الجمعة 6 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الحالم بسوق العيش

الحالم بسوق العيش
الحالم بسوق العيش


بقلم: نجيب محفوظ

أغلق باب الشقة ودلف متثاقلاً نحو الدرابزين وأطل على السلم الذى ينحدر من الطابق السادس - حيث يسكن – إلى مستوى الأرض فلاحت فى عينيه نظرة ملل وسخط، وفى الحق لم يكن ينغص عليه صفوه مثل هذا السلم العالى المتعب وإدارة المحفوظات بوزارة المعارف, حيث يعمل يوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، وعاما بعد عام دون أن يترآى له فى الأفق القريب أو البعيد قبس أمل، ثم مضى يهبط الأدراج فى سرعة حقيقة بشاب فى الحادية والعشرين حتى خلص إلى شارع السلامة، وكان اليوم جمعة والوقت ضحوة مشرقة من ضحا مارس فسار متمهلا فى خطى متثاقلة كأنما لا يهدف إلى غاية من سيره فبلغ ميدان الملكة فريدة بعد دقائق معدودات واتجه نحو سوق الخضر وعند مدخله تريث قليلا وألقى نظرة شاملة على حوانيت الخُضر والفاكهة فلاحت الخُضرة لعينيه الحالمتين متصلة ما بين حانوت وحانوت حتى خضبت الجو بلونها اليانع فطربت حواسه طربا لا تطربه لمشهد البساتين والحقول وملأت خياشيمه رائحة المآكل الطيبة فكانت ألذ من شذا العطور والرياحين فأضاء فى عينيه بريق خاطف – واستيقظت معدته، ودب فيها غول الجوع، ومضى يتقدم متفحصا المعروضات الشهية غافلا عن جمهور الشارين نساء ورجالا حتى توسط المكان، فمر أمامه شخص لفت إليه انتباهه ثم استأثر به لضخامة بنيانه المفرط، وغلظ رقبته، وامتلاء وجهه، مما دله على شبعه، فرمقه بعين إنسان لا يكاد أن يشبع أبدا، ويشتهى كثيرا، ولكن لا يذوق مما يشتهى شيئا، وعلقت عيناه فرآه يقف عند حانوت قريب فتوقف عن السير ثم رأى الخضرى يحزم له كميات موفورة من الفلفل الرومى والطماطم والبطاطس، وأنواع أخرى لا يعرف مسمياتها على كثرة تردده إلى السوق أسبوعًا بعد أسبوع، وحمل الرجل لفة هائلة من الأصناف الشهية، وانتقل صوب حانوت قصاب لصق الخضرى فتبعته عيناه، وقد أنساه منظره، وما يحمل ما حوله من المعارض فشاهد القصاب يحز له فخذة كندوز بقرى ويضعها فى كفة الميزان، يالها من وليمة فاخرة وأخذ الرجل الفخذة ملفوفة فى ورقتها الصفراء الجذابة، ومضى فى سبيله فما زال يتبعه بناظريه حتى غيبه الباب، وتمتم قائلا: ما أجمل أن يبيت الإنسان وقد ملأ بطنه مما تشتهيه الأنفس، وثارت كوامن حنينه فجد السير متنقلا من حانوت إلى حانوت، وعيناه تلتهمان المعروضات الشهية التهاما، وتوثب خياله للخلق والإبداع فتناول أصناف الخضر والبقول واللحوم وطهاها فى مطهى دماغه طهيا فاخرا، وقدمها فى صحاف غارقة فى الصلصة والمسلى يتصاعد بخارها ناشرا رائحتها الشهية فتحلب ريقه، وأصر على أسنانه، وانقضت نصف ساعة وهو فى تأملاته ومشاهداته ثم ألقى على المكان الفاتن نظرة وداع وعاد أدراجه صُفر اليدين كما جاء وهو يتساءل متنهدا: متى أفارق هذا المكان مجبور الخاطر قانع الفؤاد ؟)
كان يختلف إليه كل صباح جمعة كما يختلف غيره إلى السينما أو المسرح أو الحدائق الغناء، للرؤية والأحلام ثم يمضى إلى شارع فؤاد الأول فيقف ساعة بباب شيكوريل ناظرا مستمتعا وهو الموقف الذى يلقى فيه قلبه زاده من صور الحُسن، وحطامه من وقود العاطفة، وقد مضى هذا الصباح إلى موقفه من المكان المعهود، وأنعم فى الوجوه والقامات النظر فكانت أول من رأى سيدة مفرطة السمنة تمشى الهوينى كأن رد فيها ترجعانها، وجاء على إثرها فتيات ثلاث حسان تجمع بين وجوههن ملامح متقاربة وروح واحدة فحار فى المفاضلة بينهن مدى الدقيقة التى لبثنها فى مجال بصره قبل أن يغيبهن مدخل المحل، وقلقت عيناه بين الوجوه والنحور والصدور والسيقان، وكان ينظر صامتا جامدا فلا ينبس بكلمة ولا يأتى بإيماءة فإذا أرهقت الوقفة أعصابه تمشَّى مدى أمتار، وعاد إلى موقفه المختار، وقد راعته قامة هيفاء لحسناء ريانة الشباب، كانت تعطف رأسها إلى الوراء تحادث امرأة عجوزا وتسبقها بخطى بطيئة ثم التفتت إلى الأمام مبتسمة فمرت عيناها الضاحكتان – فى هذه الحركة – بعينيه، فخال ثانية من الزمان أنها تبتسم إليه، ولم يخدع فى حقيقة الابتسامة فعرف أنها جاءت مصادفة، ولكن قلبه مع ذلك خفق، وانتعشت نفسه كأنما اهتزت لرجع نغم شجى، وتدفقت أسرابهن باعثات فى قلبه الحياة.
 ناشرات فى الجو روائحهن الزكية فبدا فى النهاية كالثمل وجعل يتساءل ترى: كيف يعشن فى البيوت وهل يتكاشفن وعم يتحدثن؟، وماذا يثير عواطفهن واهتمامهن ؟ أنى له أن يعرف هذا وهو لم يعاشر من هذا الجنس الجميل إلا أمه وهى امرأة عجوز بسيطة لا يحيط بها شىء من هذا الغموض الساحر الذى يحيط بهن، ولن يتأتى له كشف هذا السر الساحر ما برح فى إدارة المحفوظات كاتبا فقيرا.
وكان لا يزال بنفسه إثر نشوة من الابتسامة الحلوة التى لم توجه إليه فأغراه هذا الأثر باجتلاء طلعته فى مرآة معرض أربطة الرقبة والقمصان الذى يقف أمامه فالتفت إلى ما وراءه، وألقى نظرة على جسمه الضامر ووجهه الشاحب فهاله بروز وجنتيه ونحول خديه مما أضفى على سحنته دمامة ليست من طبيعتها، ولاح لعينيه رباط الرقبة الباهت والبدلة الحائلة فامتعضت نفسه وتحول عن المرآة خجلا غاضبا، وفارق موقفه بخطاه المتثاقلة، وعاد من الطريق الذى أتى منه مخترقا ميدان الأوبرا إلى ميدان الملكة الفريدة، وهناك طاب له أن يجلس قليلا فى مقهى النجم ليأخذ أنفاسا من الراحة، ويحتسى فنجان قهوة، وكانت هذه عادته إذا رجع من قضاء العطلة ما بين سوق الخُضر وباب شيكوريل، وما كاد يستقر به مجلسه حتى أقبل عليه بائع (يناصيب)، ولوح له بأوراق الحظ فدعاه، وأبرز من جيبه مجموعة من الأوراق لا يخلو جيبه منها أبدا، الإسعاف والجمعية الخيرية الإسلامية وجمعية العروة الوثقى، وجمعية الأقباط الأرثوذكس وأخذ كشف الإسعاف وجرت عيناه على الأرقام الرابحة، ثم مزق الورقة ثلاثا ورمى بها كالعادة وأعاد بقية الأوراق إلى جيبه فى سكون ثم أمسك بفنجان القهوة، ورشف رشفة وكانت عيناه فى أثناء ذلك ترمقان بائع (اليناصيب) وقد وقف على بُعد قريب وسط ثلة من الباعة يتضاحكون مسرورين فعجب كيف يضحكون ويبدون سعداء مسرورين تبا للحمقى هل يربحون كشيكوريل أو يأكلون كذلك الرجل الغليظ الذى رآه اليوم فى سوق الخضر تبًا لهم، وصعد بصره إلى الأفق، وقال متمنيا (آه لو تصدق الأحلام وأربح الألفين).
إن ألفى جنيه – وعهدته فى ذلك صديق لا يشك فى تقديره – تأتى إذا استغلت فى شراء أرض أو عقار بمقدار عُشرها ربحا صافيا أى مائتى جنيه فى العام أو سبعة عشر جنيها فى الشهر فإذا أضيف إليها مرتبه – لأنه لا ينوى أن يستقيل إذا ربح – صار إيراده الشهرى ثلاثة وعشرين جنيهًا، وصفَّر بفمه جذلا.. رباه لتثبتن الأرض القلقة تحت قدميه إذا صار له هذا الإيراد، ولتنزلن السكينة والطمأنينة على نفسه، وليتذوقن فى هدوء طيبات الحياة الدنيا.
ومد ساقيه وشبك ذراعيه على صدره، وقد لاحت فى عينيه الأحلام.. كيف تتغير الدنيا لو ربح هذه الثروة ليكن أول ما يفعله أن يهجر مسكنه ذا السلم الحلزونى المرهق إلى شقة أنيقة حديثة البناء بمصر الجديدة مثلا.
وقد سمع عنها كثيرا ولكنه لم يرها-وليكن أثاثه فاخرا، حجرة للنوم له ولأمه – وأخرى للاستقبال وثالثة للمائدة، وحتم بعد ذلك أن يستبدل بالمصابيح الغازية مصابيح كهربائية وهاجة، وأن يبتاع مذياعا من أحدث طراز، وسيعنى أول ما يعنى بتوفير الغذاء لنفسه الجائعة، وسيواظب على عادته فى زيارة سوق الخضر، ولكن ليعود محملا بطيب الخُضر واللحوم والفاكهة فلا يجوز أن يخلو إفطاره من البيض واللبن والعسل والقشدة وحسبه أن يأكل الفول المدمس مرة واحدة فى الأسبوع، أما الغداء فلن تقل حاجته من اللحوم عن رطل ونصف يوميا – رطل له خاصة، ونصف رطل لأمه والخادم- وهنالك أصناف ثلاثة لن يخلو منها الغذاء الرز أو المكرونة والبطاطس، والفاكهة يضاف إليها لون من ألوان الخضر أو البقول غير الخبيزة والسبانخ والقرع لأن هذه أخذ منها كفايته مدى العمر أما العشاء فحيثما اتفق، على حسن العجاتى أو أى محل من محال بيع الشطائر والحلوى وبذلك يشبع ويجرى فى وجهه ماء الحياة ويمتلئ جسمه الضامر وتتورد بشرته الشاحبة ويكتسى بحظه العادل من الشباب والجمال والقوة، ومضى يقدر الميزانية التى تقتضيها هذه الحياة فوجد أنها تستغرق نصف إيراده أو ما يزيد على ذلك بقليل.. ألا ما أجمل الحياة إذا أظفرت الإنسان بمسكن جميل، وغذاء شهى، ومظهر حسن ويستطيع بعد ذلك أن يوفر مما يتبقى له ستة جنيهات كل شهر فيتجمع له فى مدى خمس سنوات – حين يوفى على السادسة والعشرين – ما يقرب من أربعمائة جنيه.
هنالك يفكر فى الزواج تفكيرا جديا.. ففى ذروة كل حلم جميل يلوح طيف الزواج أو هكذا خال لأنه لم يأنس قط للأحلام.
ففاجرة.. وهنا ارتسمت على شفتيه ابتسامة رقيقة كيف يتزوج؟ وممن يتزوج؟ فتاة كالتى ابتسمت إليه اليوم بغير قصد، من أسرة طيبة، على علم يسير وأدب جم، وحتم أن تكون كريمة مدير إدارة – كمدير إدارة المحفوظات مثلا – وسوف يمضى إلى بيت الرجل بقدمين ثابتتين مادام جيبه عامرا ثم يقول له بعد تمهيد توجيه الظروف وتوجهه.
(سيدى يطيب لى أن أتأهل وأكمل نصف دينى وقد أعجبنى ما حدثنى به الثقاة عن طيب عنصرك وأدب كريمتك فجئتك طالبا يدها)، ولابد أن يعجب الرجل بهذا الكلام- وهو مستعار من بعض الروايات التى طالعها ويعلن عن رغبته فى معرفة مركزه فيستدرك قائلا: (أنا يا سيدى موظف بالمعارف ومرتبى ستة جنيهات، ولكنى أملك بيتا ورثته عن أبى وهى كذبة ثانوية لا تغير من الواقع شيئا – يدر علىَّ سبعة عشر جنيها فى الشهر، وأرجو أن تتحرى الأمر بنفسك ليطمئن قلبك) وهو من جانب لا يخشى التحرى فسيرته محمودة، وكان والده رجلا طيبا وسيثنى عليه رئيس القسم ثناءً طيبا فهو لا يأخذ عليه إلا سهوه وشروده أحيانا وليس هذا ما ينتقص خاطبًا.. فإذا رضى الرجل ولابد أن يرضى فماذا يعز عليه مما تجود به الدنيا من النعم.. من له بهذه الساعة السعيدة حين يمضى حاملا خاتم الخطوبة أو حين يخلو إلى فتاته المتعثرة بالخفر والحياء وما رغب أن يعود إلى الواقع.
ولكن لاحت منه التفاتة إلى كُم سترته فرأى طرفه الباهت الناسل فأفاق واستيقظ وعاد إلى وعيه، وتنبهت حواسه مرة أخرى إلى الدنيا المحيطة به من الطريق والسماء وفنجان القهوة الممتلئ إلى نصفه، وذكر الواقع الذى يعيش فيه ولا يدرى أين المفر منه فتنهد وتثاءب متكاسلا – وداخله الملل فنهض قائما وغادر المقهى فى خطاه المتثاقلة، وجعل يترنم بصوت خافت رخيم – إذا كان صوته رخيما – (البخت لو مال هاتعمل إيه بشطارتك).
حتى بلغ البيت بشارع السلامة، وتريث قليلا عند بدء السلم وصعد بصره متتبعا الدرجات الحلزونية المتصاعدة حتى الطابق السادس، وسرعان ما لاحت فى عينيه نظرة الملل والسخط، ثم تأوه ومضى يصعد درجة فدرجة.•