السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

دفاعا عن الشخصية المصرية

دفاعا عن الشخصية المصرية
دفاعا عن الشخصية المصرية


إذا كانت كل فئة سياسية تجد المدافعين عنها والمحاربين تحت لوائها من السياسيين والمثقفين، فإن الشعب المصرى الصبور المترفع عن الدنايا يفتقد مَن يدافع عن شخصية مصر، وإن لم يفتقد من يتحدثون باسمه كأوصياء وموجهين لسلوكه. وهم يتناسون أن الشعب هو القائد وهو المعلِّم.

شخصية قوية تروض النهر الخالد
تميَّزت الشخصية المصرية بالقوة الكافية لكى تروض النهر الخالد الذى كان عصياً عاتياً يبخل أحيانا فيسود الجفاف، ويفيض أحيانا أخرى، فيطيح فى طريقه بكل مظاهر الحياة على الضفاف.
مفهوم النحن.. إنجاز الشخصية المصرية.
قـفـز بالـمـصـريين من مـجـرَّد الـتجـمـع الـفـيزيائى، حـول الـنـهر إلى مـجـتـمع سـيـاسى نـاضـج، بـدرجـة نُـضْـج الوعـى الاجـتماعى الـمـشـترك، الـذى تـشـكَّل فى ظـلّ إجـماع، ظَـلّ يـتنـامى كـلـما كـشـفـت الـجـمـاعـة الـمصـرية أنـها -بإدراكها الواعى لقوة الجماعة- تـصـبح أكـثر حـيـوية وصـلابة بل وسـعـادة.
«المحروسة»
الشخصية المصرية بين الموقع والموضع..
وهكذا تكونت الشخصية المصرية بين الموقع والموضع أو بين الصعب الممتنع والسهل الممتنع. ونقصد بالصعب الممتنع أن موقع مصر الحاسم الحاكم هو موقع متحد مثلما هو مقتحم، وهو لذلك صعب المواصفات ويكاد ألا نجد له مثيلاً.
أما السهل الممتنع، فلأنه من السهل أن نجد بين البيئات النهرية الفيضية الغنية، موضعًا كمصر ومن مجموع الاثنين كانت مصر أكبر قاعدة طبيعية وأضخم قوة بشرية فى المنطقة. وكان التناسق المتناغِم بين حجم موضعها وخطر موقعها هو مفتاح عبقرية المكان.
المؤرخون ليسوا دائماً على حق
ورغم أن كتابات مشاهير المؤرخين قد ظلَمت وشوَّهت التاريخ المصرى لافتقادها العُمق السُسيولوجى من جهة، ولأن المؤرِّخ لم يعتد كثيراً إلا بتسجيل دور الحُكّام، فلا تحظى الشعوب باهتمام المؤرخ لأنها لا تخيف المؤرخ ولا تمنحه الهبات.!
شخصية مصر تروض الغزاة
وذلك عندما خُدِع الغزاة فى الشخصية المصرية التى أبت أن تكشف ملامح قوتها إلا فى اللحظة التى وجَّهت فيها الضربة القاضية العسكرية الشعبية إلى الهكسوس، الذين حاروا بعد غزوهم العسكرى لمصر فى «الهزيمة الثقافية» التى ألحقتها مصر بهم، عندما فَرَض المصريون عليهم أن يرتدوا الزِيّ المصرى ويتحدثوا اللغة المصرية حتى ترضى «المهيبة العملاقة» المستعصية على القياد أن تتعامل معهم.
  مفتاح عصر البطولة مع الجيش
كان عصر مصر البطولى هو أطول عصورها أما بقاؤها الخالد فقد كانت شفرته السرية ومفتاحه مع «الجيش» الذى أدرك قدره، فقام بمهمته المقدسة أن يحمى الموقع، وأن يلُم الموضع. بمعنى آخر، أن يقوم بمهمته البنائية المتفردة بالحفاظ على البنية الاجتماعية من «التفكيك» الذى كان يصيب المركزية السياسية ويهدد الكيان الاجتماعى بالتشرذم والشتات. يقول الأبنودي:
   «والجيش فى مصر رباه الشعب على كيفه
     الجيش يحمى الشعب والشعب يحتمى بجيشه»
 فتش فى أعماق الشخصية المصرية، تجد بدلة عسكرية تحت الزِى المدنى. والعكس صحيح، فالحرب ليست وجهتنا ولا هدفنا، وإنما الدفاع الوطنى والجهاد لنصرة الأمة البناءة الفاعلة التى يعود جنودها إلى المصنع والحقل بعد أن يتحقق على أيديهم النصر العظيم. فالجندية لدينا ليست احترافا وارتزاقاً، وإنما هى فريضة ودَوْر. كما يقول الأبنودى:
«دى حربنا فى شرف حروب النبي!.»
دراما تكوين الجيش المصرى فى العصر الحديث
من أطفال مصر من الفلاحين تبدأ رحلة تكوين جيشها الوطنى
«حفظ الله الشعب»....هتاف عرابى
مفهوم النحن والخطر
سـاهـم هـذا المفهوم العمـيـق، فى تأمين ديمـومـة الجـمـاعـة الـمصـرية، وقـيـادتـها فى اتـجـاه خـيرهـا الـجـمـعـى، وقد كـان قادراً على فـرْض الـمـوقـف الـذى يراه محـقـقـاً لـتأمـين هـذا الـغـرض فصان مصر من الخطر الذى عاشت مصر فى ظلّه ولم تكن حياة مصر فى ظل الخطر الدائم شراً مطلقاً بل على العكس، كان هذا الخطر ظاهرة صحية شحذت الوعى القومى وأرهفَت الحساسية واليقظة الوطنية واستبعدت احتمالات الانغلاق على الذات واللامبالاة بالعالم الخارجى، فصارت أنضج الشخصيات وأقواها.
نحن والآخر
من أحبنا أحببناه... وصار متاعنا متاعه
ومن كرهنا كرهناه ويحرم علينا اجتماعه
هــكـذا، اتـخـذ الـمـصـريون مـوقـفـهم الحـضـارى مـن الآخـر، منـذ فـجـر الـتاريخ. وهـو مـوقف يَـسـبِق فى النُبــل والـرُقى،كـل ادعاءات الـمُـحْـدِثـين، حـول قـضايا قـبـول الآخــر والتـسـامُح...إلخ،. ولا يفوتـنا أن نـؤكِّــد أن قِـيَم الـتـسـامح واستيعاب الآخــر كانـت تسود مـصـر فى حـقـبـة تاريخـية حـفـلـت بقـيَم الـغزو وهـيمـنة منـطـق الــقـوة، وشـريـعـة الـعُـنف.
نحن والدين
اندهشت الدول التى خاضت الحروب الدينية الدامية والتى قامت بين أتباع الدين الواحد (البروتستانت والكاثوليك فى أوروبا والتى استمرت 130سنة) كيف تعامَل المصريون برُقى وتحضُّر بالغين فى مسألة التعددية الدينية بين مسلمى مصر ومسيحييها واليهود، فكانوا أول من أبدَع الديمقراطية الشعبية بقولهم:
 (موسى نبى وعيسى نبى ومحمد نبى وكل اللى له نبى يصلى عليه).
والانتماء الدينى الواحد لا يبرر قبول الاحتلال، فقد اعتاد المـصريون أن يحاربوا العـدو وإن كان ينتمى لنفس معتقداتهم الدينية، فلا يكفى أن يكون الدين سبــباً فى قبولهم للهوان، لذا قـــاومـوا بضراوة الغاصب العثمانى سـليم الأول، الـذى سـلب مصر أعظم فنانيها وصناعها المهرة بنفـــيَهم إلى الآسـتانة، ليؤسسوا النهضة الصـناعية فى تركــيا على النمط المصرى، وقـد اعتبــروه «الآخر» البغيض لأنه كان يهــدد ثروة مصر ويســلبها حـريتها.
 بينما نراهم يحيطــون بالضابط الشاب «محمد على» لأنه أتى بـحـلم النـهضة للأمة المصرية، 1805، وأخلـص لها، فانطـلق تحت لوائه جيش من رجالها إلى الآسـتانة - عاصمة الخلافة العثمانية- التى أذاقت مصر الـمِحَن، فكالت لها مصر الصاع صاعـين، فى غـضون عشرين عامًا فقط.