الإثنين 6 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

نعمات فؤاد: شخصية مصر فى الأدب الشعبى

نعمات فؤاد: شخصية مصر فى الأدب الشعبى
نعمات فؤاد: شخصية مصر فى الأدب الشعبى


لمصر وللمصريين طابع خاص، وقدرة لافتة على الابتكار أضفت روحها على الفنون والآداب وبها تُعرف أحوال المصريين كمبدعين للآداب والفنون.
وإذا كان ديزموند ستيوارت فى كتابه ««القاهرة» قد وصف شوارعها البلدية على أنها مسرح ليالى ألف ليلة، بل إن كثيرًا من حوادث هذا العمل قد وقع فى بغداد لكن المجتمع الموصوف هو مجتمع القاهرة حيث تبدو سمات الحياة فيها كما تبدو فى ألف ليلة وليلة باقية إلى اليوم.

إن د.نعمات فؤاد فى كتابها «شخصية مصر» تقول فى فصل خاص بمصر فى الأدب الشعبى: «أضافت بلاد عدة إلى ألف ليلة وليلة لكن مصر هى التى بلورتها بعد أن أعطتها إضافات مهمة ثم صبتها فى القالب الأخير الذى تعرف به بعد أن لمسها القاص الشعبى المصرى،  وأضفى عليها اللمسات الأخيرة».
.. وهو ما قد يفسر- من وجهة نظرى- ما قاله ديزموند ستيوارت إن مجتمع القاهرة وسمات الحياة فيه هو المجتمع الموصوف فى «ألف ليلة» إلا أن القاص الشعبى المصرى قد ترك الطابع المصرى على حكايات ألف ليلة.
وتأثير شخصية مصر، والمبدع المصرى أمر ملموس فى كتابات الدارسين الذين جلوا هذا الأثر الواضح فى الآداب والفنون الشعبية فتقول د.سهير القلماوى عن «ألف ليلة وليلة» على سبيل المثال: «ولئن حملت كل النسخ التى بين أيدينا الأثر المصرى فما ذلك إلا لأن الكتاب آوى إلى مصر فيما آوى إليها من كتب كونت تراث المدنية الإسلامية، ولما لم يكن مكانه المكتبة فقد آوى إلى العامة، وعاش عيشة مطلقة خارج جدران دور الكتب، وهنالك ترك الشعب المصرى فيه أثره الحى القوى فلما رُدَ إلى تلك الشعوب الأخرى التى كانت محتفظة ولا شك ببقايا منه على الأقل رد إليها مصريًا قوى المصرية».
وتؤكد نعمات فؤاد: «ولقد ذهب إلى القول بذلك لين، وفون هامر، وشوفان، وليتمان، وإذا كان البحث المتخصص قد انتهى إلى تقسيم ألف ليلة إلى قسمين قسم بغدادى وقسم مصرى، فقد نص كتاب «ألف ليلة وليلة» للدكتورة سهير القلماوى على أن القسم البغدادى تغير واتسع فى مصر ثم استحدثت مصر القسم المصرى بل وضعت قصصًا أقدم من زمن الرشيد، ولا تتردد بعض الدراسات المتخصصة فى رد القصص الموضوع فى مصر إلى أصول فى الأدب الفرعونى، فقصة على الزيبق على سبيل المثال يردها «نودلكة» إلى قصة مصرية قديمة.
وقد أخذت «ألف ليلة» طريقها إلى أوروبا بالنقل والترجمة بما تحمل من طابع مصرى ممثلاً فى حكمة النصيحة واصطناع الصبر والأناة، وما إلى ذلك من مظاهر السلوك، والعمل الذى تضرب جذوره كتاباتنا فى بيئتنا الزراعية.
 كرامات كتاب النيل
ولأمر ما يقوم القصص الشعبى الذى أنشئ أو تطور فى مصر على بطولة الأم وحمايتها لولدها وكأن مؤلفها يختزن قصة إيزيس وحورس، فقصة على الزيبق وهى القصة الشعبية المصرية الخالصة المصرية تقوم على حماية أمه الشجاعة حتى يأخذ بمقاليد الأمور بعد مقتل من قتل أبيه تمامًا كما انتقم «حورس» من «ست» لأبيه «أوزوريس» وتمامًا كما كان خيال عامة الشعب فى مصر القديمة مغرمًا بصورة الأم «إيزيس».
وفى قصة «سيف بن ذى يزن» يكون لنيل مصر «كتاب» محرزً فى صندوق من خشب الأبنوس، ومزينً بصفائح الذهب الأحمر، والصندوق موضوع فى تابوت من خشب الساج ومُحلى بصفائح الفضة، وموضوع عليه مقام عال من الخشب، وعليه ستارة من الحرير الملون، ومبنى عليه قبة محكمة من حجر الرخام الأبيض، وبابها من الحديد الصينى،  وأقفالها من الحديد.
إنه الخوف على النيل، والحرص عليه وهو سمة مصرية.
بل إن التناول الشعبى المصرى لقصة سيف بن ذى يزن جعل لكتاب النيل كرامات، بل جعل القاص الشعبى المصرى أكابر بلد «قيمر» من الملك والأمراء والنواب والحجاب يسجدون لكتاب «النيل» فله مقام عال، وقبة من الرخام وركوع وسجود يشترك فيه الملك والرعية على السواء، كل هذا لكتاب النيل الذى يجلب مياه النيل لكى تجرى وتتدفق فتغنى الجميع.
كتاب النيل الذى أخرجه الملك فى مشهد مهيب ففتح باب القبة، وفتح بعد باب التابوت وبعده يطلع الصندوق، وينظر إلى الكتاب بخشوع، ويسجد أمامه الجميع.
وترى نعمات فؤاد أن هذه القصة من الأدب الشعبى مطبوعة بطابع مصر فى الأخيلة والأفكار. وتحللها فتقول: «التابوت المصفح بالذهب كالتابوت الذى تفتقت عنه حيلة «ست» ليضع فيه أخاه «أوزوريس» والصندوق الذى وضع القاص المصرى كتاباً بالنيل فيه إنما يلمح إلى «إصبع الشهيد» الذى كان الأقباط يضعونه فى الصندوق، ويعتقدون أن النيل لا يفيض إلا إذا فتح الصندوق- تمامًا كما تروى القصة- وألقى الإصبع فيه بين مظاهر التوقير والحفاوة ثم يُعاد الإصبع إلى الصندوق لينتظر العام التالى.
 فى السيرة الهلالية
حتى السير العربية الأصل مصرَّها الرواة والشعراء المصريون مثل ملحمة بنى هلال إذ تم تنقيتها من موروثات البداوة، ومواضعات حياتها كنظام الرياسة، وبواعث الحروب فأبوزيد الهلالى الذى لا يعدو أن يكون أحد فرسان القبيلة أصبح فى السيرة المصرية قائد جيش نظامى يعرف التحضير والتحصن والتجهيز، ومصر فى السيرة الهلالية هى «المحروسة» حين يتطلع إليها «دياب بن غانم» ترده عنها «الأقطاب».
وفى سيرة «الظاهر بيبرس» تقول نعمات فؤاد: «لم تعد الرياسة وراثية كمشيخة القبيلة بل غدت بالانتخاب»، إنه نزوع المصريين إلى الديمقراطية مثله هذا الأدب الشعبى الذى أضاف إليه المصريون طابعهم الخاص.
 فن خيال الظل
عندما ارتحل ابن دانيال أهم المبرزين فى فن خيال الظل إلى مصر قادمًا من الموصل وعرض تمثيلياته فى مصر التقط فنانو مصر هذا الفن وطوروه فظهرت فيه الحياة المصرية، وصور العيش فيها، ووضعوا تقاليد فنية جديدة فى الاستهلال والختام، ولتصبح التمثيلية المصرية «حرب العجم» من أروع ما تركه فن خيال الظل، وفيها إصرار على الكفاح والنصر والتغنى به غناء يشحذ العزائم للجهاد، ومن مصر أخذت تركيا فن خيال الظل، واستعارته اليونان، وعن مصر أخذه الشمال الإفريقى،  وعن مصر أيضًا انتقل إلى شمال حوض البحر الأبيض المتوسط.
 فن الموال
وقد نشأ الموال فى بغداد لكنه تفتح وازدهر فى مصر وبرع فيه شعراؤها حتى أنهم طعموه بالأمثال الشعبية المصرية، وقد شاعت مواويل الصبر لا تسليمًا بالأمر الواقع ولكن إحساسًا بمرارته، الإحساس الذى يسبق الانتفاض، وأصبح فن الموال فى مصر فن مقاومة مثل موال «أدهم الشرقاوى»، وموال «زهران».
وقد انطلق الموال بكثافة فى ثورة 1919 مع الجموع المصرية ومن فنانى الموال فى تلك الحقبة: بيرم، ومحمود رمزى نظيم، وحسين شفيق المصرى،  والدكتور سعيد عبده الذى يعد من رواد الموال المصرى بكل خصائصه الفنية المصرية، وقد أخذ الموال فى حياتنا المعاصرة دورًا ذا قيمة فهو يؤرخ لها ويسجل انتصاراتها، ويعكس مشاعرها.
وقد فصلت نعمات فؤاد فى كتابها «شخصية مصر» مجمل التأثيرات، وأهم ما أبدعه الفنان المصرى وهو يطبع الآداب وفنونها بالطابع المصرى الأصيل مستلهمًا، ومتأثرًا، ومبتكرًا، ومطورًا ليكون بين أيدينا هذا الأدب الشعبى المصرى الخالص.