الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

كائنات الحزن اليلية

كائنات الحزن اليلية
كائنات الحزن اليلية


[if gte mso 9]>

Normal
0


false
false
false







MicrosoftInternetExplorer4

[if gte mso 9]>




 
البنت كالحة الوجه
كانت الكافيتريا في منتصف النهار تبدو خالية تقريبا كأنها وضعت حملها فى الصباح، وراحت تستريح من آلام المخاض فى الظهيرة، وتتثائب تحت انكسار الضوء على حواف النوافذ الزجاجية، فى آخر الكافتيريا.. بجوار الثلاجة الكبيرة، جلس ثلاثة جرسونات لم يرهم من قبل، يرتدون الجاكتات البيضاء، تتقارب رءوسهم بين الحين والآخر، فيبدون مثل طيور أبوقردان، عندما تحط على نتواءات الأرض الطينية الرخوة، ثم تتباعد.. فتبدو كأنها على وشك الانعتاق من جذور النباتات الجافة، إلى قمم الأشجار العالية، لكنها.. سرعان ما تنكفئ مرة أخرى، جلس يحيى بجوار النافذة الزجاجية، نهض أحد الطيور الثلاثة بتثاقل كأنه ينخلع من الأرض، بدا بكرشه الضخم، ورأسه الصلعاء المتعرجة كحبة القلقاس، كتلة مستديرة من اللحم، تستند على ساقين قصيرين غليظين، وبدأ يتأرجح أو يتدحرج بين الموائد الخشبية، ذات المفارش الملونة، حتى وصل إلى يحيى فوقف يتنفس بصعوبة، كأنه يطلع فى الروح، خرج صوته متحشرجا متقطعا.
 

 
- تشرب إيه يا أستاذ؟!
- قهوة سادة
استدار عائداً وقد مال جسده إلى الأمام قليلا، وراح يستند على الموائد بين الحين والآخر، أدرك يحيى أن القهوة ستكون باردة لا محالة، عندما تصل إليه بعد تلك الرحلة الطويلة، وربما من غير وش أيضا، نتيجة اهتزاز كتلة اللحم المستديرة، الذى لا يتوقف التفت إلى الناحية الأخرى، رأى حسن المرشدى وصديقته البيضاء، ذات الوجه الكالح، والابتسامة التى على وشك البكاء، قادمين من اتجاه كلية التجارة، وكان حسن يتكلم بعصبية على غير عادته، فهو أكثر برودة من نوات الإسكندرية التى تشل الأطراف، ويقضى فى الحمام ساعة كاملة، فهو يسحل ويخور كثور ذبيح، وكان يلوح بذراعيه بنفس العصبية، حتى يخيل إليك أنهما ستسقطان من كتفيه فى الحركة التالية، وكانت البنت تنظر إلى جسده الفارغ صامتة، كأنها تتوسل إلى أحد الآلهة القديمة، دخلا إلى الكافيتريا.. لوح حسن ليحيى باقتضاب، وجلسا بمواجهته، على مائدة بجوار العامود الرخامى، لاحظ يحيى.. أن البنت قد ازدادت شحوبا، واختفت الابتسامة الواقفة على مشارف البكاء صار وجههما مثل الوجوه التى يرسمها العيال فى كراريس الرسم، وسقط صدرها عند بداية استدارة البطن المنتفخة، رجع حسن بجسده إلى الوراء، ضغط بأصابعه على جانبى أنفه، وأخذ نفسا عميقا، ثم نامت نظراته المراوغة فوق العامود الرخامى، ليهرب من وجهها الذى بدأ يموء بشبق، ويكاد يغرس مخالبه فى وجهه، جاء الجرسون، وضع القهوة أمام يحيى كانت باردة ومن غير وش كما توقع، فكر أن يعيدها إليه لكن ما الفائدة، إذا كان سيأتى بها فى كل مرة، بعد تلك الرحلة الطويلة، باردة ومن غير وش، لو كانت كتلة اللحم المستديرة تلك قد اعتذرت فقط لاستراح يحيى وشربها بهدوء، لكنها تقف أمامه وهى تهتز وتئن كطاحونة ريفية قديمة، قرر أن يتجاوز عن حكاية القهوة ويسأله عن عبدالله، قال إنه اختفى فجأة منذ شهرين تقريبا، بعد الفضيحة التى هزت الكلية كلها، فقد حاولت طالبة من إحدى القرى البعيدة فى شمال الدلتا الانتحار، وسرت شائعات قوية أن عبدالله الأفيونجى، كان يقدمها للطلبة مقابل مائة جنيه يأخذ نصفها، ثم حاول أن ينام معها فرفضت فهددها بفضحها، ورغم أن البنت لم تتكلم، ولم تشر من قريب أو بعيد إلى عبدالله، إلا أن الحكاية - ولا أحد يعلم كيف تحولت - إلى وحش حقيقى، يطارد البنت وعبدالله حتى افترسهما معا، فعادت البنت إلى بلدتها البعيدة، ويقال إنها انتقلت إلى كلية أخرى أما عبدالله.. فيقول البعض إنه محبوس الآن فى سجن الحضرة، والبعض الآخر، يؤكد أنه قد افتتح مقهى صغيرا فى غيط العنب، وأنه قد زارها وعزمها على الشاى مسحت كتلة اللحم المستديرة جبهتها الضيقة، وقالت بصوت متحشرج.


- ربنا يستر على ولايانا
 شعر يحيى بالقرف والغيظ، وكاد أن يسبه ويلعنه هو وكل الجرسونات، وعمال اللوكاندات الرخيصة المليئة بالبق واللصوص، فهم من طينة واحدة.. لزجة ومقرفة، لكنه كان قد استدار، وبدأ يتدحرج عائدا إلى آخر الكافتيريا مدت البنت البيضاء كالحة الوجه يدها، وأمسكت بيد حسن، الذى سحبها بسرعة، متظاهرا بإخراج علبة السجائر من جيب القميص، استندت على العامود الرخامى، رفعت بأصابعها القصيرة المرتعشة، خصلة الشعر التى سقطت على عينيها، وبدأت تنكمش على نفسها، حتى خيل لحيى أنها سوف تتلاشى بعد قليل، ويستريح من متابعة ذلك المشهد العبثى، بين امرأة تشتهى اللحظة، وتحاول أن تتهجى أبجديتها المراوغة، وبين رجل يفر منها، ويحاول أن يخلع كل طقوس العشق والرغبة، فى مواجهة امرأة تحل ضفائر الأيام وتختبئ خلفها، فى انتظار لحظة الانعتاق أو المراوغة، فجأة.. نهضت البنت البيضاء كالحة الوجه، نظرت إلى وجه حسن الطينى الناشف طويلا، كأنها تودع آخر أيام العمر، وتبدأ أول أيام الانتقام والمطاردة، ثم استدارت وسارت بين المقاعد الخشبية كأنها تنخلع من الأرض، عندما وصلت إلى باب الكافتيريا، أجهشت بالبكاء، واختفت سريعا فى الممر الواصل بين المبنيين، جاء حسن وجلس مع يحيى، عندما لمح السؤال يكاد يولد مشوها على شفتى يحيى، قال بسرعة وهو يضغط على أنفه المعوج، ويأخذ نفسا طويلا:


- حكاية طويلة.. مش وقتها دلوقتى
شعر يحيى بالندم لأنه فكر فى سؤاله عن تفاصيل تلك الحكاية، التى لابد أنها قذرة مثل حكايات حسن المرشدى خاصة أن الفضحية تقف مثل الغراب الأسود على بطن البنت البيضاء كالحة الوجه، وتنعق فى وجوه العابرين بصوت قبيح ومستفز، سأله دون أن ينظر إليه عن البنت حنان، قال باقتضاب، إنها قد اختفت تماما بعد خروجها من السجن، لم تحاول الاتصال بأحد، حتى عندما اتصلت بها مدام عديلة لم ترد عليها كأنها قررت الاختباء من الناس والدنيا، وكل الملامح التى رسمتها ذاكرتها المتعبة داخل تلك الزنزانة الضيقة، توقف فجأة ثم قال:
 
- على فكرة.. صاحبك عبدالحميد المحلاوى، إتجوز فكرية بنت مدام عديلة، وعايش معاهم فى سابا باشا.
 
ضحك يحيى بصوت عال، حتى إن حسن المرشدى تراجع للوراء، وقد انشقت ملامحه نصفين، نصف يحترق بالغضب، ونصف يغوص فى بحيرة الدهشة، لم يكن يدرك أن الضحك، كان بديلاً عن الصراخ والسباب والقرف، أن يقف فوق المائدة الخشبية، ويصرخ بعزم الروح تحيا الثورة الحمراء، والأفخاذ المفتوحة على النضال اليومى، والأسرة التى لا تتوقف عن الاهتزاز والفحيح طوال الليل يا أولاد الكلب.. لكنه.. توقف عن الضحك فجأة.. قال بصوت ساخر تعمد أن يكون عاليا، حتى يسمعه الجرسونات فى آخر الكافيتريا:
 
- الثورى النصاب.. تزوج الثورية المومس
امتقع وجه حسن المرشدى، وارتعش بصورة غريبة، حتى بدا أنفه الطويل المعوج، على وشك السقوط، مد أصابعه الطويلة متسخة الأظافر وضغط عليه بقوة، أخذ نفسا عميقا، وكأنه على وشك الاختناق، فخرج الصوت طويلا حادا كفرملة قطار سريع لحظة الاصطدام، أدرك يحيى أن تلك الجملة التى قالها بسخرية، قد انتزعت قلب حسن المرشدى وألقت به إلى أرض مالحة، وصارت تضغط عليه بعنف حتى انبثق الدم وتقطعت الأوردة، مثلما تقطعت تلك الصور البريئة فوق شواهد المقبرة الحجرية، التى يجلس فوقها حسن المرشدى بجسده الفارغ، كآلهة العالم الآخر، منتظرا أن يحمل الموتى فى قاربه لقاء قطعتين من الفضة، مسح وجهه الشاحب وتمتم بصوت متحشرج:
 
- بلاش تلف كلامك حوالين رقبة الناس وتشنقهم
 
- شنقونى قدامك مية مرة يا حسن
 
- عشان كده بتنتقم
 
خبط يحيى بيده على المائدة، وصرخ بصوت عال حتى برزت عروق رقبته: هل صارت الحقيقة فى زمن المراوغة انتقاما؟! أم أن الكلمات تباع الآن مثل الجوارى فى أسواق النخاسة؟! ألم يكن المناضلون يتبادلون فكرية، كما يتبادلون سيجارة الحشيش؟!! ألم يكن الولد عصام، الذى جمع الأموال من العيال الغلابة ليناضل بها فى باريس يفتخر علانية وفى حضور عبدالرحيم نفسه، أنه لا يشرب البيرة إلا من بين نهديها، وأنه يضاجعها من الخلف، حتى لا تنشب أظافرها فى ظهره، وهى تتلوى وتموء فى ضراوة؟! لقد كانت مفتوحة على الجهات الأربعة كعربات الترام، يركبها الجميع بالدور، ويقفز منها الجميع قبل المحطة الأخيرة، وعبدالحميد الذى صار العيال يختبئون منه خلف الأبواب المغلقة، وقال عنه تيمور إنه مثل القرادة لا يطلع إلا بالدم، يعرف كل هذه الحكايات، لابد أنه باع نفسه لمدام عديلة وابنتها، لقاء جسد يتمدد عاريا، فوق سرير، مجانى أنا لا أشنق أحداً يا سيدى فوق منصة الخيانة، ولا أدفع أحداً إلى رمال الاتهام المتحركة، فكلنا مدانون.. معلقون على أسوار الفجيعة، أنتم الذين اتهمتم الجميع بأنهم مباحث، ضاجعتم الوطن فى المساء، وفى الصباح.. سلمتموه إلى السجن.. أو الانتحار، وعلقتموه فوق سارية العلم، رمزا للهزيمة.
 
صارت شفتا حسن المرشدى خطاً رفيعاً حاداً، ينكسر قليلا ناحية اليسار، استند برأسه على الحاجز الزجاجي لحظة وقد أغلق عينيه، ثم قام بهدوء دون أن ينطق بكلمة واحدة وانصرف، دون حتى أن ينظر إليه، رجع يحيى بظهره للوراء، لمحه وهو يغادر الكلية وقد فقد جسده الفارغ استقامته كنخلة هزتها ريح الشتاء فمالت قليلا إلى الأمام.. أشعل يحيى آخر سيجارة معه وأخذ يدخنها بعصبية شديدة، وهو يلعن حسن المرشدى ومدام عديلة وفكرية وعبدالحميد، أولاد الحرام، ثم تمتم بحزن: الآن.. انكسرت كل المرايا.. وحطت الغربان فوق الوجوه الميتة، وانفتحت الدنيا على الخلاء.