بإشعال نيران حرب طائفية، وآخر الأمثلة على ذلك واقعة أمين الشرطة حارس كنيسة المنيا، الذى قتل المقاول ونجله، لأسباب لا علاقة لها بالطائفية.. الخوف من خطورة تداعيات أحداث الفتنة الطائفية، فى عهد الدولة الـ«مرتعشة» القديمة، أرسى قواعد «رخوة» للتعامل، تبدأ بإسقاط القانون، وتتحول الأجهزة المسئولة عن الردع وحماية المواطن، إلى محاور «طيب» للجناة، ضمن مجالس عرفية للصلح، يُجبر المجنى عليه على حضورها، ويتم الاستعانة فيها بقيادات سلفية شاركت فى زرع التطرف والفتن، تحت رعاية المؤسسات الدينية.. وبالطبع، فإن المعتاد ألا يتم الكشف عن الجناة الحقيقيين لمعاقبتهم، لأن بعضهم أو ذويهم، يشاركون فى الجلسة، مما يؤدى لصدور أحكام لا علاقة لها بسيادة القانون أو بحقوق المواطنة الواردة فى الدستور، بل ترتكب فيها جرائم جديدة، تحقق هدف الجناة فى تهجير بعض الأسر، أو سداد ديات رمزية عن جرائم كبرى، وينتهى المجلس بتبادل القبلات والأحضان، والتقاط صور تذكارية لشيوخ تعانق قساوسة، تاركين حالة الاحتقان تتفاقم.
بيت العائلة المصرية
منذ أن أنشئ «بيت العائلة المصرية» منتصف أكتوبر 2013، ومجلس أمنائه يترأسه فضيلة الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، بالتناوب مع قداسة البابا تواضروس الثانى.. كانت الدولة المصرية تمر بفترة نقاهة، أعقبت سقوط حكم الإخوان، الذين كانوا مع السلفيين مازالوا يزرعون الفتن، ويحرقون دور العبادة لإشعالها، دعمًا لعمليات الإرهاب المنظم، لذلك لم يكن غريبًا أن تلجأ تلك المؤسسة الوليدة إلى نفس الآليات التقليدية، التى تدفع قامات وطنية لترجى مفجرى الفتنة بأن يوافقوا على صلاة المسيحيين فى المبانى التى هاجموها بشبهة تحويلها لكنائس، وذلك فى نفس الوقت الذى يستخدم فيه بناء الزوايا والمساجد فى القرى والعشوائيات كذريعة لمخالفة قوانين البناء على الأراضى الزراعية.
لجنة مواجهة الطائفية
عودة الدولة المصرية القوية، وتجاوز عثرات «الدولة الرخوة»، فرض التخلى عن الآليات القديمة، كما أن كشف العلاقة العضوية بين الفتنة الطائفية والإرهاب، فرض وضع آليات جديدة لها، ضمن المواجهة الشاملة للإرهاب التى بدأت بالعملية «سيناء 2018».. لذلك صدر قرار رئيس الجمهورية رقم 602 لسنة 2018، بتشكيل لجنة مركزية «اللجنة العليا لمواجهة الأحداث الطائفية»، برئاسة مستشار رئيس الجمهورية لشئون الأمن ومكافحة الإرهاب.. اللجنة تجمع فى عضويتها ممثلى كل الجهات السيادية والأمنية بالدولة «هيئة عمليات القوات المسلحة، المخابرات الحربية، المخابرات العامة، الرقابة الإدارية، والأمن الوطنى»، وقد سمح قرار إنشائها عند نظر الموضوعات ذات الصلة، بدعوة من تراه من الوزراء أو ممثليهم وممثلى الجهات المعنية، ما يعنى أنها لجنة إدارة أزمات، مهمتها استشارية لرئيس الدولة، لمواجهة الأحداث الطائفية، ووضع الاستراتيجية العامة الكفيلة بمنع وقوع تلك الأحداث، ومتابعة تنفيذها، وتحديد آليات مواجهتها، واحتواء تداعياتها حال وقوعها، وتعد اللجنة تقريرًا دوريًا بنتائج أعمالها وتوصياتها وآليات تنفيذها لعرضه على رئيس الجمهورية.
أعضاء مجلس النواب أبدوا تحمسًا لتشكيلها، وحرصهم على دعمها بالتشريعات المطلوبة لتيسير عملها، والمساعدة على إعمال القانون، والمساواة فى المعاملة بين المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية.. والطوائف المسيحية الثلاث «الأرثوذكسية، الكاثوليكية، الإنجيلية» أشادت بتشكيلها، أما من دعوا لضم الأزهر والكنيسة، أو بعض الجهات المدنية، أو تكليف اللجنة بتوحيد الخطاب الدينى، فهم إما غافلون عن طبيعة مهمتها، أو حريصون على أن تستمر مصر داخل الدائرة الجهنمية للفتنة الطائفية.. مصر عادت ياسادة، أفلا تعقلون؟!.
الطائفية وسيادة القانون
مصر دولة موحدة، لا تميِّز بين مواطنيها، عبدالناصر وضع حجر الأساس للكاتدرائية البطرسية بالعباسية.. فؤاد عزيز غالى كان رأس الحربة فى حرب أكتوبر المجيدة، وتولى بعدها قيادة الجيش الثانى الميدانى.. أول شهيد فى الحرب كان اللواء شفيق مترى سدراك قائد اللواء الثالث مشاة ميكانيكى بالجيش الثالث الميدانى.. اللواء مهندس باقى زكى يوسف فك شفرة خط بارليف، واستخدم المياه فى فتح ممرات فى الساتر الترابى لتأمين عبور الجنود.. مصر شنت غارات جوية عنيفة فبراير 2015، على مواقع الإرهابيين الذين قتلوا 21 قبطيًا فى ليبيا، رغم أنها تقع خارج حدود السيادة الوطنية، بكل ما يترتب على ذلك من مخاطر ومسئولية دولية.. المرحلة القادمة ستشهد تطبيقًا صارمًا للقانون على كل أطراف الجرائم الجنائية، التى دأب البعض على وصفها بالفتنة الطائفية، وذلك بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية، أو أوضاعهم القبلية أو العائلية.. حقوق المواطنة متساوية، وكفالتها مسئولية الدولة، لا للأزهر الشريف، ولا للكنيسة.. هو موضوع له عنوان واحد كبير: «عودة الدولة المصرية». •