الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

البلابيصا

البلابيصا
البلابيصا



عبدالرحمن الأبنودى
من كتاب «أيامى الحلوة»
 
 من المُحال لمن وحَّدهم النهر العظيم أن يُفرق بينهم أهل الجهالة ودعاة التخلف‏..‏ فى قريتى لم يعلمنا أحد حب النصارى،‏ وإنما خرجنا للوجود فوجدناه‏..‏ كان غضب النيل لا ُيفرّق بين مسلم ومسيحى أو بين من يملك ومن لا يملك.
ولدتُ ونشأتُ فى قرية تعيش على الطقوس. لم تخترع طقوسها، وإنما حملتها معها بأمانة وحرص تمرق بها مخترقة حواجز الأزمنة، وتجتاز تضاريس القرون، وهى تحقق بتلك الطقوس وظائف حياتية ودينية محددة، والحديث عن طقوس قريتى لا ينتهى فإنها تغلف حياة إنسانها منذ الميلاد إلى ما بعد الموت.

ولأن قريتى عاشت كبَدَن واحد تمتزج هموم مسلميها بمسيحييها فى مواجهة الحياة الشاقة والمفاجآت الكونية، ويعود الفضل لذلك النهر العظيم الذى لم يكبح جماحه إلا منذ سنوات قليلة، فقد كان غضب النيل لا يُفرّق بين مسلم ومسيحى أو بين من يملك ومن لا يملك. لذا سقطت المسافات بين لابس العُمامة، وواشم الصليب، إن مواجهة الفيضان مَلحمة الملاحم، ومن لم ير قريته تواجه ثورة النيل يظل لا يعرف مصرنا الحقيقية، ولا يصل لكنه المعدن الخام الذى تَشكّل منه ضمير الإنسان المصرى.
أهل قريتنا أغلبية مسلمة وأقلية مسيحية، يعمل مسلموها بالزراعة ونقل الغلال وتجارة الحبوب، أمّا مسيحيوها فورثة لصناعات المصريين القدماء من صباغة ودباغة وغزل ونسيج تعرفهم هناك بزرقة أيديهم الدائمة وتعرف بيوتهم بحفر الأنوال القابعة أمام الدور أو فى الغرف الخارجية للبيوت وبانكبابهم على دواليبها وأنوالها رجالاً ونساءً.
لم يعلمنا أحد حب النصارى، وإنما خرجنا للوجود فوجدناه. كنا أطفالاً حين كنا نوقف اللعب إذا مرّ قس كنيستنا الفقيرة، وكنا نخاطبه بـ(يا أبونا) وكان أطفالهم يُقبّلون يد شيخنا، واختلاط الأعياد هو الوجه الأنضج لهذه العلاقة الحميمة، والدليل الأكبر على نفى المسافات بيننا، فكانوا يلبسون الجديد فى أعيادنا، وكنا نشاركهم أعيادهم كأننا ضيوف عليهم وتُعتبر أعياد ميلاد السيد المسيح وكل المناسبات الاعتقادية المتحلقة حول رأس السنة الميلادية أعيادًا إسلامية فى الوقت نفسه، سبت النور وأحد الخوص والغبيرة ورعرعة أيوب.. إلخ، أهم تلك الطقوس كان ذلك الطقس العجيب الذى عنيته بكل تلك المقدمة وهو(البلابيصا).
وكلما جمعتنا الظروف بعالم مصريات أو قبطيات سألته عن معنى الكلمة أو شبيهة لها فى لغاتهم علها تكون لفظة، حُرّفت، أو طقسها قديمًا اتخذ شكله المستقر الذى ورثنا ممارسته مجتمعين مسلمين ونصارى دون أن يحاول طرف منا ادعاء مِلكيته، رُغم أن كل الشواهد تؤكد مسيحيته، لكن لكثرتنا فإن المناسبة كانت تحت حمايتنا نحن أبناء المسلمين.
(البلابيصا) هو اسم هذا الاحتفال الذى كان يتم فى قريتنا والقرى والمدن المجاورة أيضًا عشية أعياد الميلاد، ولأننا لا نعرف مدلول الاسم، فإننا بالطبع لن نعرف مدلول الفعل (بلبصى) فقد كُنّا نرددها فى الأغنية التى تتوج تلك الاحتفالية الرائعة دون أن نعرف لها معنى.
خلال أسابيع كان القفاصون ينشطون فى إنجاز صلبانهم الجريدية بحيث تكفينا جميعًا. صلبان فى كل طرَف من أطرافها الأربعة ثقب، يتوسطها عود جريدى حاد صاعد يقابله عود يتجه لأسفل، وفى الليلة الموعودة نشترى صلباننا وأدواتها: عود قصب، برتقالة، أربع شمعات، ونبدأ بوضع شمعات الاحتفالات الرفيعة كل فى ثقبها، بعدها نغرس البرتقالة فى العود الحاد الصاعد الذى يتوسط الشمعات الأربع ثم نغرس كل ذلك فى رأس عود القصب بالعود الجريدى الحاد النازل.
ويتجمع أبناء كل حى فى حيّهم بصورة تلقائية بعد غياب الشمس ومع حلول الظلام لم يكن بالقرى كهرباء فى ذلك الوقت فجأة تضاء الشموع، ويرفع الأطفال عيدان القصب ويخرجون من الحى يصدحون بأغنيتهم السريالية المهيبة.. ليتلاقى جميع أطفال الأحياء فى بَدن واحد وصوت واحد وعليك أن تتخيل مساحة تلك الرقعة من الشموع وهى تتحرك مائجة الضوء والغناء فى قرية مظلمة.
أمّا الأغنية العجيبة فإنها كانت تقول:
يا بلابيصا..
بلبصى الجلبة
يا على ( يا ابنى)
جوم بنا بدرى..
دى السنة فاتت
والمرا.. ماتت
والجَمَل برطع
كسَر المدفع
وكلما انتهت الأغنية بدأت من جديد، ويتقدم الموكب ليدور خلف المسجد البسيط، ثم يتجه فى الدروب الضيقة نحو كنيسة قريتنا الفقيرة.. ثم يخترق كل الأحياء فتستقبله وتشيعه زغاريد الجدات والأمهات وهنا..... كـ حين يذوب الشمع، يفترش الأطفال تراب الساحة. يقشر كل طفل برتقالته ويلتهمها. ثم يبدأون فى مَصّ القصب وهم يلهون ويسمرون، وفى الدور تلتهم لِبَش كاملة من القصب فى تلك الليلة فى مجتمعات الكبار.
وإذا عُدنا للأغنية فإن أعجب ما فيها هو أننا كنا نغنى كلمات لا نفهمها، وهو ما لم يحدث من قبل فى مئات الأغنيات التى كنا نرددها، فحتى الآن لم أستدل على معنى كلمة بلابيصا. قيل لنا إن هيلاليصا كلمة فرعونية، أما بلابيصا وبلبصى فلم يرو فضولى نحوهما أحد. بل إن البيت الأول يزيدك إبهامًا- الفعل أو الفاعل والمفعول به أيضًا كلمات مجهولة، فما هى هذه الجلبة التى سوف تبلبصها البلابيصا؟!..
ومن هو على الذى تخاطبه تلك المرأة بقولها: يا على يا بنى.. وماذا تعنى بقولها: دى المرَا ماتت؟ من هى المرأة التى ماتت؟ هل هى السنة الميلادية؟ خصوصًا أنها تتبعها بقولها: والسنة فاتت؟ ومن أين جاء المدفع الذى كسره الجَمَل الذى برطع؟ هل هو من بقايا صور الحملة الفرنسية ومقاومة حملة ديزيه فى الصعيد؟
 تظل كلها أسئلة تنتظر فك طلاسم كلمة بلابيصا، وتفتح باب الاجتهاد أمام علماء اللغات القديمة
لكن المهم فى كل ذلك أننا كنا نحن أبناء المسلمين نرفع صلبان الجريد بلا حرج. إننا نغرب العلاقة حين نقول إنها وحدة بين مسلمين وأقباط وإنما عشنا ولانزال شعبًا واحدًا امتص الحضارات التى أبدعها إنسان النيل الجميل، ومن المُحال لمن وحّدَهم النهر العظيم أن يُفرّق بينهم أهل الجهالة دعاة التخلف خفافيش الظلام المريبة ومن المُحال أن يعثروا فى دواخلنا على عوامل للفُرقة والتفكك والانهيار، أو أن يصنعوا منّا أغلبية وأقلية.