أغلى شىء عنده
زينب صادق
فى أعقاب الحرب العالمية الثانية وبلاد أوروبا تئن من أوجاعها واليأس مسيطر على نسائها بسبب موت الرجال، وفى بداية الثورة المصرية والأمل مسيطر على الشباب سافر الشاب المصرى فى بعثة علمية إلى بلد من تلك البلاد الأوروبية متفتحا بالرجولة والأمل وكان حلم النساء هناك، أربع سنوات البعثة وكل شهر أو كل أسبوع مع وجه جديد من تلك النساء اليائسات إلى أن عرفها فى الشهور الأخيرة من بعثته، استحوذت عليه بجمالها ودهائها وقررت أن تعيش معه فى بلده المتفتح بالأمل الجديد للثورة، وهو أيضا قرر أن يستحوذ على هذه الزهرة الشقراء ويتباهى بها أمام أهله.
ولأنه فى ذلك الوقت لم يكن فى بلده شركات توظف النابهين بمرتبات شهرية مرتفعة ولأن طالب البعثة كان يعود إلى موضعه العملى ذاته وربما يزيد مرتبه بضعة جنيهات، فقد عاشا فى بيت الأسرة المكتظ بالإخوة والأخوات.. ووعدها أن تتحمل عاما واحدا إلى أن يستطيع تدبير سكن منفرد لهما.. لكنه لم يستطع.. فى العام التالى حملت وكان وحمها أن تزور والديها وتستنشق هواء بلدها.. ولأنه فرح بأنه سيكون أبا فقد وافق واستدان لشراء تذكرة سفرها ووعدها أنها عندما تعود سيكون لهما بيت مستقل، وفعلا استطاع أن يؤجر شقة فى منطقة نائية من العاصمة وأرسل لها ذلك الخبر مدعما بالصور.
لكنها عندما عادت إلى بلدها وجدت تغييرا قد حدث كما لو أن الحرب لم تكن.. وبدلا من أن تكتب لزوجها عن موعد عودتها ، كتبت عن تأجيلها إلى أن تضع طفلهما فى بلدها حسب نصيحة والديها، أقنع الزوج نفسه أن هذا أحسن لزوجته.
وقد طار من الفرحة عندما أرسلت له صورة للولد بعد الوضع مباشرة.. لكنها لن تستطيع العودة به قبل عدة شهور حسب نصيحة الطبيب، أقنع الرجل نفسه بأن هذا أحسن للولد، لكن الشهور أصبحت ثلاث سنوات كل سنة يتسلم الرجل خطابا من زوجته وصورة لابنه، وفى كل خطاب عذر من عدم استطاعتها العودة بطفلهما ويجد هو عذر إنه بالكاد يستطيع أن يؤثث شقة، وهذا أفضل لابنه حتى يأتى إلى بيت يليق بدمه الأوروبى.. وعندما استطاع أن يقنع رؤساءه فى العمل أن يرسلوه فى منحة علمية إلى بلد زوجته كان ابنه فى الخامسة من عمره.
استطاع الرجل السفر فى وقت كان فيه السماح بالسفر صعبا.. شهر كامل بجوار ابنه يلعب معه فى الحدائق والغابات ويحدثه بلغته.. أصبح الولد صورة من أمه ولما طلب من زوجته العودة معه إلى وطنه.. أقنعته بدهائها أنه من الأفضل ألا يغير الولد المناخ الذى نشأ فيه ولا نوع دراسته التى بدأها فالتغيير يسيئه نفسيا وربما يصبح معقدا.. فقال إن ابنه أغلى شىء عنده ولا يود سوى سعادته.. فقد شعر بهذا الشعور الأبوى عندما ضم ابنه إلى صدره.. وسألها إذا كانت تنوى طلب الطلاق.. نفت بشدة فهى ليست فى حاجة إلى زوج.
ولمصلحة ابنهما النفسية لا يصح أن يعيش بين والدين مطلقين.. ومادامت تعمل وتكسب فهى تستطيع أن تصرف على ابنهما.. وربما لم يلتفت الرجل إلى القوة التى اكتسبتها نساء أوروبا من قوتهن الاقتصادية.. ومع نشأة الثورة الجنسية هناك مع بداية ستينيات ذلك القرن العشرين.. لم يعد الزواج مطلبا ملحا للمرأة ومعظم النساء لهن بنين وبنات تعترف الدولة بهم والمجتمع بدون آباء.
وقد وعدته زوجته أنها وابنهما سيعيشان معه فى يوم من الأيام عندما ينتهى الولد من دراسته.. ولعدة شهور تعذب لبعد ابنه بعد أن احتضنه وشعر بأبوته!
وليؤكد لنفسه ولمن حوله أن له ابنًا فقد كان يحلف بحياة ابنه.. ولما وجد بعض السخرية بسؤاله أين ابنك؟ .. أصبح يحلف بحياة أغلى شىء عنده.
ومع مرور السنين تدرج فى وظيفته إلى أن أصبح رئيسا لمؤسسة كبيرة واشترى شقة فى موقع ممتاز من العاصمة.. وكان البعض يظن أن تلك الأشياء التى يمتلكها هى أغلى شىء عنده.
عندما بدأت أبواب الطائرات تفتح لكل من يملك ثمن التذكرة قرر أن يسافر هو إلى ابنه كل عام إلى أن ينتهى من دراسته.. وحقق رغبته مرة واحدة ولم يفعل هذا لمدة عشر سنوات. لم يستطع التواصل مع ابنه وهو شاب كما كان طفلا.. وشعر بغربته مع زوجته، ومع ذلك فهو مازال يحلف بأغلى شىء عنده.
عندما اقترب الرجل من عمر الستين أرسل لزوجته وابنه خطابا مؤثرا لضرورة حضورهما للحياة معه.. وظنت الزوجة أن زوجها يحتضر فقررت زيارته مع ابنه ليرى بلد أبيه لأول مرة.
حاول الأب أن يقنع ابنه وأمه بالحياة معه فى الشقة الجميلة التى يعيش فيها.. وأشياء كثيرة تغيرت للأحسن.. استمع ابنه وقال له بصرامة وحزم أوروبى إن عمله هناك. وخطيبته تنتظره.. وهو لا يريد أن يغير حياته من أجل رجل غريب عنه وإن كان والده.. وأين كان طوال تلك السنوات.. ولماذا لم يذهب هو ليعيش مع زوجته وابنه فى بلدهما.. مادامت زوجته لم تتحمل الحياة فى بلده.. كلام كثير.. وختم حديثه الجاد بقوله إنه وأمه حضرا لزيارته وليس للحياة معه.. «لنتراسل كما كنا طوال السنوات الماضية ولنتزاور كلما استطعنا».
ولم يدرك الرجل أنه عاش فى وهم كبير إلا عندما طارت الطائرة وهى تحمل أغلى شىء عنده.•