دستة رؤساء مجلس إدارة

مودي حكيم
عنوان المقال قد يوحى بعنوان الفيلم الشهير «دستة أشرار» بطولة لى مارفن. يحكى عن 12 مجرمًا أخرجهم أحد قادة الجيوش الأوروبية من السجن للقيام بعملية فى صفوف الجيش الألمانى، مقابل العفو عنهم أو الموت بشرف، فخلد الفيلم قصتهم، حتى إن الجماهير كانت تخرج تبكى من السينما لموت أبطال الفيلم مع أنهم مجرد حفنة من المجرمين الأشرار قاموا بعملية استخباراتية محدودة قياسًا بأبطالنا الستة الذين قاموا بزرع لبنة دولة كبيرة امتدت من السنغال جنوبًا إلى الأندلس وحدود فرنسا شمالاً، وبدلاً من تعلقنا بقصة دستة أشرار علينا أن نتعلق بنصف دستة أطهار.
لكن موضوعى دستة طيبين، يذكرنى بكلمات أغنية تقول:
جدعان طيبين وبقلب أبيض كبير
كلمات غريبة عنى مبسمعاش كتير
يمكن صادفتنى مرة فى فيلم قديم كتير
معاهم شفت طيبة وشفت كل خير
وبقيت شخص تانى باشوف الدنيا غير
الأشخاص الستة باستثناء واحد منهم، وقفوا جنبى بدون شروط، قلوبهم بيضاء صافية ونفوسهم برضه أغلى من الذهب والياقوت، مليانة حُسن نية وكرامة بدون حدود، ومحبة من اللى هيا بتعمر البيوت، معاهم شفت طيبة وشفت كل خير، جدعان طيبين، قلوبهم عمرانة خير.
كلمات لا تكفى بالتعبير عن 5 رؤساء مجلس إدارة عملت معهم وتحت إدارتهم الحكيمة، ورغم عظمتهم وتطلعى إليهم بالإعجاب والانبهار والتقدير، فلم أشعر يومًا أنى مرؤوس بل زميل، أولويات سياستهم الإدارية الحب والاحترام، الثواب، العقاب وشعارهم «افتح المجال أمام الآخرين سوف يذهلك ما تراه من منجزاتهم»، كذلك قدرتهم على اتخاذ القرار الصحيح بحكمتهم وشجاعتهم ومهارتهم.
أول من عملت معه إحسان عبدالقدوس صانع الحب وبائعه، ليس فقط فى قصصه السينمائية مثل «لا أنام»، «أين عمرى»، «دمى ودموع وابتسامتى»، «الوسادة الخالية»، «بئر الحرمان»، «أنا حرة»، بل فى تعامله مع الآخرين، كان هو صاحب قرار تعيينى بالمؤسسة بناءً على طلب مقدم من الفنان والإنسان الرائع جمال كامل الذى سعيت للقائه حاملاً رسومًا؟.
علاقتى بالأستاذ كانت من خلال الثلاثى المحيط به سكرتيرته ومديرة مكتبه نيرمين القويسنى وزوجها جمال حمدى والمشرف الفنى لـ«روزاليوسف» فى وقتها الفنان عدلى فهيم، وهما يسكنان فى عمارة واحدة قريبة من «روزاليوسف» وتطل على مقر مجلس الوزراء الآن، وألقاه أحيانًا فى حجرة الرسامين التى كان يحب أن يزورها بين وقت وآخر، أو فى مكتب الفنان جمال كامل. فى البداية لم تكن لى علاقة مباشرة بالأستاذ إلا عند حملى بعض بروفات مقالاته عندما كنت مساعدًا للفنان عدلى فهيم فى فترة التدريب معه قبل الطبع، فيبدى ملاحظاته فى هدوء شديد بآراء سديدة وبنظرة فنان لابد أن تحترمها وتتعلم منها، كتاباته كانت تصاحبها رسوم الفنان جمال كامل.
كثير من المحيطين من الأصدقاء من خارج الوسط الصحفى يتخيلون خطأً أن بطلات قصص إحسان عبدالقدوس واقع يعيشه الكاتب، وفى الحقيقة إحسان كان يجيد الإنصات والاستماع لقصص من يقابلهم، يحللها ويكتب عن حياتهم وحياة الآخرين، وفى الحقيقة إحسان كان وطنيًا ومقالاته عن الأسلحة الفاسدة وصداقته للرؤساء وعلاقته بالرئيس السادات مليئة بالأسرار، وكان السادات يعلن فى فخر عن صداقته للكاتب الكبير، وقد اتصل الرئيس السادات يومًا بإحسان عبدالقدوس وسأله عن رأيه فى خطاب سياسى ألقاه، وكانت إجابة إحسان الجريئة للرئيس، إنه كان غير موفق فى بعض الفقرات واعترض على بعض منها، وأنها تتناقض مع أفكار الرئيس نفسه عن الشرعية والقانون والدستور ودور القوات المسلحة.. وقاطعه الرئيس السادات طالبًا منه أن يكتب آراءه هذه فى مقال بجريدة «الأهرام» التى قد انتقل لها إحسان كرئيس لمجلس إدارتها بناءً على قرار من الرئيس السادات.
وتحت عنوان مقال نشرته «الأهرام» (تساؤلات حول خطاب السادات)، وبعد نشر المقال بيومين أصدر الرئيس السادات قرارًا بعزله من رئاسة مجلس الإدارة وتعيينه مستشارًا للجريدة، وفى لغة هذا العصر عندما تصدر بقرار جمهورى فهى تأكيد لإقالة صاحب المنصب وتجريده من كل نفوذه.
وتدور الأيام أسافر فيها إلى بيروت ولندن للعمل هناك بعد نشوب الحرب الأهلية، واختار الصحفى اللبنانى سليم اللوزى أن يذهب إلى لندن ليطلق مجلته «الحوادث» وإصدار مجلة جديدة باللغة الإنجليزية Events من هناك وكنت مسئولًا عن تنفيذها وطباعتها، وعندما حدث سوء التفاهم وما حدث بين الرئيس السادات وإحسان عبدالقدوس، طلب منى سليم اللوزى السفر إلى القاهرة بعرض للأستاذ الذى قابلته فى منزله بالزمالك شارحًا عرض الصحفى اللبنانى بأن يتولى إحسان عبدالقدوس رئاسة تحرير «الحوادث» وإدارة مؤسسته فى لندن.
وبأدب شديد اعتذر الأستاذ عن قبول العرض بالسفر إلى لندن حتى لا يساء فهم اتخاذ قرار كهذا، مرسلاً معى شكره وامتنانه للصديق سليم.
كانت هذه المرة الأخيرة التى رأيت فيها الأستاذ قبل أن يرحل عنا، وتبقى أعماله ومقالاته السياسية التى حظيت بشعبية جارفة، فهى نبض الشارع المصرى.. فهو لا يعارض للمعارضة ولا يؤيد للمجاملة.
حزنت عندما ترك أول رئيس مجلس إدارة منصبه نتيجة معركة مع الرؤساء، ولا أنسى أبدًا عندما حضر الكاتب الكبير أحمد حمروش بصحبة رجل شديد التهذيب، وقدمه للجميع على أساس أنه رئيس مجلس الإدارة الجديد لـ«روزاليوسف» وسيبقى فى نفس الوقت رئيسًا لمجلس إدارة بنك مصر.
كان هذا ضمن قرارات بتقلد الشيوعيين مناصب إعلامية كرد قاسٍ على الحكومة الأمريكية، اتخذها الرئيس جمال عبدالناصر بعد أن أطاح بعلى ومصطفى أمين من صحيفة «أخبار اليوم»، فنصَّب خالد محيى الدين رئيسًا لمجلس إدارتها ورئيس تحرير لجريدتها، وسعد التائه لمجلة «آخر ساعة» الذى أخلى موقعه للكاتب الكبير صلاح حافظ، ولـ«الجمهورية» فيليب جلاب، وأميمة أبو النصر وفتحى عبدالفتاح وطاهر عبدالحكيم وإبراهيم عامر.
ونصَّب رئيس مجموعة «حدتو» أحمد فؤاد لرئاسة مجلس إدارة «روزاليوسف»، ومساعده فى المجموعة أحمد حمروش لرئاسة تحرير مجلة «روزاليوسف» بمساعدة فتحى خليل وحسن فؤاد وعبدالستار الطويلة، والرسام زهدى العدوى لمجلة «صباح الخير»، بعد أن أفرج عبدالناصر على هذه المجموعة من الشيوعيين من المعتقلات والسجون، بغرض أن تحْل المجموعة نفسها ودمجها مع المجموعة الاشتراكية فى نظام عبدالناصر، وهذا حدث فعلاً وتزامن هذا مع إعادة انتخاب عبدالناصر رئيسًا للجمهورية، وبعدها كان حل «الحزب الشيوعى المصرى».
لم يبق أحمد فؤاد طويلاً فى منصبه بـ«روزاليوسف»، فالرجل خبرته بإدارة البنوك قد تكون ناجحة، لكن الإدارة الصحفية شيء مختلف تمامًا، فتولى أصغر كاتب صحفى نشر مقالته الأولى فى العشرين من عمره بعد تخرجه في كلية الحقوق بعام بمجلة «الفصول المصرية»، وكان أصغر رئيس تحرير فى تاريخ الصحافة المصرية، عُين فى سن التاسعة والعشرين رئيسًا لتحرير مجلة «صباح الخير»، أصبح الكاتب أحمد بهاء الدين رئيسًا لمجلس إدارة «روزاليوسف» و«دار الهلال» فى نفس الوقت، بهاء المشغول دائمًا بهموم واهتمامات الناس فى مصر وأزمة الوطن العربى، وعاش فى قلب الصراعات السياسية، وفقد حياته حزنًا على الاجتياح العراقى للكويت.
أحمد بهاء الدين كان من أجمل رؤساء الإدارات الذين عملت تحت مظلتهم الإبداعية والقيادية شبيهًا بإحسان عبدالقدوس فى ارتباطهما بالأدب والفكر والفن وتشابه مواضيع مقالتهما فى قضايا العروبة والقومية والسياسة والاقتصاد والشئون الدولية، وأيضًا الحب والزواج والمرأة مع اختلاف التناول والمعالجة.
وأوجه الشبه بين الاثنين تتمثل أيضًا فى تواضعهما ونزاهتهما وفى عطائهما للأجيال الجديدة، وأنهما من أيقونات مؤسسة «روزاليوسف» ومن أساطير الصحافة المصرية.
لن أنسى أساتذتى الكبار إحسان عبدالقدوس الذى أعطانى الفرصة للعمل بـ«روزاليوسف» وأحمد بهاء الدين الذى آمن بى وبموهبتى وعرض علىَّ يوماً أن أعمل بـ«دار الهلال» كمشرف فنى لمجلة «الكواكب» إلى جانب عملى بمجلة «صباح الخير»، ولكنى اعتذرت لعدم إيجاد حساسيات بينى وبين زملاء أصدقاء بـ«دار الهلال»، ظلت علاقتى بالأستاذ بهاء طوال أيام العمر يحرص على زيارتى أثناء إقامتى ببيروت ولندن، آخرها فى لندن عندما كنت أقيم فى صالة العرض بمقر مكتبى فى «سان جيمس» معرضًا لفنون الخط العربى، واستمرت نفس المدرسة فى الإدارة الحكيمة والقيادة الماهرة المؤمنة بقدرات العاملين معها، وبجهودهم وبقيمتهم الإبداعية وعطائهم، فرأس مجلس إدارة المؤسسة الكاتب والنقيب الفنان الرسام كامل زهيرى، وهو خريج كلية الحقوق أيضًا من جامعة فؤاد الأول، «القاهرة الآن» فى عام لاحق لتخرج أحمد بهاء الدين. كان زهيرى رجلاً بمعنى الكلمة من شرفاء الصحافة فى عصرها الذهبى وعظمائها، بسيط فى تعامله مع زملائه لم يتغير بعد توليه المنصب، فهو نفسه الكاتب المبدع كما عرفناه وهو محرر فلم تغيره السلطة والبريق، كان يفتخر ويعتز برسوماته، وهو يطلعنى على اسكتشاته فى دفتر الرسم الذى يحمله، أيضًا وأنا أزوره فى منزله بالزمالك أحيانًا لنتحاور فى هموم العمل، أو ليحكى لى عن رحلته الأخيرة لأمريكا، وعادة أتسلم مقاله للعدد الجديد من المجلة فى نهاية الزيارة، بعد استضافة زوجته الكاتبة الصحفية خديجة قاسم بفنجان قهوة.
كان كامل زهيرى شعاره فى ذلك الوقت أن الموهبة كالجريمة لابد من أن تكتشف، وتحقق حلمه فى خلق ما أسماه «تكامل الفنون»، حين بدأ كتابة مقالاته عن أدباء مصر ورساميها الكبار أمثال محمود سعيد وتوفيق الحكيم.. ونشر مذكرات إقبال العلايلى ابنة أمير الشعراء أحمد شوقى، واكتشف بطل رواية «قنديل أم هاشم»، كما قام زهيرى بإحياء أدب الرحلات من خلال كتاباته.
كامل زهيرى تجربة فريدة من نوعها، حافظ على القدر المناسب من استقلاليته، قضى عمره بين القلم والورق كرجل قانون وكاتب وصحفي ورسام ، كتب فى العديد من الصحف العربية الكبرى وعمل مستشارًا للعديد منها، وآخر مرة التقينا فى لبنان وقضينا أوقاتًا جميلة، عندما كان مستشارًا لتحرير إحدى المجلات اللبنانية، التى يرأسها كاتب لبنانى درزى وصديق للأستاذ عندما كنت أعمل كمدير فنى لهذه المجلة.
انتقل كامل زهيرى لجريدة «الجمهورية» ليكتب عموده اليومى «ثقب الباب» ليتولى خريج آخر لكلية الحقوق، يتحلى بأخلاق القرية من شهامة وأمانة وطيبة، ونصرة الضعيف ونجدة الملهوف، أستاذ وكاتب وشاعر لم أر فى حياتى أطيب منه، وبرقة ودماثة أخلاق مثله، فهو الأستاذ المُعْلم عبدالرحمن الشرقاوى شخصية ودودة ومحبة لا تنسى، وحدث تقارب شديد بينى وبينه. وتفاهم كبير بينه وبين الأستاذ لويس جريس الذى كان رئيسًا لتحرير «الصبوحة» وعينه الأستاذ فى منصب أمين عام لمؤسسة «روزاليوسف» إلى جانب عمله كرئيس تحرير، بديلاً للأستاذ عبدالغنى عبدالفتاح مدير عام المؤسسة، الذى حاول وضع العراقيل أمام عبدالرحمن الشرقاوى، فقد كان يطمح فى الحصول على منصب رئيس مجلس الإدارة.. لم يكن أحد يتوقع أن ينجح الشرقاوى، وهو الشاعر الباحث الكاتب فى الإدارة ، إن بصمات الشرقاوى وقدرته الخارقة فى التنظيم والإدارة، تجلت فى أرقام توزيع المجلات من 115 إلى 150 ألف نسخة. مشروع عبدالرحمن الشرقاوى الصحفى كان يتمثل فى تحويل الصحافة إلى رسالة تنويرية من خلال إضافة معلومات جديدة للقارئ فى كل كلمة، فمن رأيه أى فقرة تنشر لو لم تضيف معلومة جديدة للقارى تصبح ثرثرة.
كان من خطة صديق العمر لويس جريس إيجاد أسواق لـ«روزاليوسف» خارج مصر، بغرض التعريف بها والوصول إلى شركات الإعلان التى تحكمها «مافيا الإعلان»، ومقرها لندن فى حينها، فأتى لويس بخبيرة العلاقات العامة الشهيرة لولا زقلمة التى اقترحت تأسيس مكتب للمؤسسة فى لندن، ووضعت ميزانية كان من الصعب تحقيقها فى ظروف المؤسسة المالية، لكن قرار الشرقاوى السريع جاء «ابعت مودى يفتح مكتب للمؤسسة فى لندن يا لويس».. وقد كان واستأجرت مكتبًا صغيرًا لـ«روزاليوسف» فى عمارة «مورلى هاوس» بشارع ريجينت ستريت الشهير، قريبًا من مبنى المؤسسة الإعلامية العريقة BBC .. «ولهذه المرحلة حكاوى كثيرة».. كان الشرقاوى «الخلوق» يستمتع إذا أتى إلى لندن أن يزورنى فى منزلى بمنطقة كرويدن، وهى تبعد ساعة عن وسط لندن ليجالس أبنائى ويلاعب ابنى شريف على أرض غرفة الاستقبال، ويستمتعان معًا بمشاهدة مباريات الكرة، فهو الأب الحنون الودود المحب، ولكن مع الأسف لم يستمر الأستاذ العظيم عبدالرحمن الشرقاوى فى منصبه، فقد غضب الرئيس السادات منه عندما أطلق على مظاهرات 18 و 19 يناير «انتفاضة شعبية»، ووصفها السادات بـ«انتفاضة الحرامية»، وعين عبدالعزيز خميس الذى أرسل لى خطابًا إلى مكتب لندن، وصلنى بعد أسبوعين من تاريخه ينذرنى فيه بالفصل إذا لم أتسلم عملى فى القاهرة خلال 48 ساعة، فكان قرار الفصل وغلق المكتب بداية لعصر جديد فى الإعلام، وصفه الكاتب الكبير محمود السعدنى بـ «العهد الخسيس».