أعمق من السياسـة

ايهاب فتحي
يجذب عنف الحدث وغرابته أبصارنا وعقولنا، يؤدى هذا الجذب إلى نوع من السطحية فى التعامل مع وقائع ما يجرى حولنا، عندما نشاهد يوميا تدفق صور العنف القادم من فرنسا نحيل الأحداث بسبب هذا الجذب إلى التفسير السهل المريح للعقل.
جبل الجليد
أحلنا هذا العنف فى البداية إلى قرار سياسى صدر هنا أو هناك وعندما تم التراجع عن القرار أحلناه مرة أخرى إلى الأيادى الأمريكية، يمكن أن تصبح السياسة والأيادى الأمريكية من عوامل صناعة الحدث لكن هى مجرد رأس جبل الجليد أما جسم الجبل الغاطس الذى لا نراه فيحتاج إلى أداوات وبصيرة مغايرة لكى نراه بوضوح.
نذهب فى رحلة اكتشاف جسم الجبل مع الفرنسى ريجيس دوبرى وكما يصف نفسه فهو كاتب لكن مشروع دوبرى المعرفى منذ زمالته لتشى جيفارا فى غابات بوليفيا وصدور كتابه الأول «الثورة فى الثورة» ثم تأسيسه للميديولجيا أو تأثير الصورة والوسائط الإعلامية من خلال كتابه «حياة الصورة وموتها» يؤكد أن مشروعه المعرفى هو مشروع فلسفى، وعندما يصف نفسه بالكاتب فقط، فأما من باب التواضع أو المراوغة.
لماذا أصبحنا أمريكيين؟
أصدر دوبرى فى العام الماضى كتابا بعنوان «الحضارة.. لماذا أصبحنا أمريكيين؟» هذا السؤال الذى يطرحه العنوان موجه إلى أبناء بلدته من الفرنسيين ويحاول دوبرى من خلال سؤاله وطرحه فهم تأثيرات الأمركة على العالم وكيف تضغط بشراسة على بلد يمتلك ثقافة عريقة مثل فرنسا واعتبر دوبرى أن قمة الأمركة التى تحاصر الثقافة الفرنسية ترسخ حصارها بوصول الشاب إيمانويل ماكرون إلى رأس السلطة فى باريس فهو يمثل هذه الأمركة بكل معانيها.
يفتح دوبرى بطرحه هذا الباب المغلق عن عمد على أسئلة كثيرة هى بمثابة مصابيح ستكشف أنوارها حقيقة الصراع الدائر حاليا فى المجتمع البشرى وهذا الصراع هو جبل الجليد الغاطس فى حين ما نراه من أحداث تتحرك هنا أو هناك هى امتداد لما هو أعمق من تفسيرات السياسة والاقتصاد.
نحاول هنا فهم هذه الأمركة وأدواتها التى لا تحاصر فقط ثقافة عريقة كالثقافة الفرنسية، بل هى تتوغل منذ زمن لمحاصرة كل الثقافات التى تريد الاستقلال بمحتوها وخصوصيتها عن هذه الأمركة.
الرقمنة
تتجلى هذه الأمركة فى منتجها الرئيس الآن المتمثل فى الرقمنة التى طغت على كل ما يدور فى حياتنا من مفردات ولعل أولها وسائط السوشيال ميديا، ولا يمكن إنكار أن الرقمنة هى عنوان الحضارة البشرية الآن الذى أعطانا ثورة المعلومات.
نستخدم جميعنا مفردات هذه الرقمنة والثورة المعلوملتية فى كل دقيقة وعندما تسير فى شوارع القاهرة أو باريس أو بكين ستجد الملايين منكبين على هواتفهم المحمولة يتواصلون فيما بينهم مستخدمين مفردات الحضارة الرقمية فى سعادة.
يتشارك المجتمع البشرى فى الحضارة المسيطرة على اللحظة الإنسانية الحالية بأدواتها ولغتها الإنجليزية ويستفيد منها كما حدث سابقا عندما سيطرت الحضارة الإسلامية ولغتها العربية على اللحظة الإنسانية منذ قرون، هذا التشارك أمر محمود وطبيعى لكن مع احتفاظ كل مجتمع بثقافته الأم وهويته الأصيلة.
عند هذا الاحتفاظ تبدأ أزمة الأمركة مع الإنسانية ويظهر جنون شهوتها فى الهيمنة على جميع الثقافات المتنوعة بل يصل الأمر بالأمركة إلى محاولة طمث جميع الثقافات الإنسانية والعمل على مسخها فى قالب واحد تروج له بإلحاح اسمه العولمة والعولمة تلك ماهى إلا القناع الذى يتخفى ورائه توحش الأمركة.
استطاعت الأمركة عن طريق أداة رئيسة التوحش والتوغل داخل الثقافات العريقة، هذه الأداة هى الفردانية، فالفردانية مثل فيروس شرس يهاجم جميع خلايا المناعة الثقافية فى المجتمع ويعلى من شأن الفرد ومنجزه ويفصله تماما عن هوية وثقافة مجتمعه.
ما يحققه الفرد من إنجاز حسب الليبرالية الجديدة هو منجزه الشخصى فقط غير مدين لمجتمعه وثقافته بشىء فيه ولذلك تجد هذا الفرد يزعم أن ثقافة مجتمعه وهويته عبأ على ما حققه من منجز لأنه مواطن عالمى ولا يدرى أنه فى اللحظة التى يعلن فيها عالميته تلك قد وقع فى فخ الأمركة.
كان يمكن من باب تنوع الرؤى احتمال أطروحة هذا العالمى الناقم على ثقافته وهويته لكن الحقيقة أن الأمركة تستخدم هذا العالمى لتنفيذ مخططها بحرفية شديدة.
يطالب العالمى أو المتأمرك مجتمعه باتباع نسق معين غير مهتم بالثقافة والهوية الخاصة بهذا المجتمع فيرى الحرية والعمل السياسى والاقتصادى والحقوقى وحتى فعل الثورة وفق الأمركة التى تشبع بها وعندما ترفض الثقافة والهوية المجتمعية هذا الفرض الجائر لا يتراجع العالمى بل يقفز إلى مرحلة الصدام متهما المجتمع بالديكتاتورية التى تمنعه من الانطلاق والغريب أنه لا يدرى أو يدرى أن هذا الانطلاق هو المرادف لتدمير ثقافة المجتمع وهويته لصالح الأمركة.
محاولة الأمركة لتدمير الثقافة والهوية الخاصة بالمجتمعات
نحصر دائما الصراع الدائر بين العالميين أو المتأمركين ومفهوم الدولة فى نطاق سياسى ضيق لكن الحقيقة أنها نفس فكرة رأس جبل الجليد الظاهر من الصراع أما جسم الجبل فهو محاولة الأمركة تدمير الثقافة والهوية الخاصة بالمجتمعات.
لا تعدم الأمركة الأدوات فى توغلها وتوحشها على الثقافات الأخرى التى تريد الاحتفاظ بخصوصيتها فهى تزيد على الفردانية أدوات أخرى حسب المواجهة التى ستذهب إليها فالمهم تحقيق الهدف من طمث الثقافة والهوية.
عندما تأتى الأمركة إلى الثقافة والهوية المصرية الأكثر عراقة فى العالم وتجد أن أداة الفردانية لا تحقق التوغل المرجو بقوة تلتف سريعا وتدخل من باب الدين وبالتأكيد لا تسعى الأمركة هنا إلى ترسيخ القيم الدينية السامية فى المجتمعات التى تستهدفها أنها تستخدم العالمى المتأمرك والإخوانى الفاشى لنفس الهدف محو الثقافة والهوية.
المتأمرك .. والفاشى
يبدو فى الظاهر وجود تعارض بين أسلوب العالمى المتأمرك والإخوانى الفاشى لكن بالتدقيق والتبصر فى جسم الجبل الغاطس ستجد الاثنين يتجها إلى نفس الهدف المدمر ويخدما عن عمد توحش الأمركة فى ابتلاع الثقافة والهوية.
يصدر العالمى المتأمرك نموذج فوقى يعطيه صبغة سياسية ملونة بألوان الحرية المزيفة يحاول بها مسخ النخبة السياسية والثقافية وصناعة نخبة بديلة أكثر زيفا من حريته المزعومة.
يعمل الإخوانى الفاشى وأذنابه من المتسلفة على القاعدة المجتمعية فيمسخوا هويتها باسم الدين والدين منهم براء ليصنعوا هوية بديلة لا تعترف بالجذور أو المشروع المصرى بل وتحرم الثقافة المصرية ومنجزها محاولة إقناع القاعدة المجتمعية بأن هذه الثقافة المتسامحة المنفتحة على الآخر هى عين الحرام.
يستمر هذا التدمير المقنع بألاعيب السياسة حتى يزيغ أبصارنا وبصيرتنا عن حقيقة الصراع الأكبر وهو الصراع بين ثقافة وهوية مصرية عريقة والأمركة المتوحشة المسلحة بأدواتها كالفردانية والتمســـــــــح فى الدين ووكلائها سواء العالمى المتأمرك أو الإخوانى الفاشى.
عندما ننظر إلى ما يحدث فى فرنسا فنحن نحيله إلى هذا الصراع الأكبر بين الأمركة والثقافة الفرنسية العريقة وحين طرح ريجيس دوبرى سؤاله قبل عام على مواطنيه لماذا أصبحنا أمريكيين؟ فكأنه تنبأ بالصدام القادم لا محالة بين أمركة تتوحش وثقافة تدافع عن وجودها وحضورها فى المنجز الحضارى البشرى ولا تقتصر رؤية دوبرى على تحقق الصدام ولكن ما عجل به كان وصول النموذج العالمى أحد نماذج الأمركة إلى رأس السلطة فى باريس.
30 يونيو
قبل سنوات وفى غفلة من الزمن وصل الإخوانى الفاشى أو النموذج المتمسح بالدين إلى الحكم لينفذ نفس مخطط الأمركة محاولا محو ثقافة وهوية الأمة المصرية الأعرق فى التاريخ لكن جاءت ثورة 30 يونيو المجيدة لتطيح بالمخطط والمخططين.
يعتبر من الظلم حصر ثورة يونيو فى المستوى السياسى الثورى، فالحقيقة يونيو أكبر من هذا فهى من تصدت للصراع الأكبر ووقفت فى وجه التوحش وحمت الثقافة والهوية المصرية.
كانت ثورة يونيو الزلزال الذى قوض عرش الأمركة وكل ما نراه من مقاومة تخوضها الثقافات العريقة فى العالم للدفاع عن منجزها ما هى إلا توابع لزلزال ثورة 30 يونيو والوقوف في وجه الوحش . •