السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الدرويش.. الذى علمنا الحب

الدرويش..  الذى علمنا الحب
الدرويش.. الذى علمنا الحب


حب الوطن وترابه،  حب الأم، الأسرة، الثورة، النضال. مشاعر علمها لنا هذا الدرويش الحالم الهادئ بمفرداته الرقيقة، مشاعر نستدعيها كثيرًا ودومًا.. ابحث فى قاموس محمود درويش عن مفردات تلائم حالتك المزاجية ستجدها حاضرة، فهو ثائر، حالم وعاشق..  سلامُ على  قلب رقيق محب أنهكته الحياة كان على ميعاد مع الموت وانتظره كثيرًا  وأدار حوارات معه إلى أن  حدث والتقيا. فى ذكرى رحيل درويشنا الذى علمنا الثورة والحب وعرفانًا  لنور أضاءه فى قلوبنا وعقولنا،  نُضيء  السطور القادمة بمراحل مهمة فى حياته... الحاضر دائمًا «محمود درويش»
سيرته فى أشعاره
لم يكتب محمود درويش سيرة ذاتية بمعناها المعروف ولكن قصائده حملت الكثير من تجارب حياتية مر بها من مرحلة الصبا وحتى رحل عن عالمنا، ذكره لأمه وأبيه وجده وإخوته فى بعض قصائده ووقائع حياتية  بعينها.
لم تكن قصائده مجرد خواطر لشاعر موهوب، عاش قضية شكلت همومه ومعاناته وأثرت فى تكوينه الإنسانى ولكن محمود درويش أرّخ لمراحل حياته فى قصائده، لم يكتب سيرته الذاتية  بشكلها التقليدى، لكنه حفرها بحروف من ذهب فى قصائد سجلت أيضًا مراحل تاريخية وسيرة وطن  حمل همومه وأحلامه. 
 ولد محمود درويش فى الـ13  من مارس عام 1941 فى قرية البروة الفلسطينية  لأب مزارع يملك أرضًا فى القرية  التى دُمرت بعد نزوحهم إلى بيروت.
اعتُقل درويش أكثر من مرة من قبل السلطات الإسرائيلية بسبب نشاطاته السياسية  فى البداية من عام 1961 إلى 1965،  وفُرضت عليه بعد ذلك الإقامة الجبرية  حتى بعد خروجه من السجن  فى عام 1970،  كان له رأى خاص حول كتابة سيرته الذاتية قائلًا «ماذا يعنى القارئ فى سيرتى فهى موجودة فى قصائدى».
 انتُخب درويش عضوًا فى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1988، ثم مستشارًا للرئيس الراحل ياسر عرفات، ثم استقال من منصبه فى منظمة التحرير عام 1993 احتجاجًا  على توقيع  اتفاقية أوسلو .
حورية
«حورية» أمه الحاضرة فى قصائده وصاحبة التأثير الواضح فى تكوينه، فكتب قصيدة «تعاليم حورية»
فكرتُ يومًا بالرحيل، فحطّ حسّونٌ على
يدها ونام. وكان يكفى أن أداعب غصنَ
داليةٍ على خجل... لتدرك أنّ كأس نبيذي
امتلأت. ويكفى أن أنام مبكرًا لترى
مناميَ واضحًا، فتطيل ليلتها لتحرسه...
ويكفى أن تجيء رسالة منى لتعرف أنّ
عنوانى تغيّر، فوق قارعة السجون، وأنّ أيامى تُحوِّم حولها... وحيالها.
 ومن خلال  « حورية» الأم عمد  درويش أن يصف كل أم فلسطينية تحمل على عاتقها مسئولية أبنائها   خاصة فى الظروف السياسية المشابهة، بل وأن يجعلها أحيانًا البديل الموضوعى لأرض « فلسطين».
ومن قصائده الشهيرة « إلى أمى» التى كتبها فى محبسه وتغنى بها فيما بعد العرب،  تحدث فيها عن حنينه  لأبسط التفاصيل  التى تربطه بالحياة وهى لمسة أمه والخبز والقهوة  مختذلاً تفاصيل حميمية  تربطه بالعالم خارج جدران محبسه وبالحياة.
قصيدة كانت بمثابة نبوءة لمحمود درويش حين قال «أحن الى خبز أمى وقهوة أمى ولمسة أمى، وتكبر فى الطفولة يومًا على صدرى يوم أعشق  عمرى لأنى إذا متُ أخجل من دمع أمى « فكانت دموع أمه بعد وفاته تجسيدًا مؤلمًا لهذا البيت من القصيدة.. ولحقت السيدة حورية بابنها  بشهور قليلة
ريتا
أول قصيدة حب كتبها درويش فى حبيبته اليهودية «ريتا» والتى صارت أغنية شعبية  «ريتا والبندقية»  كشف درويش عن حبيبة صباه «ريتا» الفتاة اليهودية  والتى وصفها أنها  ظلت محفورة فى أعماقه ولعل ريتا هى شخصية حقيقية ولكنه  ذهب من خلال القصيدة  للحديث عن ذكرياته فى وطنه فلسطين. 
 «بين ريتا  وعيونى بندقية... والذى يعرف ريتا  يحنى ويصلى لإله فى العيون العسلية».
 لم يذهب درويش كغيره من الشعراء فى التغزل فى المرأة كما اعتدنا ولكنه حين تحدث إليها خاطب عقلها وقلبها وثورتها
  الجميلات هن الجميلات نقش الكمنجات فى الخاصرة، الجميلات هن الضعيفات عرش طفيف بلا ذاكرة، الجميلات هن القويات يأسٌ يضيء ولا يحترق الجميلات هُنَّ الأميرات ربات وحيِ قَلِقْ الجميلات هن  القريبات جارات قوس قزح،  الجميلات هن البعيدات مثل أغانى الفرح، الجميلات هن الفقيرات كالورد فى ساحة المعركة، الجميلات هن الوحيدات  مثل الوصيفات فى حضرة الملكة، الجميلات هن الطويلات خالات نخل السماء، الجميلات هن القصيرات يُشْرَبن فى كأس ماء، الجميلات هنَّ الكبيراتُ مانجو مقشرةٌ ونبيذٌ معتق الجميلات هنَّ الصغيراتُ وَعْدُ جديد غدٍ وبراعم زنبق، الجميلات كل الجميلات، أنت، إذا ما اجتمعن ليخترن لى أنبل القاتلات.
فى حضرة الغياب
 سطراً سطراً أنثرك أمامى بكفاءة لم أوتها إلا فى المطالع  وكما أوصيتنى، أقف الآن باسمك كى أشكر مشيعيك إلى هذا السفر الأخير، وأدعوهم إلى اختصار الوداع والانصراف إلى عشاء احتفالى يليق بذكراك/فلتأذن لى بأن أراك وقد خرجت منى وخرجت منك، سالمًا كالنثر المصفى على حجر يخضر أو يصفر فى غيابك.
ولتأذن لى بأن ألمك، واسمك، كما يلم السابلة ما نسى قاطفو الزيتون من حبات خبأها الحصى. ولنذهبن معًا أنا وأنت فى مسارين: أنت، إلى حياة ثانية، وعدتك بها اللغة، فى قارئ قد ينجو من سقوط نيزك على الأرض.
 عن حضرة الغياب قال درويش:
«فى حضرة الغياب كتبت ما يبدو فى  هيئة خطاب وداع أقوله وأنا أقف على حافة قبرى وأقوم بتأبين نفسى. أنا هو الآخر الموجود فى القبر،  كتبت عن تاريخ حياتى، ولكن ليس بشكل متراتب.
نثر شعرى
هناك ألامس طفولتى فى البروة وانتقالى للبنان والبقاء فيها عامًا. ظننت أننا كنا سائحين. عدنا كمتسللين بشكل غير قانونى ومر وقت طويل حتى استلمنا بطاقة هوية. كتبت عن لبنان والمنفى والحنين والحب الذى مررت به، ولكن بلا أسماء» وعن ذكريات السجن كتب فى «حضرة الغياب»: «حجم الأرض هنا متران مربعان لهما باب حديدى دائم الإغلاق. أصوات أحذية غليظة تحمل إليك حساء العدس المطبوخ بالسوس، فتدرك أن نهارًا جديدًا قد حلّ ضيفًا على العالم.  لكنك لا تحصى الأيام، فلا خرز فى زنزانتك ولا حصى للتقويم الجديد. ولا تعلم إن كانت حرب جديدة قد اندلعت، أو كانت الحرب القديمة قد وضعت أوزارها. ولا تعرف إن كانت ثيابك قد توقفت عن بث رائحتها،أم أن حاسة الشم فيك هى التى تعطلت»
سقط القناع
 فن المقاومة لدى درويش له مذاق آخر باستعارات تثير الألم والحزن على وطن متمزق ، ولكنه يدعو إلى الصمود والبقاء حتى آخر نفس، فالأرض من حق الشعب واليأس هنا ليس من خياراته المطروحة
 «سقط القناع عن القناع عن القناع سقط القناع قد أخسر الدنيا.. نعم لكنى أقول الآن.. لا هى آخر الطلقات.. لا هى ما تبقى من هواء الأرض.. لا ما تبقى من حطام الروح.. لا حاصر حصارك لا مفر.. اضرب عدوك لا مفر.. سقطت ذراعك فالتقطها وسقطت قربك فالتقطنى واضرب عدوك بى فأنت الآن حرٌ وحرٌ وحرٌ »·   
 يوميات الحزن العادى
  جسد  درويش المعاناة الفلسطينية  فى «يوميات الحزن العادى» ومعاناته الشخصية مما ارتكبه المحتلون بحقه  وبحق وطنه المستباح، ومعاناة الفلسطينيين  بعد الغزو الصهيونى  فى الأعوام 48 و67
  يوميات وذكريات كتبها محمود درويش  عن فترة حياته الأولى فى فلسطين قبل أن يتم تهجيره، صبغة  ثورية متشحة بالحزن  على  حال الشعب الأعزل  لنجد أن درويش عمُد  إلى دمج أجزاء  ووقائع من حياته  وغزلها فى قصائده بما يعبر عن  قضية وطنه الأم  فى صور شعرية من لحم ودم.   فى رثاء استباقى قبيل توقف القلب المحب الهادئ،  كتب  للموت ولم يخشه، وكأنه انتظره وألفه وكأنهما كانا  على ميعاد مُسبق. فكتب فى جداريته الملحمية   مواجهًا: «يا موت! ياظلى الذى سيقودنى يا ثالث الاثنين يا لون التردد فى الزمرد والزبرجد اجلس على الكرسى! ضع أدوات صيدك تحت نافذتى لا تحدق يا قوى إلى شرايينى لترصد نقطة الضعف الأخيرة».
وعندما سُئل عن الموت  قال «أنا مستعد له. لا أنتظره. أنا لا أحب الانتظار. الموت مثلى، لا يحب الانتظار. سويت معه اتفاقًا فى قصيدة «جدارية» وشرحت له أننى لست متفرغًا له الآن. لديّ ما أكتبه وما أفعله. لديّ عمل كثير وحروب فى كل مكان وليس لديك، أيها الموت، أى اهتمام بالشعر الذى أكتبه. هذا لا يخصك. ولكن دعنا نحدد موعدًا. أخبرنى مسبقًا. لأستعد، ألبس جيدًا ونلتقى فى مقهى على شاطئ البحر ونشرب كأسًا من النبيذ وعندئذ خذنى.
 رحل  محمود درويش عن عالمنا فى ميعاد انتظره لسنوات عام 2008 ، رحل _ بجسده _ واحدًا من أهم شعراء الوطن العربي  تاركًا تاريخًا مسطورًا بالذهب مُخلدًا لاسم لم يعبر سوى عن الثورة والحب. •