الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أريد أن أعيش أنوثتى..

أريد أن أعيش أنوثتى..
أريد أن أعيش أنوثتى..


التقينا أخيرًا، صدفة، وبدأتُ أسألها عن أحوالها وزوجها وأطفالها.. فقد كانت مخطوبة حينما تقابلنا آخر مرة، ثم تواعدنا على لقاء قريب فى موقعنا المعتاد ببلكونة مكتبى، وقد كانت الوحيدة من صديقاتى التى تدخل عليها مباشرة حينما تزورنى، وتأتى بمقعدين ومنضدة صغيرة فيتحول المكان لكاڤيتريا نستمتع فيها بالـsnacks التى تجلبها والشاى الذى تطلبه، والسماء المفتوحة أمامنا التى تظللنا وتطلق آفاق حواراتنا.

تأملتُ طريقة سيرها وهى تتركنى، فشعرتُ أنها لا تليق بسنوات عمرها التى ربما لم تتجاوز الخامسة والثلاثين! وأن شيئًا ما فى سلامها وعناقها قد تغير.
ثم جاءتْ. ضَحِكَتْ حينما وجدتْ نفس المنضدة وقد ملأتُها بأصناف مختلفة من المخبوزات الطازجة. وقفتْ تتأمل المكان، وبسعادة لاحَظتْ كمْ طالتْ الشجرة التى تطل على سور البلكونة، ثم.. وكأنها تحمل ثقلاً على قلبها أرادتْ التخلص منه، التفتتْ إلىّ قائلة: سألتنى عن زوجى وأطفالى. وسريعًا ما أجابت: لم أتزوج، وبتهكم: وطبعًا لم أنجب. وبدون تردد أجبتُها: عادى، إن كنتِ تريدين الزواج ستتزوجين، ولو كان عمرك٧٠ عاما! ابتسمتْ وقد لانت حدة صوتِها قليلاً، وقالت:مش للدرجة دى! وبإصرار وابتسامة أجبتها: للدرجة دى ونص.. ورويت لها قصة طنط نوال التى كتبتُ عنها مرة، وكيف تزوجت للمرة الـرابعة وعمرها ٧٥ سنة!
الذكاء الأنثوى
تأملتنى سريعًا، وبجدية سألتنى: لماذا لم تتزوجى أنتِ إذن؟ فضحكتُ وأنا أخبرها: هذه حكاية أخرى، ولكن ثقى لو أردت سأتزوج! نظرتْ للناحية الأخرى قائلة: ليتنى فى ثقتك!ولكنى أعتقد أننى لن أتزوج أبدًا.
وبنفس البساطة أجبتها: عادى أيضًا..
وقبل أن أستطرد قاطعتنى قائلة: لا مش عادى.. أنا لستُ راهبة، ولدىَّ احتياجاتى العاطفية والبيولوچية كأية أنثى! لستُ ملكة جمال، ولكنى جذابة ومقبولة كما يخبرنى البعض.. أحلمُ بالأمومة والبيت الذى أصنعه بنفسى، وأحِنُ لوجود شخص يهتم بى، يفكر معى، ويحتوينى. أحتاج لمسة حانية، ونظرة دافئة من رجل يخصنى وحدى، ويشاركنى فى اهتماماتى ومشاكلى، رجل يحبنى كما أنا، بطبيعتى، بشكلى، بحجمى، بذكائى!
قاطعتُها: ذكاؤك؟ أشُكْ! الرجال يمتدحون النساء الذكيات ولكنهم غالبًا لا يتزوجون سوى الذكيات أنثويًا.
ألمحُ بعض الحيرة فى وجهها وهى تستطرد: ربما.. ولكنى أتحدث عن نفسى الآن، فأنا أريد رجلاً لا أخشى من الكبر والعجز وأنا معه.
أقاطعُها - ثانية - بابتسامة متعاطفة، وأنا مصممة على عدم تجاهل تلك النقطة، قائلة: وتلك هى المشكلة! أن الكثيرات منا لا تدرك معنى الذكاء الأنثوى.
وبشبه تحدٍ تسألنى: وهل تدركينه أنتِ؟
لا أهتم بالرد لئلا يأخذنا الحوار لمنطقة أخرى، ثم سألتُها: لماذا تعتقدين أنكِ لن تتزوجى وأنتِ كاملة الجمال أمامى؟ تبتسم بأسلوب يشى بعدم ثقتها فى نفسها، وسريعًا ما أستكمل سؤالى: هل لاحظتِ أنكِ لم تذكرى شيئًا عما ستقدمينه للرجل الذى ستتزوجينه؟
وببعض العصبية تخبرنى: تعبتُ من التخيل، والحلم، والوعود التى قطعتُها على نفسى بإسعاد كل رجل حلمتُ بالزواج منه.. فتوقفتُ عن الحلم. تترقرق الدموع فى عينيها، وتسقط على خديها، ثم أكملتْ بدون توقف: جميع من أختارهم لا يختاروننى.. والذين لا أريدهم يريدوننى. لماذا لم يُحبنى رجل؟ لماذا أظلُ جذابة حتى يطمئن الرجل لانجذابى نحوه ثم يهملنى؟ لماذا أختار النماذج الصعبة والمستحيلة؟ لماذا تضيع سنوات عمرى بين الترقب والخوف والألم؟ لماذا لا أعيش قصة حب تنتهى النهاية الطبيعية؟ وبتهدج فى صوتها، تستكمل: لماذا يريدوننى صديقة أو مادة للعب، ولكنى غير مرغوبة للزواج؟ هل لو كان جمالى من ذلك النوع الشهوانى، أو كنت مُلعَبًا، لتغير حالى؟
الجميل للجميلة
أتماسكُ أمام دموعها، وأقدم لها المناديل الورقية، فتأخذها وتلتفتْ نحو الفضاء الماثل أمامنا، أضع كفى فوق كتفها، وأخبرها أن كل ما أعرفه أنها لا تدرك قيمة نفسها. وهذه بداية غياب الذكاء الأنثوى!
وكأننى ضغطتُ على جرحها، التفتتْ بعينين واهنتين، وقالت: أية قيمة وأى ذكاء؟ نجاحى فى الحياة يعود للمجتمع، ولكن أين نجاحى أنا كأنثى؟ وأين الله من كل هذا؟ هل خطأ أننى أحلم بزواج عن حب؟ هل يرضى الله أن ألقى نفسى فى بيت رجل لا أحبه، أو فى الخمسين من عمره لمجرد أننى بلغت السادسة والثلاثين؟ وثانية ما تهكمتْ قائلة: أية قيمة –إذن- وأى ذكاء أنثوى؟
دخل أحد زملائى المكتب، أديت له خدمة ما، وكل تركيزى فى صديقتى التى أطلقتُ عليها اسم فرح، ثم أخذنا الحديث عن طفولتنا ومراهقتنا وشبابنا، وبدأت تروى لى قصتها حينما كانت فى الرابعة والعشرين من عمرها بعد تخرجها فى الجامعة، حينما بدأ يتردد على منزل الأسرة قريبهم الطبيب الشباب الوسيم اللبق، وكانت أمها تحبه وتهتم به وبزياراته، ثم لاحظتْ مع الوقت كيف تطلب من شقيقتها التى تصغرها بسبع سنوات أن تترك مذاكرتها فى الثانوية العامة لتجلس معه وتضايفه! حتى سألها الأب عن ذلك، فأخبرته أنها تتمناه زوجًا لها، وبكل تعجب استنكر الأب ردها معتقدًا أن فرح هى الأنسب، خاصة أنها، تبدو مهتمة به و.. و..فأجابته أمامها: لو طلب فرح أهلاً وسهلاً، ولكن لو سألتنى فأنا لى رأى آخر!
سألتُها: وماذا يعنى ذلك؟ فقالت: أختى الصغرى أجمل منى.. وباختصار، كانت أمى تريد الجميل للجميلة!
بكل طاقتى حاولتُ أن أنفى التهمة عن والدتها، ورغم إصرارها على أنها سامحتْها وغفرتْ لها، لكنى كنتُ أتساءل مع نفسى: كيف تصبح هذه الشابة سوية، واثقة النفس وهى تحمل كل هذا الإحساس بالرفض داخلها من أمها؟ ذلك الكائن الوحيد فى هذ العالم الذى يمكنه أن يبنى أو يهدم ثقة الإنسان فى نفسه! بل إن كل إعجاب العالم كله - كما يقول علم النفس- لا يساوى كلمة إعجاب واحدة من الأم، تقول لطفلها عبرها بأنه مقبول ومحبوب وجميل.. ليكبر واثق النفس، محصنًا بحبها كركيزة ثابتة لمسيرة حياة ناجحة طوال عمره!
لم أجادلها، واحترمتُ وعيها، قائلة: أخطأت أمكِ.. ولكن ثقى أنكِ لو بحثتِ فى تاريخها ستجدين أنها أعطتك ما أخذته، وأنها حُرِمَت من التقدير لأنوثتها فى شبابها، وأنها لم تتزوج من أرادته.
نظرت لى بتعجب، قائلة: تحليلك مضبوط جدًا. أمى ينطبق عليها معظم ما قلتهِ! فقد حكتْ لى كيف أن أمها (جدتى) فضحت أمرها حينما علمت أنها (أى أمى) تحب شابًا فى مثل عمرها! فقررت تزويجها من أبى، الذى صانت عشرته، ولكنها لم تحبه حب امرأة لرجل!
قلتُ لها: وهكذا فسرنا اختيارك لقصص الحب الصعبة والمستحيلة، وكيف يبدو أنكِ تحبين الحب أكثر من الزواج، بل فعليًا .. أنتِ تبدين خائفة من الزواج!
أعتقد أنها تقف أمام نفسها الآن، وقد اكتشفت على الأقل أهم أسباب ألمها!
خطر ببالى أن أنقل حوارنا كما هو لصفحات المجلة، ورغم خجلها، قالت: موافقة، دعينى أرى قصتى بعينيك!. •