الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الأب هنرى بولاد اليسوعى: سر تناقض الشخصية المصرية

الأب هنرى بولاد اليسوعى: سر تناقض الشخصية المصرية
الأب هنرى بولاد اليسوعى: سر تناقض الشخصية المصرية


كثيرا ما يشغلنى السؤال حول التناقض الذى يصيب ملامح الشخصية المصرية الآن، فهو كل شىء وعكسه! الفرح والحزن، الكآبة والانطلاق، التدين والانفلات، الحماسة والكسل!
ثم كيف ولماذا لم يتأثر- تاريخيا- بمختلف جنسيات الاحتلال التى مرت به، ولم يأخذ من عاداتهم وتقاليدهم، ولم يتعلم طريقة تفكيرهم، ولا حتى تكلم إحدى لغاتهم مثلما حدث مع شعوب الشام والمغرب العربى التى صارت تتحدث اللغة الفرنسية بطلاقة تفوق اللغة العربية نفسها؟!
ذهبتُ أسأل الراهب الكاثوليكى الأب هنرى بولاد اليسوعى الملقب بالقديس الفيلسوف، بسنواته التى تجاوزت الخمسة والثمانين عاما عن أسرار الشخصية المصرية التى ظل يحاضر عنها فى سلسلة طويلة على مدار السنوات داخل مصر وخارجها، لمختلف فئات الجمهور من مسيحيين ومسلمين وملحدين.. فقال لى: إذا أردتِ أن تتعرفى على شخصية المصرى، لاحظى فمه.. فهو المدخل لفك لغز تلك الشخصية التى تمتاز بالتناقض الشديد..
وهكذا بدأ الحوار..
فى حجرته المتواضعة بمدرسة العائلة المقدسة بالقاهرة، بدأ يشرح كيف أن الشخصية المصرية هى خلاصة الزمان والمكان- التاريخ والجغرافيا- وكيف ساهم طقس مصر المعتدل فى تكوين الطابع المصرى اللطيف، غير الميال للشجار أو المنازعات، بينما ساهمت المناطق الجبلية والصحراوية فى جعل أبنائها أكثر صلابة وشدة، ومن هنا نجد عادة مثل الثأر منتشرة بالصعيد بالتحديد.
كما لعب تكرار المواسم دورا كبيرا فى تأصيل الاستمرارية والثبات فى سلوك الشخصية المصرية، ويرجع الفضل لفيضانات النيل فى صفة الغضب والثورة المفاجئة لشخصية المصرى، حيث لا يعلم أحد متى وكيف ولماذا يثور!! بالإضافة للدور السياسى الذى لعبه النيل، حيث أدى انقسامه وتحوله إلى حرف V عند القاهرة إلى مركزية العاصمة فى كل شىء. وتاريخيا، معروف أن طباع الشخصية المصرية لم تتأثر على مدار الأجيال والقرون بالنظام الحاكم سواء كان مملوكيا، أو ملكيا، أو إقطاعيا، أو محتلا كالاحتلال الإنجليزى والفرنسى؛ حيث عادة ما كانت بعض التغيرات فى العادات والتقاليد تحدث فى المدن الكبيرة كالقاهرة والإسكندرية، ولكنها لم تمس أغلبية الشعب، وهذا ما يفسرصعوبة وندرة تغير صفات الشعب المصرى، كما يفسرعدم تأثره بالاحتلالات المتعاقبة، وبالتالى لم يأخذ لغتها، ولم يتأثر بسلوكها ولا صفاتها!
يخبرنى الأب بولاد أن الشخصية المصرية تمتاز بصفات من السهل أن يخرج منها السلبى والإيجابى معا، وربما يكون هذا الوصف أحد عوامل تركيبة تلك الشخصية التى نعيشها حاليا، - فعلى سبيل المثال - الأصالة من الصفات الجميلة فى الشخصية المصرية، وتخبرنا التماثيل أن شكل وملامح المصرى الحالى لم يتغيرا منذ ما يقرب من 3000 سنة ق.م، إلا أن هذه الصفة التى منحت المصرى الشعور بالفخر والثقة فى نفسه والانتماء لوطنه بسبب إدراكه لمدى تأصله فى التاريخ هى التى جعلته أيضا محبا للأجانب فى المقابل، حتى تحول حب الأجانب إلى ما يعرف بعقدة الخواجة والشعور بالدونية أمام الأجنبى، خاصة فى فترات الانهيار واهتزاز ثقة المصرى فى نفسه لأسباب كثيرة بدأت للأسف فى زمان عبدالناصر، ثم مع حركة أسلمة المجتمع.
المظهر وليس الجوهر
يستطرد «أبونا» قائلا: المصرى لديه إحساس زائد عن اللزوم بالكرامة، ما جعله حساسا ومرهفا، وغير قابل للنقد، بل وغير قادر على مواجهة مشاكله بواقعية، حيث يؤكد لك أنه متفق معك 100% ولكن سلوكه يختلف معك أيضا 100%!
ومن هنا لجأ لاستخدام الكلام الحلو المنمق مع الكثير من المبالغة لأنه يريد منك أن تعامله بالمثل، وإلا فأنت عدوه ولا تحبه! والمؤسف أن هذه الصفة حولته إلى شخص محب للمظهر على حساب الجوهر، يرتدى أحسن الملابس، ويركب أفخر السيارات ولكن بيته وشارعه فى حال يرثى لها. حتى فى سبل العيش، تحول إلى شخص يقبل أن يقبض ألف جنيه فى وظيفة لا تناسب قدراته ولكنها تجعله جالسا على مكتب بقيمة واحترام، على أن يمارس عملا بسيطا قد يكسب منه آلاف الجنيهات باعتبارها وظيفة تقل من كرامته -كما يظن-! وهكذا أصبحت الشخصية المصرية سطحية الثقافة تقيم وزنا لشكل الإنسان ومظهره ويقبض من وظيفته.. وليس لقيمة ما ينتج، التى تبعها الكثير من التسطيحات الأخرى فى جميع تفاصيل الحياة.
متدين ولكن.
من مميزات المصرى أنه شخصية متدينة لأبعد الحدود، حيث ساهمت أهمية وحدة مصر القديمة فى ترسيخ مذهب الوحدانية الدينية وربط السياسة بالنزعة الروحية، وهكذا، مهما تعددت الآلهة كان هناك إله فوق تلك الآلهة، فهو رع، أو آمون، أو أمنون؛ لتثبيت الحكم بتأكيد انتماء الحاكم لذلك الإله. المشكلة- يقول أبونا بولاد- إن دور الله تعظم فى العقلية المصرية، حتى ألغى المصرى عقله ودوره مقتنعا بأن الله هو الذى سيفعل كل شىء، فانتشرت كلمات مثل: بأمر الله، إن شاء الله، بإذن الله، ربنا يسهل، ربنا موجود.. فتحول الله إلى عائق كبير فى تنمية الشخصية المصرية والبلد نفسها، كما يقول أبونا بولاد، موضحا كيف ظهر الإلحاد المعاصر فى مواجهة فشل الدين فى تحقيق تنمية المجتمع، حينما بدأ البعض يتخلص من خضوعه لرجل الدين وسلطته التى أوجدت السلطة الذكورية المجتمع، وداخل الأسرة.. بداية من سيطرة الأب فى البيت إلى سيطرة الحكومة والشعور بالخوف منها -على عكس الوضع فى العالم كله!
إلا أن المصرى بالإضافة لإيمانه العميق بالقضاء والقدر.. فهو غير مغامر ولا يحب مفاجآت المغامرة.. يقول الأب بولاد، موضحا: فهو مطمئن ومستقر طالما هو فى إطار وداى النيل بصحرائه على الجانبين، بل ويشعر بالغربة إن تخلى عن موقعه، ومن هنا تأصلت شخصة الموظف التقليدى بشخصية المصرى.. التى أكدتها بعض الأمثال الشعبية مثل «اللى نعرفه أحسن من اللى مانعرفوش»، و«امشى سنة ولا تعدى قَنَا»..وغيرها.
شخصية مدَعية!!
من صفات الشخصية المصرية أيضا أنها كثيرة الادعاء باحترام الآخر دون فعل حقيقى لمعنى الاحترام- يستطرد الأب بولاد: وأقول كلمة ادعاء لأنها تكشف مضمون هذا الفعل الذى يظهر فى أبسط مظاهر التعاملات، كالرسم على الحوائط دون مراعاة اختلاف الأذواق، وإهمال نظافة الأرضيات، وسوء استخدام الممتلكات العامة.. كل هذه التفاصيل التى تشكل حقيقة رؤية الشخصية المصرية فى الآخر، لأن الإنسان ليس إلا مجموعة هذه السلوكيات الصغيرة الكاشفة.
ويعتقد بولاد أن الانفصام يعد أحد ملامح الشخصية المصرية الحديثة، قائلا: «المصرى جواه حاجة وبرة حاجة تانية خالص، يقول حاجة ويعمل عكسها تماما».. كل ذلك نتيجة اعتياده على أن قيمة الشىء ليست فى ذاتها بل فى شكلها. وهو ما نراه فى قدرة تعامل المصرى على «الحداثة والتحديث» بما لديه من الاستعداد على استخدم الأجهزة المتطورة التى نتعامل معها كالمحمول كأحد منتجات التحديث، ولكنه على العكس من ذلك ليس على استعداد لتغيير المفاهيم، وتقبل النقد الموضوعى، واستخدام التفكير المنهجى التى تشكل مفهوم الحداثة!
خفة دم أم انفصام الشخصية؟
أما النزعة الاجتماعية لدى المصريين، فقد تكون السبب فى اشتهارهم بخفة الدم، والنزعة للفكاهة والمرح، والتنكيت حتى على ظروفهم وآلامهم، لأنهم مع الوقت تعلموا أن الأولوية للمظهر، فمن المهم أن يكون المصرى محبوبا، وخفيف الدم، ومقبولا ليشعر برضائه عن نفسه بين الناس، لأنه لم يتعلم أن قيمته فيما ينتجه من عمل نافع.. وليس فى رأى الآخرين عنه!
ومن هنا، نادرا ما نجد المصرى قادراعلى مواجهة نفسه والجلوس مع ذاته لمحاسبتها» وترسخت فكرة الانفصام التى تحدثنا عنها! كما أصبحت لديه القدرة على التمثيل وإخفاء مشاعره..ولذلك من السهل على المصرى أن يتكلم كلامه منمقا جميلا، على أن يقول الحق حتى يضمن سماع الناس له!
المصرى- ولا يزال الحديث لأبونا بولاد- لديه فضول شديد، يضعه البعض فى إطار لطيف يطلق عليه أسماء وصفات عاطفية كالشهامة والجدعنة والعشرة.. و.. و! بالتأكيد لا ننكر وجود تلك الصفات ولكن معيار الحقيقية هنا هو طبيعة الفعل المرتبط بتلك الصفات! كل هذا جعل الشخصية المصرية لا تميل لاحترام قيمة الخصوصية التى تشعر الإنسان بقيمة نفسه وأهميتها، فنادرا ما نجد درجا مغلقا فى مكان عمل، ودائما ما يزعجنا وجود باب مغلق.. بل حتى الشخص الكتوم نطلق عليه صفات سلبية كاللؤم والمكر لأنه ليس مكشوفا لنا!
وهكذا، أصبحت قيمة الوقت لدى المصرى مهدرة أيضا، فقبل التليفون المحمول، كانت احتمالية فقرة التحيات والسلامات تمتد لما يزيد على ربع ساعة ثم ندخل بعدها فى الموضوع، لأن الحياة الاجتماعية عند المصرى أهم لديه من العمل، بل وكثيرا ما نسمع البعض يردد: «الشغل هانلاقى عليه.. لكن القعدة الحلوة دى ما تتعوضش»!
فم المصرى.. سبب مشاكله
صحيح أن المصرى كريم بطبعه، يقول أبونا بولاد، شارحا: ولكن حبه للحياة الاجتماعية، والقعدة الحلوة، واهتمامه بأن يوصف بالكرم والكرامة وخفة الدم.. وغيرها من الصفات هى التى تجعله يصرف فى جلسة واحدة راتب شهر بأكمله، مؤمنا أن «ربنا هيبعت».
المصرى فهلوى، يستمر أبونا بولاد فى شرح رؤيته التى جمعها طوال سنوات عمره حول الشخصية المصرية، مستطردا: لأنه من العيب أن يخبرك أنه لا يعرف! حيوى يحب الضوضاء، ولذلك لا مانع لديه أن يعيش فى مناطق عشوائية.. غير مؤهلة لأنه يعرف كيف يتصرف! فهو شخص عاطفى يفكر بقلبه وعواطفه.. حيث يتطلب الفكر تنظيما وترتيبا قد لا يكون مؤهلا له.
آه.. يقولها الأب بولاد.. ضاربا بيده على المنضدة التى أمامه: الطابع المزاجى لدى الشخصية المصرية هو واحد من أكثر ما يميزها، وهو ما يفسره علم النفس بأنها صفة ناتجة عما يسمى بـ«الرضاعة بحسب الطلب» أى حينما يدق الطفل على صدر أمه لترضعه، يقول أبونا بولاد: هذا السلوك يعد أحد أهم أسباب مزاجية الشخصية المصرية، وانظرى الفرق: مؤخرا حضرتُ حفلا موسيقيا فى النمسا وكان هناك أطفال لا تتعدى أعمارهم 3-4 سنوات يحضرون الحفل فى صمت وانتباه تام، مما جعلنى أتساءل: لماذا لا يحدث هذا مع أطفالنا؟ والسر ببساطة لأن الأطفال هناك «يرضعون بحسب الجدول»! شارحا: الفم هو المدخل الذى يشكل العقلية المزاجية للشخصية المصرية.. وهذا ما كشفته وأكدته بنفسى فى دراسة الماجستير التى قمت بها حول الفم.. وأثره على شخصية الإنسان المصرى، فهو دائما فى حالة حركة: يأكل، يتكلم، يقزقز لب، يغنى، يفكر بصوت عال.. كل هذا ارتبط عنده بفوضى المواعيد، وعدم الالتزام.. مما يعنى باختصار أنه ضعيف الإرادة!
حينما سألت أبونا بولاد عن روشتة العلاج لطبيعة هذا الشعب الذى لم يجد من يهتم بدراسة خريطة سلوكه وتحويلها لخطة عمل، قال: السر يكمن فى كلمتين «التربية والتعليم» حتى تصبح مصر فعلا أم الدنيا، ويصبح المصرى بكل مؤهلاته قد الدنيا!. •