السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

رحيل..

رحيل..
رحيل..


لم يدرك أهل القرية أنه وبرحيل سعاد ابنة الشيخ حلمى رحمة الله عليه ومغادرتها البلدة سوف يعايشون كل هذا الشعور من الغربة والوحشة وأن ألم الذنب سيبقى حيًا داخلهم ينهش قلوبهم..لم يدركوا كيف أن بقاءها كان بقاءً لحريتهم وطَمأنينتهم وسلامهم الروحى..
وهل رحلت هى إلا عندما أجبروها هم على ذلك.. حين أجمعوا على أن بقاءها وحيدة بمفردها ببيت أبيها بلا رجل هو أمر غير مقبول، فقرروا تزويجها من أحد أبناء القرية الذى لم يكمل حتى دراسته لكنه كان من وجهة نظرهم راجل كسيب، لكنها رفضت.. كانت تريد أن تكمل دراستها أولًا وتدخل الجامعة وتحقق أمنية أبيها الذى عاش يحلم بأن يراها طبيبة ماهرة يعرفها القاصى والدانى، ولكنه غادرها وترك لها هذا الحلم لتُحيله هى إلى واقع.. ولما أصرت على رفض الزواج وتمسكت بحلمها، اعتبر أهل القرية هذا تحديًا صارخًا لفضائلهم وتمردًا صريحًا على عاداتهم.. فآتى إليها بعض من نسوة القرية قائلات «إن لا مكان لها بينهم».. وأمهلوها يومين لتغادرالقرية.. خفن منها على أبنائهن وأيضًا على أزواجهن وقد بدأ بالفعل بعض من رجال القرية بالتودد إليها واستغلال وحدتها.
يالا سخرية الحياة أيخشى الوحش الضارى على نفسة من فريسته..! أتخاف النار من أوارق الشجر..!
بقت سعاد حبيسة بيتها مجبرة على العزلة، وكأن الناس تعاقبها على رحيل أبيها وعلى بقائها وحدها فى عالم يظن أنها هى الخطر الوحيد الداهم الذى يواجهه.. وكما لو أنها فتنة كبرى انطلقت بموت أبيها.. تحاشت كثيرا نظراتهم الوقحة وصمّت آذانها عن همساتهم الحارقة.. وفى ذات مساء وحين ضاق عليها الخناق وازدادت ضغوط سيدات القرية عليها حتى أصبح إلحاحهن زجرًا ونظراتهن كالسهام نافذة حارقة ،وكذلك نظرات الرجال اللاهثة مرعبة.. قررت سعاد الرحيل والهروب إلى مكان ما بعيدا عنهم، لا يلتفت فيه أحد للآخر ولا يعنيه أن كانت بلا أب أو بلا رجل.. غادرت عالمهم الخادع المتلون رغم بساطته.. هربت من مجتمع يدعى أن الفريسة هى من دعت صائدها إليها بل أغرته بافتراسها. لا أحد أراد أن يعرف إلى أين ذهبت سعاد.. تخلصوا منها بلا لحظة تأنيب واحدة لضمائرهم.
تركت بيت أبيها خاويًا يخور فيه الهواء محدثًا أصواتًا مرعبة وكأنه يزمجر غاضبًا لرحيلها.. وظلت الأصوت لا تهدأ داخل البيت حتى ظن أهل القرية بأن الأشباح سكنته وأن روح أبيها تصرخ غاضبة منهم ليل نهار تتوعدهم بالانتقام لابنته التى لفظوها بعيدا عنهم وفرطوا فيها.. وقد نزعوا عنها حقها فى أن تحيا آمنة فى منبتها وعلى أرضها.
أصبحت قصة البيت والأصوات حديث الجميع تشغل عقولهم حتى تملكهم الخوف والرهبة من هذا البيت الغاضب المسكون.. فاقترح البعض أن يهدموه لكن ثار آخرون يحذرون من مغبة هدمه وأن هذا سوف يجر عليهم المزيد من غضب روح الشيخ حلمى.. ومن يدرى ربما يدفعه هذا لأن يأخذ بثأره من أبناء وبنات كل من يحاول هدم البيت. بالفعل لم يجرأ أحد على المساس به.. وذهب البعض منهم للبحث عن سعاد ليعيدوها إلى بلدتها ثانية حتى تهدأ روح أبيها ولكن آتى بحثهم بلا جدوى اختفت سعاد وكأن لم يكن لها وجود من الأصل.. مرت سنوات على رحيلها.. وقد اعتاد أهل القرية على وضع النذور والهدايا أمام عتبة باب بيتها وتعليقها على نوافذه طلبًا للسماح واعترافًا منهم بذنبهم الذى اقترفوه.. حتى تحول بيت الشيخ حلمى إلى ضريح يأتيه كل من يطلب الغفران من أى ذنب كان.. لكن أبدًا لم يجرأ أحد على الدخول إليه خوفًا من روح الشيخ الغاضبة.. وظلوا هكذا حبيسى خوفهم وذنبهم الذى بات يظللهم وذريتهم كسحابة موت.•