الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

وفاة موظف

وفاة موظف
وفاة موظف


قصة: أنطون تشيكوف

ذات مساء رائع كان إيفان ديمتريفيتش تشرفياكوف، الموظف الذى لا يقل روعة، جالسًا فى الصف الثانى من مقاعد الصالة، يتطلع فى المنظار إلى "أجراس كورنيفيل".
وراح يتطلع وهو يشعر بنفسه فى قمة المتعة. وفجأة (وكثيرًا ما تقابلنا "وفجأة" هذه فى القصص).. والكتاب على حق، فما أحفل الحياة بالمفاجآت! فجأة تقلص وجهه، وزاغ بصره، واحتبست أنفاسه.. وحول عينيه عن المنظار وانحنى و... إتش!!!
عطس كما ترون. والعطس ليس محظورًا على أحد فى أى مكان. إذ يعطس الفلاحون ورجال الشرطة، بل وحتى أحيانًا المستشارون السريون.
الجميع يعطس، ولم يشعر تشرفياكوف بأى حرج، ومسح أنفه بمنديله، وكشخص مهذب نظر حوله ليرى ما إذا كان قد أزعج أحدًا بعطسه. وعلى الفور أحس بالحرج. فقد رأى العجوز الجالس أمامه فى الصف الأول يمسح صلعته ورقبته بقفازه بعناية ويدمدم بشىء ما. وعرف تشرفياكوف فى شخص العجوز الجنرال بريزجالوف الذى يعمل فى مصلحة السكك الحديدية. وقال تشرفياكوف لنفسه: "لقد بللته. إنه ليس رئيسى بل غريب، ومع ذلك فشىء محرج. ينبغى أن أعتذر".
وتنحنح تشرفياكوف ومال بجسده إلى الأمام وهمس فى أذن الجنرال:
- عفوًا يا صاحب السعادة، لقد بللتكم.. لم أقصد.
- لا شىء، لا شىء.
- أستحلفكم بالله العفو. إننى.. لم أكن أريد!
- أوه، اسكت من فضلك! دعنى أصغى!
وأحرج تشرفياكوف فابتسم ببلاهة وراح ينظر إلى المسرح، كان ينظر ولكنه لم يَعُد يحس بالمتعة. لقد بدأ القلق يعذبه. وأثناء الاستراحة اقترب من بريزجالوف وتمشى قليلاً بجواره، وبعد أن تغلب على وجله دمدم:
- لقد بللتكم يا صاحب السعادة.. اعذرونى.. إننى لم أكن أقصد أن...
فقال الجنرال:
- أوه كفاك! أنا قد نسيت وأنت ما زلت تتحدث عن نفس الأمر !.. وحرك شفته السفلى بنفاد صبر.
وقال تشرفياكوف لنفسه وهو يتطلع إلى الجنرال بشك: "يقول نسيت بينما الخبث يطل من عينيه. ولا يريد أن يتحدث. ينبغى أن أوضح له أننى لم أكن أرغب على الإطلاق.. وأن هذا قانون الطبيعة، وإلا ظن أننى أردت أن أبصق عليه.. فإذا لم يظن الآن فسيظن فيما بعد.."...!
وعندما عاد تشرفياكوف إلى المنزل روى لزوجته ما بدر عنه من سوء تصرف. وخيل إليه أن زوجته نظرت إلى الأمر باستخفاف فقد جزعت فقط، ولكنها اطمأنت عندما علمت أن بريزجالوف "غريب"، وقالت:
- ومع ذلك اذهب إليه واعتذر وإلا ظن أنك لا تعرف كيف تتصرف فى المجتمعات.
- تلك هى المسألة! لقد اعتذرت له، لكنه... كان غريبًا.. لم يقل كلمة مفهومة واحدة، ثم إنه لم يكن هناك متسع للحديث.
وفى اليوم التالى ارتدى تشرفياكوف حلة جديدة، وقص شعره وذهب إلى بريزجالوف لتوضيح الأمر.. وعندما دخل غرفة استقبال الجنرال رأى هناك كثيرًا من الزوار ورأى بينهم الجنرال نفسه الذى بدأ يستقبل الزوار. وبعد أن سأل عدة أشخاص رفع عينيه إلى تشرفياكوف. فراح الموظف يشرح له:
- بالأمس فى «أركاديا» لو تذكرون يا صاحب السعادة عسطت و.. بللتكم عن غير قصد.. اعذر...
- يا للتفاهات.. الله يعلم ما هذا! – وتوجه الجنرال إلى الزائر التالى – ماذا تريدون؟
وفكر تشرفياكوف ووجهه يشحب: «لا يريد أن يتحدث إذن فهو غاضب.. كلا لا يمكن أن أدع الأمر هكذا... سوف أشرح له»...
وبعد أن أنهى الجنرال حديثه مع آخر زائر واتجه إلى الغرفة الداخلية، خطا تشرفياكوف خلفه ودمدم:
- يا صاحب السعادة! إذا كنت أتجاسر على إزعاج سعادتكم فإنما من واقع الإحساس بالندم!. لم أكن أقصد، كما تعلمون سعادتكم.!
- فقال الجنرال وهو يختفى خلف الباب:
- إنك تسخر يا سيدى الكريم!
وفكر تشرفياكوف: "أية سخرية يمكن أن تكون؟
ليس هنا أية سخرية على الإطلاق! جنرال ومع ذلك لا يستطيع أن يفهم! إذا كان الأمر كذلك فلن أعتذر بعد لهذا المتغطرس. ليذهب إلى الشيطان! سأكتب له رسالة ولكن لن آتى إليه. أقسم لن آتي".!
هكذا فكر تشرفياكوف وهو عائد إلى المنزل. ولكنه لم يكتب للجنرال رسالة. فقد فكر ولم يستطع أن يدبج الرسالة. واضطر فى اليوم التالى إلى الذهاب بنفسه لشرح الأمر..
ودمدم عندما رفع إليه الجنرال عينين متسائلتين:
- جئت بالأمس فأزعجتكم يا صاحب السعادة، لا لكى أسخر منكم كما تفضلتم سعادتكم فقلتم. بل كنت أعتذر لأنى عطست فبللتكم... ولكنه لم يدر بخاطرى أبدًا أن أسخر وهل أجسر على السخرية؟ فلو رحنا نسخر فلن يكون هناك احترام للشخصيات إذن...
وفجأة زأر الجنرال وقد أربد وارتعد:
- اخرج من هنا!!
فسأل تشرفياكوف هامسًا وهو يذوب رعبًا:
- ماذا؟
فردد الجنرال ودق بقدمه:
- اخرج من هنا!!
- وتمزق شىء ما فى بطن تشرفياكوف. وتراجع إلى الباب وهو لا يرى ولا يسمع شيئًا. وخرج إلى الشارع وهو يجرجر ساقيه.. وعندما وصل آليًّا إلى المنزل استلقى على الكنبة دون أن يخلع حلته... ومات.•