الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

نساء إحسان من الأدب إلى السينما

نساء إحسان من الأدب إلى السينما
نساء إحسان من الأدب إلى السينما


كتب: محمود قاسم
إحسان عبدالقدوس صاحب مسيرة سينمائية متفردة فى المقام الأول، ليس فقط بسبب الموضوعات الحساسة التى ناقشها فى نصوصه الأدبية، بل فى اتساع هذا العالم وجرأته الشديدة، وقد كان هذا عاملاً ملحوظًا فى أن يتهافت المخرجون والمنتجون على إبداعاته من قصص قصيرة، وروايات، بالإضافة إلى أنه قام بنشر بعض من سيناريوهات أفلامه أولًا فى صباح الخير، ثم اهتم بنشر النصوص نفسها فى كتب يطالعها القراء مثلما يفعلون مع النصوص الأدبية، ومنها «بعيدًا عن الأرض» و«هذا أحبه وهذا أريده»، وقد كان إحسان هو الأسبق فى كتابة السيناريو والتعامل مع السينما، ولم يسبقه فى ذلك إلا نجيب محفوظ.

جَرَّب إحسان الكتابة للقصص والسينما بأشكال متعددة، وترك لأقرانه ومنهم محفوظ نفسه مهمة تحويل الكثير من نصوصه إلى أفلام، لكن المثير للدهشة أنه ابتداء من عام 1952، وعقب قيام ثورة يوليو، اتجه إلى كتابة السيناريو فقط دون أن تكون تلك الكتابات مأخوذة عن نصوصه الأدبية، وبدا ذلك واضحًا فى كتابة قصة فيلم «الله معنا» لأحمد بدرخان، حيث كان الكاتب على علاقة قوية بالضباط الذين قاموا بالثورة، وعلى رأسهم محمد نجيب، والبكباشى جمال عبدالناصر، وحسب الإعلانات المنشورة عن أخبار الفيلم ابتداءً من سبتمبر 1952، فإن ضباط يوليو كانت لديهم الرغبة فى عمل فيلم روائى سينمائى عن قصة الثورة، عهدوا بكتابتها إلى إحسان عبدالقدوس، والغريب أن الشخصية الرئيسية الثانية كان هو محمد نجيب قائد الثورة، وبدا من المنشور عن أخبار التصوير أن الفيلم بمثابة تأكيد لقيادة نجيب للثورة، وباعتبار أن الفيلم بدأ تصويره طوال عام 1953، فإن الصور التى كانت تنشر تمثل زكى طليمات إلى جوار فاتن حمامة، وقام طليمات بدور نجيب، ولا أعرف متى انتهى تصوير الفيلم بالكتابة الأولى التى كتبها إحسان، لكن مع عام 1954، كان الفيلم قد نسب إلى مجهول لا يعرفه أحد، وقام المؤلف بإعادة كتابة سيناريو مخالف تمامًا تم فيه إلغاء الشخصية التى تمثل قائد الثورة الحقيقى محمد نجيب، وعرض الفيلم بصورته النهائية فى مارس 1955، ولم يجرؤ أحد على التساؤل عن مصير الفيلم، ولم نسمع أحدًا من فريق الفيلم خاصة المؤلف والمخرج يتحدث عن هذا التغير الحاد حول واحد من أهم الأفلام عن ثورة 1952، وفى تلك الفترة كان الكاتب قد تعرض لمحنة السجن وفى تلك الفترة أيضاً كان عبدالقدوس قد كتب سيناريو فيلم اجتماعى بعيد تماماً عن السياسة باسم «نساء بلا رجال» أخرجه يوسف شاهين عام 1953.
تلك قصص لا يعرفها إلا القليل من الأشخاص، لكن الصور موجودة فى الكتب والمجلات التى تنتمى إلى تلك الحقبة، وفى عام 1956، بدأت مرحلة جديدة ومختلفة تمامًا عن علاقة نصوص إحسان عبدالقدوس بالسينما، وفى تلك الفترة كان المؤلف يكتب روايات قصيرة والتى سميت بالنوفيللا، ومنها «أين عمرى»، وفيها تألق الكاتب بالتأليف بأسلوب كان قد انتشر فى الأدب الأمريكى على يدى أرنست هيمنجواى وجيمس كين، وهو أسلوب استخدمه أدباء عملوا مراسلين للصحف، أو كتبوا الروايات البوليسية، وكانت القصص أغلبها نسوية الموضوعات، أبطالها من النساء، اللائى لعبن دورًا فريدًا فى تغيير صورة المرأة، وبالنسبة للسينما والأدب فإن النساء قبل إحسان بعدالقدوس كن من طراز الست أمينة، أو حميدة عند محفوظ أو فاطمة فى «قنديل أم هاشم» ليحى حقى أما علية فى «أين عمرى» فهى التلميذة التى تزوجت من عمو عزيز وهى فى سن المراهقة، ولما تمت خطبتها تصورت أن الزواج هو إحدى الألعاب التى كان يحضرها لها الرجل العجوز الذى صار زوجها، وراح يمارس عليها جميع قيود وغيرة الرجل الشرقى، ما دفعها إلى التمرد، وهكذا كانت صورة علية، أولى البنات المتمردات فى الأدب والسينما كما قدمها لنا الكاتب، وهى التى سوف تتكرر بشكل واضح فى الأعمال التالية، خاصة فى السينما حيث وجد صلاح أبوسيف بغيته فى هذه الكتابة، فأخرج للسينما تسع روايات كانت البطلة فتاة تنتمى إلى الأسرة الراقية أو المتوسطة التى تصبح متمردة تبعًا لموقف تعرضت له، ومنها على سبيل المثال سميحة فى «الوسادة الخالية»، التلميذة المطيعة التى تعيش تجربة الحب الأول مع الشاب الجامعى صلاح، ولا تخرج عن طاعة أسرتها عندما يطلبها العريس المناسب، لم تكن سميحة البنت المتمردة بالنسبة لأسرتها، أو المجتمع، لكنها تمردت على حبيبها، وأولته ظهرها، وقبلت التجربة، خاصة أن زوجها كان بالفعل نموذجًا للرجل الناجح، ورغم أن صلاح ظهر فى حياتها مجددًا بعد الزواج، وحاول إعادتها إلى صفحته لكن سميحة لم تنظر أبدًا خلفها.
فى العام نفسه ظهرت امرأة جديدة فى أدب وسينما الكاتب، إنها نادية لطفى، وهى نموذج مقارب جداً لفتاة مثل عمرها فى رواية «صباح الخير أيتها الأحزان» لفرانسواز ساجان، فكلاهما وحيدة أبيها، وتسعى إلى إفشال أى علاقة جديدة فى حياته حتى تظل محتفظة به، ولم تكن نادية لطفى متمردة فى منظور من حولها بل هى نموذج جديد يراه المتفرج على الشاشة، بينما هى التى تتفنن فى تدبير المؤامرات العائلية، لكن هناك أيضًا زوجتا الأب اللتان تدخلان فى حياتها.
صارت نساء إحسان الرئيسات هن صاحبات المواقف غير التقليدية فى الحياة، وبدا ذلك واضحًا فى الأعمال التالية التى أخرجها أبوسيف ومنها «الطريق المسدود» 1958، و«أنا حرة» 1959، و«لا تطفئ الشمس» 1960، وكان المخرج قد رأى فى كل من فاتن حمامة، ولبنى عبدالعزيز صورة للمرأة الجديدة التى تتحرر من الأهل، وتفكر على طريقتها، ولا تتقبل تشدد الرجل خاصة فى موضوع العلاقات العاطفية، مثل فايزة فى «الطريق المسدود» التى وقفت ضد أسرتها، ولم تمتثل للكاتب الذى تقرأ أعماله وهى تكتشف أنه يكتب عكس تصرفه، وتنتقل إلى الريف لتعمل هناك، هاربة من سلوك الناس فى العاصمة، وتصدم أكثر فى أخلاق المجتمع الريفى برمته، فتهجره إلى القاهرة مجددًا، أما فى «أنا حرة» فإن أمينة هى متمردة ضد الجميع، ضد العريس الجاهز، وزوج العمة المتشدد فى أفكاره، وهى تختار كل من تريد بحساباتها الخاصة التى تتعارض بشدة مع المجتمع لدرجة أنها تعيش مع حبيبها عباس دون أن يقيدهما قيد الزوجية.
إحسان عبدالقدوس حكاء متميز. ينتمى إلى طبقة اجتماعية راقية ولكنه كان كثيرًا ما ينتقد سلوك بناتها بشكل شخصى، وقد كانت المرأة دومًا هى محور حكاياته، ولم تكن المشكلات الكبرى تعنى هذه المرأة، وبالنسبة لصلاح أبوسيف فإنه توقف عند نماذج متباينة من النسوة وقدمهن، ومنهن بنات العائلة الراقية فى رواية «لاتطفئ الشمس» وهى الرواية التى تحكى سيرة حياة أسرة أديب روائى معروف، والبنت الكبرى هنا تقع فى حب أستاذ الموسيقى، المتزوج وتنتظره فى الشقة المفروشة التى أستأجرها لها، أما البنات الأخريات، فإحداهن تحب زميلها فى الجامعة، والثانية تتردد فى علاقتها بأستاذها، ووسط هذا العالم الأنثوى الذى فقد عائله فإن الشابين أحمد وفتحى يحاولان أن يعيش كل منهما على ما تربى عليه، إلا أن فتحى الأصغر يريد الاعتماد على نفسه دومًا، ويعمل ميكانيكى سيارات، ويتمرد على جميع التقاليد، وربما هنا للمرة الأولى نجد أنفسنا فى أسرة متعددة الشخصيات، باعتبار أن العائلة فى «الطريق المسدود» كانت كلها من البنات، وبالنسبة للمخرج، فإنه كان يقدم القصص الرومانسية فى أجواء أسرية، من الطبقات المتقاربة، ومنها حكايتان من «البنات والصيف»، الأولى فى الفيلم الذى ضم ثلاث قصص، وكانت القصة الثانية فى الفيلم هى الأكثر خشونة، وأبطالها ينتمون إلى طبقة الموظفين، فالموظف يذهب إلى المصيف مع أسرته الصغيرة، زوجته وابنته، وابنه، والخادمة، والرجل يعمل مقارنة بين جسد زوجته الممتلئة والخادمة الصبية المليحة، وهو مهووس بالتلصص عليها، فى المطبخ، وأماكن أخرى، لدرجة أنه يلفق لها جريمة سرقة للتخلص من تأثيرها عليه، وفى «وسقطت فى بحر العسل» الذى أخرجه أبوسيف عام 1977، عن الحكاية الأولى من الكاتب فإن مايسة بنت تنتمى إلى طبقة أعلى، تمتلك المسكن الخاص فى المعمورة وهى الفتاة الأجمل على الشاطئ، تحب شابًا صعيديًا لايناسبها كثيرًا رغم أنه مهندس ناجح، وتعرف أنه على علاقة بامرأة أخرى، فتبدأ المشكلات.
نهايات روايات إحسان عبدالقدوس مثيرة للجدل، أما نهايات الأفلام فإنها تعكس أن السينما تؤثر السلامة، ومنها نهاية «وسقطت فى بحر العسل»، هذه الحكاية فيها ترفض مايسة استكمال الارتباط بحبيبها «بكر»، عندما تكتشف أن المرأة الأخرى التى يعاشرها هى سيدة بالغة البدانة، ولا تتمتع بالجمال، وتصر أن تهجره، وفى السينما فإنها تعود إليه راضخة، بما يعنى أن الرقابة فى السينما لم تتحمل جرأة الكاتب، والفوارق ملحوظة بين نهايتى الفيلم والرواية، ففى «أنا حرة» وضعت السينما نهاية سعيدة حيث تزوجت أمينة من حبيبها الصحفى المستنير فى الفيلم قبل قيام ثورة يوليو بساعات، أما النص الأدبى فقد قررت فيه الفتاة أن تعيش بدون قيود شرط التعاقد عند الارتباط، وعاشت مع عباس فى بيته دون أى قيود.
كما نرى فإن صلاح أبوسيف أخرج تسعة أفلام للكاتب على مراحل متقاربة جدًا، ثم توقف قرابة خمسة عشر عامًا عن العمل مع روايات الكاتب، وفى مرحلة تالية فإن الاهتمام بالمؤلف ذهب إلى حسين كمال، الذى نافس أبوسيف فى رحلته فى التعامل مع النصوص الأدبية، وقد بدأت تلك الرحلة من خلال «أبى فوق الشجرة» عام 1969، ويصل عدد الأفلام إلى تسعة أفلام مهمة أيضًا، منها «إمبراطورية م»، و«لا شىء يهم» و«أرجوك أعطنى هذا الدواء» و«العذراء والشعر الأبيض»، وفى هذا الفيلم بدت جرأة الكاتب أعلى كثيرًا من خشية السينما، فالأب الذى فوجىء أن ربيبته تشتهيه جنسيًا قد قاوم إغراء البنت لبعض الوقت، لكن الزوجة وافقت أن تقوم علاقة ثلاثية بين البنت وزوجها، بشهادتها، أما فى الفيلم فإن الزوجين يقومان بتزويج الفتاة للجار الذى يحبها، مما يعكس أن السينما لم تحتمل قط قوة الجرأة فى نصوص الكاتب، وكما نرى فإن هذه المجموعة من الأفلام كانت تعبر عن المرأة فى عقد الثمانينيات الذى شهد تحولا ملحوظًا إلى التشدد، وكانت هذه الأفلام بمثابة حائط الصد الأول، ومن المعروف أن بطلة أغلب أفلام تلك الفترة كانت نبيلة عبيد بكل جرأتها وخاصة أن مخرجين آخرين دخلوا الحلبة ومنهم أشرف فهمى وسمير سيف.
وكانت الكتابة الجريئة قد أخذت مسارًا مختلفًا، وتم تطعيم النصوص بالمواقف السياسية، ومن أهم أفلام حسين كمال مع نصوص الكاتب هناك واحدة من أبرز رواياته «لا شىء يهم» التى صارت رواية ثنائيات، وليست المرأة وحدها هى التى تتصدر المشهد.
فى متابعتى لما يكتبه إحسان عبدالقدوس من نصوص تحولت إلى السينما، فإنى أرى تشابهًا، وتقاربًا مع رحلة الشاعر نزار قبانى، سواء فى الاهتمام بالمرأة وتصويرها من منطلق التمرد. •