الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

التعليم والهوية والاختلاف

التعليم والهوية والاختلاف
التعليم والهوية والاختلاف


كتب: د. سامى نصار
 
عندما نتحدث عن الهوية والاختلاف فى مصر، فإننا لا نتحدث عن هوية فارغة ومسطحة، بل نتحدث عن هوية ثرية بتنوعها واختلافها، وبحصيلة من الوعى تراكمت عبر العصور، هوية متعددة المصادر والانتماءات، وهذا لا يعيبها، بل مصدر قوة لها. لقد ولى ذلك الزمان الذى كان يتم فيه توظيف «الثقافة» توظيفًا قمعيًا واستبداديًا، عندما كانت تستخدم أجهزة التعليم والثقافة والإعلام من أجل قمع الاختلافات، وإذابة التنوعات، وكبت الأصوات الأخرى. وكأن الهوية لا بد أن تتكون من نسخ متكررة من أفراد متشابهين فى الأعراق والأعراف، والسلوك وأنماط التفكير والمعتقدات.. إلخ، وهذا محال بحكم الطبيعة.

وإذا كانت سياسات الثقافة والتعليم فى مصر، قد حرصت على تجاهل التنوعات لفترة طويلة، فإنها لم تكن تدرى أن التأجيل سوف يؤدى إلى التأجيج فى لحظة زمنية معينة، وهذا ما حدث بالفعل عندما انكشف الغطاء بعد ثورة 25 يناير وارتفعت أصوات الهويات التى تم تغييبها – بدعوى التماسك الاجتماعى – مطالبة بالحضور والحصول على حقوقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى كانت محرومة منها.
وإذا كانت الهوية،  كما قلنا، تتكون من انتماءات متعددة فإنه يكفى أن ينتهك انتماء واحد لينفعل الإنسان بكل كيانه. «وغالبًا ما ينزع المرء إلى التماهى مع أكثر انتماءاته تعرضًا للتجريح، وحين لا يقوى الفرد على الدفاع عن نفسه، فإنه يخفى هذا الانتماء الذى يبقى متواريًا فى أعماقه، قابعًا فى الظل، ينتظر ساعة الانتقام.
وعبر تاريخ مصر الطويل الضارب فى أعماق الزمن تمازجت مكونات الهوية المصرية مع بعضها جامعة بين الفرعونى والقبطى والعربى الإسلامى، متفاعلة مع حضارة حوض البحر المتوسط بروافدها الإغريقية والرومانية مما أكسبها بعدا إنسانيا فريدا. لقد انصهرت هذه العناصر مع بعضها وكونت العقل المصرى والسلوك المصرى والهوية المصرية على مر التاريخ، ولكن تأتى التحديات والتقلبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتبرز عنصرًا واحدا وتحاول أن تدفع به إلى المقدمة.
الهوية والفقر
وفضلا عن العناصر السابقة هناك عنصر إضافى، أراه مكونًا مشتركا من مكونات الهوية المصرية، وهو الفقر، فالفقر تفاعل مع كل هذه العناصر عبر التاريخ، ولوَّنها وتلون بها، وفرض عليها شروطه، ولبس ثيابها، وأنتج فكرها، وظهر لدينا ما أطلق عليه الراحل يوسف إدريس فكر الفقر وفقر الفكر.
فالفقر كهوية هو الذى يدفع الملايين من البسطاء إلى السلبية وإلى الركون إلى ثقافة الصمت، ويسلبهم الدافعية للمشاركة،  ويملأهم بالخوف من التجديد.
ويمكننا هنا أن نسوق بعض الأمثلة من الواقع المصرى، فلو نظرت إلى الشعارات التى رفعتها الثورة المصرية فى 25 يناير لن تجدها تتعدى الحاجات الأساسية الطبيعية للإنسان... عيش، حرية، عدالة اجتماعية. وهى مطالب واجب على الدولة  أن تؤديها. 
ولو سألت مصريًا بسيطُا عن هويته أو انتمائه السياسى فسوف يجيبك بعبارة مفعمة بالدلالات عندما يقول «أنا على باب الله»،  وإن سألته عن أحلامه وطموحاته فلن تتجاوز (الستر) منزوعا منه التحزب لفكر أو لتيار سياسى أو حتى لحلم خاص أو عام.
وإذا نظرت إلى الفوضى العارمة فى شوارعنا، ومؤسساتنا الحكومية، وفى العشوائيات السكانية سوف تجد أن ما يجمع بينها هوية واحدة مشتركة هى الفقر، فالفقر – كهوية – ينتج لنا على المستوى الفردى ذوات غير متحققة ومشوشة ومشتتة، منغلقة على ذاتها، نافية للآخر وغير متسامحة، وسهلة الانقياد، لذلك تلاعبت الجماعات السياسية المتسربلة برداء الإسلام، والمدعومة بأموال رجال الأعمال، بأصوات الفقراء وبعقولهم، مستغلة حاجاتهم الأساسية وتراجع دور الدولة فى تلبيتها. 
والفقر، كهوية، ينتج أشكالًا متدنية من الوعى والثقافة، ويكفينا أن ننظر إلى مدارسنا وجامعاتنا وما يتم فيها من تعليم وما تنتج من معرفة، وما يدور فيها من تفاعلات، كما يكفى أن ننظر إلى خطابنا السياسى والثقافى والإعلامى والدينى بمضامينه ومفرداته ورموزه، لندرك حجم كارثة فقر الفكر وفكر الفقر الذى نعيشه.
التعليم والتنوع والاختلاف
لقد كان التعليم انعكاسًا لحالة التمزق التى نعيشها فلم يستوعب عناصرها ويصهرها، ويقدم نسيجًا معرفيًا تتجلى فيه هذه العناصر – بكل أطيافها وألوانها – متناسقة ومتكاملة ومتداخلة لا انفصال بينها، وإنما كان أداة لتقديم المعرفة الرسمية البعيدة تماما عن المعرفة الخاصة بالفهم الطبيعى للحياة اليومية التى تعكس الهوية الثقافية للمجتمع بشكل مباشر وصادق.
وهذان النوعان من المعرفة يقفان على طرفى نقيض من الناحية الأيديولوجية، فالنوع الأول وهو المعرفة الرسمية يعد الوسيلة التى تفرض بها الجماعات المسيطرة نفسها على الجماعات الخاضعة، وتعمل على إسكات صوت هذه الجماعات واستبعاده، ومن ثم يتحول هذا الصوت المستبعد إلى صوت خانع وخافت وكامن وغير معترف به؛ فتضيع معه الهوية وتتمزق بين انتماءات متعددة، ومتعارضة. ومن ثم تحاول هذه الانتماءات أن تعبر عن نفسها بأكثر الطرق عنفًا وفجاجة وسطحية.
أما النوع الثانى وهو الفهم الطبيعى للحياة، وهو ما عجزت مدارسنا وإعلامنا عن تقديمه حتى الآن، وهو الذى يفتح الباب أمام كل الأطياف المختلفة المكونة للهوية لتتفاعل مع بعضها البعض ويكون مصدر اتحاد وتعاضد، وقوة وتساند، وإثراء للهوية وترسيخ لمقوماتها الأساسية.
ومن هنا، فإن الوظيفة الأولى للتعليم والثقافة هى الحفاظ على التنوع والاختلاف فى إطار الوحدة، وهى وظيفة تسمح بوجود التباينات الثقافية باعتبارها حتمية وضرورة إنسانية لا نستطيع تجاهلها، أو إلغاءها، أو اقتراف جريمة قمعها. وعلى التعليم أن يركز على المشترك الثقافى الذى يجمع بين كل هذه التباينات ويدعمها فى ظل الاعتراف بحق الاختلاف.
وعندما نتحدث عن التعليم والاختلاف، فإننا لا نتحدث عن كم ونوع المعرفة التى نحتاجها، بل إن الأهم من ذلك كله هو تغيير أسلوب اكتساب أبنائنا للمعرفة والثقافة، وكيفية تغيير موقفهم من الآخر المختلف، وتدريبهم ليس فقط على قراءة الكلمة، بل على قراءة العالم والفهم الشامل لما يحدث فيه، والتفاعل العلمى العقلانى، والإيجابى والخلاق مع ثقافاته وحضاراته على اختلافها وتنوعها.
وفى هذا الصدد، ينبغى على التعليم أن يتخلص من أفكار الإقصاء والاستبعاد القائمة على الشعور بالاستعلاء الثقافى والمعرفى، وأن تكون الممارسات اليومية فى المدارس داعمة لهذا الاتجاه، فعلى التربية أن ترسخ فكرة الإيمان بالوحدة داخل التنوع، وبإمكانية قيام ذلك. لكن لابد أن يكون لدى جميع الأطراف - على مستوى الأسرة والمدرسة - حلم كبير تتوق الأطراف المختلفة إلى تحقيقه، ومن ثم يقبلون على تقديم التنازلات طواعية دون إجبار أو قهر أو استعداء أو استعلاء.
وأخيرا، فليس ثم من سبيل أمام التعليم لبناء الهوية المصرية إلا بوضع منهج قومى يعبر عن ثقافة مصر، وعن الثوابت القومية، ويرسخ الانتماء للوطن، ويرصد تاريخ الشعب لا الحكام، ويضع بذور تكوين المواقف السياسية دون الدخول فى الصراعات الحزبية، ويعرض سير الزعامات الوطنية والأبطال القوميين الذين أشعلوا فى نفوس أبناء الأمة جذوة المقاومة للاستعمار، والهيمنة الأجنبية والاستبداد، منهج يرنو إلى المستقبل، ويرسخ العقلانية والعلم والتنوير وقبول الآخر فى دولة مدنية تقوم على المواطنة حقوقا وواجبات. •