«شفت الدول المحترمة»

صباح الخير
ريشة الفنانة: نسرين بهاء
فرنسا بلدٌ جميلٌ تديره دولة منضبطة، والأهم من انضباطها أنها تنظر بعين الرعاية الكاملة لمواطنيها لا تترك مواطنًا فرنسيّا يعانى ضعفًا أو حاجة إلا وذهبت إليه أجهزتها الحكومية لترفع عن هذا المواطن الفرنسى المتعب عناء الضعف وتسد حاجته. هناك أمثلة كثيرة تعطيها لنا الدولة الفرنسية فى كيفية الاعتناء بمواطنيها.. يوجد فى فرنسا الجميلة فِرَق تُسمى فِرَق التدخل السريع، وظيفة هذه الفِرَق تلقّى اتصالات المواطنين فى حال شاهدوا وجود مُسن أو إنسان مشرد يسكن أرصفة المدن الفرنسية.. بمجرد تلقّى هذه الفِرَق الاتصال تتجه على الفور مجموعة منها إلى المسكين المُلقى على الرصيف، توفر له علاجًا بواسطة أطبائها ثم تنقله إلى بيوت مخصصة لاستقبال مثل هذه الحالات..
تبحث الدولة الفرنسية عن المواطنين الذين يسكنون فى مساكن غير لائقة وتبنى لهم سكنًا كريمًا وتجهز لهم هذا البيت ليواصلوا حياتهم وفق شروط إنسانية وآدمية..
وجدت الدولة الفرنسية أمرًا مُهمّا آخر يجب عليها القيام به، وهو وضع قاعدة بيانات لكل من يحتاجون المساعدة، ولم يكتفِ المسئولون عن هذا المشروع بالذهاب إلى المدن الكبري..
ذهب المسئولون إلى قرية نائية فى الريف الفرنسى وعثروا على 107 أسَر تحتاج إلى برامج مساعدة فقدموها لهم بطيب خاطر والأهم أن ملفات الـ 107 أسَر طلبها الرئيس شخصيّا ليتابع ما سيقدم لهم..
مكافحة إدمان المخدرات
لم تقف الدولة الفرنسية مكتوفة الأيدى أمام مشكلة تعاطى المخدرات، قدمت لصندوق مكافحة إدمان المخدرات 250 مليوناً لأجل دعم عمل الصندوق فى هذه الحرب الشرسة التى تهدد الشباب الفرنسي..
كانت توجد مشكلة فى القطاع الصحى بفرنسا سببها قوائم الانتظار للمرضى أصحاب الحالات الحرجة فوجئ هؤلاء المرضى بأمر غريب أتتهم اتصلات تليفونية تطالبهم بتحضير ملفاتهم الطبية..
فى خلال 48 ساعة استقبلتهم المستشفيات عسكرية ومدنية ليُجروا عمليات جراحية وقامت الدولة الفرنسية بدفع تكاليفها كاملة..
استشعرت الدولة الفرنسية أن هناك شرائح فى المجتمع مهمشة لا يوجد لديها أى غطاء من الحماية الاجتماعية فأسرعت وقدمت لهم شهادات تؤمّن لهم مستقبلهم وأيضًا معاشًا شهريّا يكفل لهم الحياة بكرامة..
وصل اهتمام الدولة الفرنسية إلى الأطفال، خصوصًا الذين لا يجدون مأوى وقامت بمسح شامل لمعرفة ظروفهم الاجتماعية ثم قامت بعمل برامج لهم من أجل تعليمهم وبعدها تدمجهم فى المجتمع..
لا يمر يوم إلا وتبحث الدولة الفرنسية عن ما يمكن أن تقدمه لرعاية مواطنيها، والأهم أنها لا تنتظر أن يطلب المواطن منها المساعدة فهى تذهب إليه لتحل له مشكلته..
موعد مع صديق
نترك الدولة الفرنسية قليلًا ونذهب إلى أحد مقاهى القاهرة.. كنت على موعد مع صديق.. هذا الصديق رُغْمَ علمه وثقافته فإنه دائمًا ناقم..لا يرى أى تغيير يحدث حوله وأن أسعفته بصيرته برؤية تغيير فيضعه فى خانة الأسوأ..
أصبح لصديقى هذا نسق فى الحوار، فهو يبدأ حواره بذِكر كل ما تقدمه الدول الغربية إلى مواطنيها من خدمات ويعقد المقارنات بين مصر وهذه البلاد، وبعد أن يضرب مثلًا بخدمة قدمتها دولة غربية إلى مواطنيها يقول جملته الأثيرة «شفت الدول المحترمة»..
فى لقاء أخير معه لم يكتفِ صديقى بالدول الغربية بل اتسعت خريطة المقارنات لديه لتصل إلى دول جنوب شرق آسيا والصين..
حاولت كثيرًا نقل النقاش معه من دائرة المقارنات وحالة السوداوية المسيطرة على رؤيته لكنه كان يمط شفتيه ساخرًا ثم متعجبًا مـــــن اقتناعى بوجود تغيير يحدث فى اتجاه الأفضل..
حاولتُ فى كثيرمن الأحيان نقل وجهة نظرى إليه، وتتلخص فى أن المواطن فى مصر يواجه العديد من المصاعب والتحديات، وهذا لا ينكره أحد ولكن الأهم هل تقف الدولة المصرية تراقب هذه المصاعب والتحديات دون فعل أم تتحرك وترفع عن كاهل المواطن هذه الأعباء؟
لا يجيب صديقى على السؤال بل يعود إلى سلسلة المقارنات الدائمة التى لا تتوقف وحاولت مرّة أخرى نقل له ما أقصده بطريقة أخري..
قلت له..لا يهمنى حجم التغيير للأفضل، الأهم بالنسبة لى أن التغيير وصل إلى عقل الدولة المصرية وبوصلته مصلحة المواطن..
هذا التغيير لم يحدث فجأة، بل حدث نتيجة حراك شعبى قوى خلال السنوات الماضية سواء بسبب أحداث يناير أو ثورة 30 يونيو المجيدة عندما تحركت شرائح من الجماهير فى يناير كان هدفها الأول عودة الدولة القوية الراعية لمواطنيها بعد عقود من الأهمال والتسيب وشبه الدولة..
عودة الدولة القوية
لكن ما حدث عكس ذلك، خدع الفاشيست الإخوان وأذنابهم من السلفيين ثم من والأهم من البلهاء أو العملاء هذه الشرائح من الجماهير ليصلوا إلى كرسى الحُكم وكان هدفهم الأول القضاء على الدولة وليس تلبية مطلب الشرائح الجماهيرية فى عودة الدولة القوية..
استطاعت الأمة المصرية بعد عام واحد ومقارنة بأعمار الأمم، خصوصًا الأمة المصرية يحسب هذا العام فى عمرنا البشرى مثل كسر الثانية خرجت الأمة المصرية بكل عنفوان وقوة فى 30 يونيو لتمحى الخداع والمخادعين وتستعيد دولتها من الفاشيست الإخوان وأذنابهم السلفيين..
أدركت الدولة وهى عقل الأمة بعد المعارك التى خاضتها الجماهير لاستعادة هذا العقل أو الدولة أنه يجب حدوث تغيير عميق فى كيفية إدارتها للمجتمع..
طورت من وظائفها الطبيعية والمطلوبة منها وعلى رأسها إرساء الأمن والعدالة بين مواطنيها وبدأت تقوم بوظائف لم يعتد المواطن المصرى عليها من دولته، وهذا المواطن فى أزمنة سابقة كان فقد الأمل فى وجود دولة تقوم بتلك الوظائف، والحقيقة هو نسى وجود الدولة نفسها..
هذا ما أسميه التغيير الحادث فى عقل الدولة والمنعكس على دورها الذى تقوم به الآن تجاه المجتمع والمواطن..
هَزّ صديقى المقارن رأسه وأبدى تفهمًا أوليّا لحديثى ولكنه استرد عناده ومقارناته سريعًا معتبرًا أن ما قلته يبدو نظريّا منطقيّا ولكن التطبيق غير موجود..
بالتأكيد أعلم عن صديقى الكثير، فهو رجُل ينتمى إلى الشريحة العليا فى الطبقة الوسطى، بمعنى آخر هو ميسور الحال ويشغل وظيفة جيدة ويسكن فى واحد من أحياء هذه الطبقة المصرية الأصيلة..
لأنى أعلم عنه كل هذا سألته سؤالًا افتراضيّا تخيل يا صديقى لو كان أمامك مجموعة من الأشخاص معرّضون لخطر ما ووجب عليك أن تنقذهم جميعًا بمن ستبدأ؟
فكر صديقى قليلًا وقال فى ثقة بالتأكيد سأبدأ بالأكثر عرضة للخطر وبعدها الأقل وهكذا إلى أن يزول عن الجميع الخطر الذى يهددهم..
سعدت بإجابته وقلت له بنفس منهجك فى عملية الإنقاذ تفكر الدول عندما تطور وظائفها لتصبح دولة الرحمة بالإضافة لكونها دولة القانون والردع من أجل إرساء الأمن والعدالة..
تتجه دولة الرحمة أولًا للفئات الأكثر عرضة للخطر فى المجتمع أو البسطاء فهم لا يستطيعون حتى المطالبة بحقوقهم لأسباب كثيرة ناتجة عن ضعفهم الطبقي..
تقوم دولة الرحمة بعملية إنقاذ واسعة لهذه الفئات من أجل إخراجهم من عوزهم وتأهلهم لكى يندمجوا أكثر فى المجتمع ثم تعطيهم القدرة على امتلاك الأدوات التى تمكنهم من المضى فى طريق الارتقاء..
تستمر بعد ذلك عملية المساعدة من دولة الرحمة لكل فئات المجتمع بترتيب أولوية الخطر الذى يتعرضون إليه حتى نصل إلى مجتمع الرفاه المنشود..
استمع صديقى إلى ما قلته باهتمام وأبدى بعض الاقتناع بما قلته وانتهت أمسيتنا فى هذه الليلة..
الدولة الفرنسية
بعد يومين جمعنا لقاء آخر ومنذ اللحظة الأولى انطلق فى مقارناته التى لا تتوقف، أظهرت اهتمامًا كبيرًا بما يقول وقلت له أتصور أن أفضل دولة تقدم رعاية إلى مواطنيها البسطاء هى الدولة الفرنسية..
سعد صديقى بشدة لأنى أخيرًا انضممت إلى حزب المقارنات الذى ينتمى إليه وسألنى بلهفة: ماذا تقدم الدولة الفرنسية إلى مواطنيها؟
قلت له كل ما كتبته فى بداية هذا المقال عن ما تقدمه الدولة الفرنسية لمواطنيها من فرق التدخل السريع والمسكن الكريم وبرامج المساعدات وغيرها..
ضحك صديقى فرحًا سعيدًا بانتصاره لكن قبل أن تتواصل سعادته ابتسمت قائلًا: أريدك أن تستبدل فى كل ما قلته اسم الدولة الفرنسية باسم الدولة المصرية..
لم يستوعب صديقى ما قلته، أكدت له.. استبدل الأسماء.. فما ذكرته لك سابقًا تقوم به الدولة المصرية الآن وتنجزه يوميّا على أرض مصر وتقدم هذه المساعدات لمواطنين مصريين واضطرت إلى استبدال الأسماء حتى تقتنع بحدوث تغيير..
صمت صديقى طويلًا فى جلستنا ولا أعلم هل كان سبب صمته جهله بأحوال الدولة التى يعيش على أرضها أم لأنه لن يستطيع طرح مقارناته الساذجة بعد الآن؟
حتى أخفف عنه ابتسمت واستعرت جُملته الأثيرة "شفت الدول المحترمة". •