أسرار بلكونة المومياء

صباح الخير
فى أول بلكونة على الشارع الخلفى، فى العمارة ذات الخمسة طوابق المطلة على النيل بشارع الموسيقار كمال الطويل «المنتزه» بالزمالك، هنا كان يعيش المخرج المشهور بفيلمه «المومياء» شادى عبدالسلام، هو من أغلقها بالزجاج، ليضع خلفها ستائر ثقيلة حتى لا تزعجه الشمس، التى تطلع حين يخلد هو إلى النوم، بعد ليل طويل من العمل.
يسكن فى نفس العمارة المخرج يسرى نصر الله، الذى يقول إنها بُنيت فى الأربعينيات، وبناها المهندس المعمارى موريس مصور، وهو نفسه مالكها، وبنى عمارة خلفها تطل على شارع محمد مظهر، ويربط بين العمارتين ممر طويل، على غرار عمارات أخرى فى الزمالك «ونقلت ملكية العمارة إلى نعيمة محمدين التى تمتلكها وورثتها الآن».
شقق العمارة مازالت كلها بالإيجار، لكن تحولت اثنتان منها إلى نظام التمليك، بعد أن آلت للملاك الأصليين بترك المؤجر لها، منهما الشقة التى عاش فيها المخرج شادى عبدالسلام وأسرته.
يتذكر الجار فى العمارة يسرى نصر الله، مشهد شادى وهو جالس فى البلكونة المطلة على النيل وقت العصارى، فيمر عليه مع أخته ليحتسيا القهوة مع شادى «فى السبعينيات كنت أذهب لزيارة شادى فى مكتبه بوسط القاهرة فى شارع 26 يوليو، وهناك تعرفت على المخرجين رأفت الميهى وعاطف الطيب وصلاح مرعى ومساعديه ومهندس الديكور أنسى أبوسيف وغيرهم، فى ذلك الوقت كان شادى يحضّر لفيلمه الجديد إخناتون، الذى ظل يعد له 10 سنوات، ولم يمهله القدر لإكماله، وأحيانًا كنت أذهب إليه فى مركز الأفلام التجريبية فى ستديو نحاس، وقتها كان شادى مديرًا للمركز التابع لوزارة الثقافة» يقول يسرى.. وهنا يقول النحات محمود مبروك: «كنت أنحت له المجسمات الخاصة بفيلم إخناتون، ومنها بوابة معبد إخناتون، وبعض الإكسسوارات مثل الحلى والعقود الفرعونية التى كانت ستستخدم فى الفيلم، وهى معروضة الآن فى متحف شادى عبدالسلام بمكتبة الإسكندرية، وعملت معه فى بعض الأفلام التسجيلية مثل فيلم توت عنخ آمون وفيلم رمسيس الثانى، وفيلم ما قبل الأهرام».
فيكتوريا كوليدج
ولد شادى في الإسكندرية فى 15 مارس 1930، وتخرج فى فيكتوريا كوليدج 1984، وانتقلت الأسرة للعيش فى القاهرة، والتحق بالخدمة العسكرية وسافر إلى إيطاليا لدراسة العمارة، ثم عاد والتحق بالفنون الجميلة في القاهرة وتخرج فيها 1955.
عمل شادى مساعد مخرج ومسئولًا عن ديكورات وملابس الكثير من الأفلام، منها «الفتوة وبين القصرين، الخطايا، وا إسلاماه، عنترة بن شداد، ألمظ وعبده الحامولى، شفيقة القبطية، رابعة العدوية، أميرة العرب، بين القصرين، أمير الدهاء، السمان والخريف، أضواء المدينة، والناصر صلاح الدين من إخراج يوسف شاهين».
تحكى مدام منى سامى عبدالسلام، ابنة شقيق شادى، عن جدها المستشار محمد بك عبدالسلام، الذى عمل فى البداية محاميًا، ثم مستشارًا فى مجلس الدولة، «مكتبه للمحاماة فى وسط القاهرة، بشارع 26 يوليو أمام دار القضاء العالى، أصبح فيما بعد مكتبًا لعمى شادى، يقابل فيه تلاميذه من معهد السينما ومساعديه، مثل المخرج مجدى عبدالرحمن، وكان يرسم بيده تصميمات الديكورات والملابس لأفلامه، أو تلك التى شارك فيها بعمل الديكور أو الملابس.. جدى إسكندرانى من أصول مغربية، وجدتى هى إحسان حسن بك شادى، والدها من أعيان محافظة المنيا، وعاشا فى فيلا بمنطقة وابور المية فى الإسكندرية، وفيها ولد الأبناء الأربعة، الكبيرة مهيبة، ثم شادى ثم سامى ثم ناجى، ودرست عمتى وعمى شادى فى فكتوريا كوليدج بالإسكندرية، وتنقل جدى بين العمل فى الصعيد فى قنا وأسيوط، ثم عاد جدى للإسكندرية، وخلال الأربعينيات تزوجت عمتى مهيبة فى الفيلا، وانتقلت العائلة للاستقرار فى القاهرة بحى الزمالك».
الشقة مكونة من 4 غرف و3 حمامات ومطبخ كبير بأوفيس وغرفة سفرة، وأنتريهين وصالونين مفتوحين على بعضهما، وصالة كبيرة تفتح على الغرف، طولها حوالى 20 مترًا، ويرتفع سقف الشقة إلى 4 أمتار، كما تصفها منى.
«عمارة مودرن»
حارس العمارة الستينى عبدالراضى، أوضح لنا أن الطابق الخامس بالعمارة، طابق حديث بنى فى التسعينيات، وأن العمارة ظلت منذ أن بناها موريس الذى كان يسكن فى الشقة رقم 7 بالطابق الثالث، أربعة طوابق فقط على شقتين، وأن ملكية العمارة الآن بحسب الإيصالات التى يجمع بها الإيجارات، آلت إلى ورثة عائلتين، عائلة الجميزى، وعائلة محمدين، «كان إيجار شقة عائلة، شادى عبدالسلام فى أوائل الخمسينيات 12 جنيهًا و53 قرشا، ومساحتها 295 مترًا.. يكمل عبدالراضي: «بعد وفاة شادى، ظل أخوه ناجى وزوجته يسكنان فى الشقة، وبعد زواج ابنتهما فى التسعينيات تركا الشقة للملاك، وانتقلا للسكن فى شقة أصغر بشارع محمد مظهر، وبيعت الشقة بمبلغ ثلاثة ملايين وربع المليون فى 2005، وتعاقب على سكن الشقة العديد من المستأجرين، ووصل إيجارها إلى 3 آلاف دولار شهريًا الآن، وهى مستأجرة الآن من شركة مقاولات كبرى شهيرة».. العمارة يخدمها مصعد خشبى وحيد منذ وقت بنائها، ماركة شندلر بكابينة من الخشب، وفى بدروم العمارة يقبع الجراج، ومجموعة من الغرف بعدد شقق العمارة الأصلية، بحيث تستخدم كل شقة واحدة من هذه الغرف فيما تريد، وكل هذا بإيجار لا يتعدى 20 جنيهًا فقط، لنحو 8 شقق من شققها العشرة.
وكما يتذكر عبدالراضى، كانت هناك غلاية كبيرة يمين البدروم، لتسخن فيها المياه، وتضخ عبر مواسير تصل إلى غرف الشقق، لتدفئها فى الشتاء، لكن الغلاية لم تعد موجودة الآن.
العمارة مبنية على الطراز «المودرن» الذى ساد فى مصر فى الأربعينيات، بتصميماته البسيطة التى تخدم الوظائف المتعددة للمبنى، وبالاستغناء عن الزخارف، واستبدال الأشكال الهندسية الواضحة بالزخارف والتماثيل، وبما يظهر جمال الحيز وجمال المادة المستخدمة فى البناء.. فمدخل العمارة المربع يشبه صروح المعابد القديمة، له باب خشبى بضلفتين، مدعم بحديد فور فورجيه، ثم تستقبلك بسطة صغيرة من الرخام، ومنها إلى 10 سلالم رخامية، تصل بك إلى الطابق الأول وأمامك المصعد، وعلى يمينه السلالم التى تأخذك للطوابق الأخرى.. أرضيات المدخل ونصف حوائطه السفلى والسلالم كلها من الرخام المجذع باللون الرمادى، وبلكونات العمارة بها درابزين بشرائح من الحديد على شكل خطوط متوازية، والنوافذ من الشيش الحصير الذى يفتح للخارج، ليسمع بالتهوية وبمرور أشعة الشمس غير المباشرة، لكن الشقتين اللتين بيعتا فى العمارة بالطابق الأول، ومنهما شقة شادى عبدالسلام، استبدلا الألوميتال بالشيش الحصير، مع حديد من الخارج للتأمين.
حنون..هادئ..منظم
تتذكر منى سامى عبدالسلام: «بيت جدى كان بمثابة بيت العائلة، يجمع جدى وجدتى، وعمى ناجى وزوجته وابنته، وعمى شادى، وسافر أبى إلى أمريكا، وبقيت فى الشقة معهم قبل أن أتزوج، كما عاشت معنا ابنة عمتى مهيبة، «مريدى» بعد أن جاءت للقاهرة لتدرس فى كلية السياسة والاقتصاد، بعد تفوقها فى الثانوية العامة وكانت الأولى على الجمهورية فى 1977».
تتذكر منى، طقوس عمها شادى التى لم يكن يغيرها، «يستيقظ فى الواحدة ظهرًا، ويشرب اليانسون أو نسكافيه باللبن ثم يجلس فى غرفته ذات البلكونة الخلفية المطلة على الجراج، يجلس على يمين جدتى فى السفرة، وفى الصالون له مقعد لايغيره، ويحب أن يجلس فى البلكونة المطلة على النيل، صمم أثاث غرفته بنفسه، وأغلب غرفته مكتبه ذات كتب كثيرة، أغلبها فى التاريخ والفلسفة باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية، وسرير منخفض بسيط بأرفف عليها كتب، ودولاب ملابس صغير، والغرفة مفروشة بكليم أحمر جميل، يتناول غداءه فى الثالثة وينزل لمكتبه فى الخامسة، ويعود فجرا»
تصف منى عمها فى كلمات محددة: «منظم جدا وبسيط جدا وحنون جدا وكلماته مختصرة، هادئ، صوته منخفض، يسبق زمنه، ويحاول أن يحل مشكلات أفراد العائلة وأن يجلس معهم فى البيت».
متحف فى مكتبة الإسكندرية
فى أكتوبر 1986، توفى المخرج الذى اختير ضمن أفضل 100 مخرج عالمى من رابطة النقاد الدولية، تأسست جمعية أصدقاء شادى عبدالسلام وجمعت تراثه السينمائى من لوحات واسكتشات رسمها لمناظر وأزياء أفلامه وسيناريوهات، وحلى واكسسورات، ومكتبة ضخمة فى شتى المعارف الإنسانية، كلها حافظت عليها أخته مهيبة، وسلمتها لمكتبة الإسكندرية، التى خصصت قاعة لمقتنياته، ونفذ تصميم المتحف مكتب المهندس حسين وكريم الشابورى، الذى صمم متحف الزعيم جمال عبدالناصر. •