وانتصر الميثاق للطفلة..والمرأة
صباح الخير
بهيجة حسين
كنت فى ذلك الوقت أجلس بين الكبار، وجدى يتحدث معهم عن المعركة الدائرة على صفحات جريدة الأهرام فى عام 1962، اختزنت ذاكرة الطفلة أبطال المعركة وبعضًا من تفاصيلها، وكلما كبرت وتعرضت لموقف مشابه، أستدعى أطياف رسومات صلاح جاهين واسم الشيخ محمد الغزالى.
هى نفس المعركة التى تشتعل بين الفترة والأخرى بين ادعاء الدفاع عن الدين وثوابته، وبين العقل والتطور والحقوق، ودائمًا ما تكون المرأة هى الضحية الأساسية، أو هى لوحة النيشان التى تصوب عليها سهام من يراها عورة وخطرًا يهدد الأمة. كبرت وعدت إلى صفحات الجرائد والوثائق والأحاديث، كلما اندلعت معارك مشابهة. وكانت هى المعركة الأشهر، التى نشبت بين الشيخ محمد الغزالى والأزهر، والفنان صلاح جاهين وجريدة الأهرام، التى تعود وقائعها إلى جلسات المؤتمر الوطنى للقوى الشعبية برئاسة جمال عبدالناصر فى 27 مايو عام 1962 لمناقشة وثيقة «الميثاق الوطنى» وتحدث خلالها عبد الناصر عن حقوق المرأة التى سينص عليها الميثاق، الذى نص على: «لابد للمرأة أن تتساوى مع الرجل.. ولابد أن تسقط بقايا الأغلال التى تعوق حركتها الحرة حتى تستطيع أن تُشارك بعمق وإيجابية فى الحياة»، ولم يعجب الشيخ محمد الغزالى بكل تأكيد هذا التوجه الذى وصل إلى صياغة النص السابق، بل وقف ضده بضراوة فى جلسات النقاش وطالب فى كلمته بــ: «تحرير القانون المصرى من التبعية الأجنبية، وتوحيد زى المصريين واحتشام المرأة». وتوقف الغزالى أمام الفقرة التى تحدث فيها عبدالناصر، ليطرح مجموعة من الأسئلة الاستنكارية عن المقصود بالقيود التى تشل حركة المرأة، وعن حدود المساواة بينها وبين الرجل، وكيف يمكن التوفيق بين ذلك وبين ما ورد فى الشريعة الإسلامية بشأن حقوق كلٍ من الجنسين، وكيف يمكن فى ظل هذه المساواة تلافى الأضرار التى تلحق بالأخلاق العامة نتيجة تبرج النساء واختلاطهن بالرجال.
وعقبت جريدة الأهرام على كلمة الغزالى واعتبرتها إهانة للمرأة. وخاض الفنان صلاح جاهين المعركة منتصرًا للمرأة ورافضًا لسطوة كهنوتية تحط من شأنها، ورُسم الشيخ الغزالى فى واحد من الكاريكاتيرات منفعلا والعمامة ساقطة من على رأسه وتحت الرسم كتب جاهين ساخرًا: «الشيخ الغزالى: يجب أن نلغى من بلادنا كل القوانين الواردة من الخارج، كالقانون المدنى وقانون الجاذبية الأرضية».. واستمرت المعركة، الشيخ الغزالى يحرض ضد الأهرام وصلاح جاهين، ويرد جاهين بالكاريكاتير والشعر، فكتب قصيدته أبو زيد الغزالى سلامة.
وبشكل أو بأخر انتهت المعركة بين الغزالى والأهرام بالتصالح. ولم تترك آراء الغزالى أثرًا يعتد به، وينتقص من حقوق المرأة التى أكد عبدالناصر انتصار الثورة لها، فتم فى ذلك الوقت تعيين أول وزيرة هى الدكتورة حكمت أبو زيد كما هو معروف. وهنا لابد أن نذكر خطاب ناصر الشهير الذى يعد وثيقة انتصار للمرأة حيث جاء فى خطابه: «وبيقول المرأة ما تشتغلش، بينما حين تعمل نحن نحميها، اللى بيضلوا بيضلوا ليه؟ من الفقر والحاجة، واحدة أمها عيانة أو ابنها عيان وعايزة تعالجهم تعمل إيه.. تفرط فى نفسها. إن منع المرأة من العمل ضد مصالحها. نحن نحرر المرأة بأن تعمل، وأن تعمل.. فنحن نحميها». ويحسم الميثاق المعركة التى قد تبدو أبدية أزلية، ينتصر الميثاق للمرأة بالنص السابق ذكره، لم ينتصر عبد الناصر والميثاق للمرأة فى عام 1962 بل انتصر لنساء لم يخرجن من رحم الدنيا بعد، فقد كان الواقع فى ذلك الوقت عمومًا، يؤسس للاستنارة والمساواة، ونلمس هذا جليًا فى قوانين العمل التى ساوت الأجر عن نفس العمل للجنسين، دون تفرقة.
وبالمناسبة دول أوروبية كثيرة وأمريكا، لم تقرر هذه المساواة حتى الآن، هى معركة خاضها مجتمع كان على رأسه رجل يؤمن بالحرية والمساواة على أساس الكفاءة وليس الجنس، مجتمع رموزه الأساسية مستنيرة، ترفض الإرهاب باسم الدين وتدفع دفعًا المجتمع لبناء مشروع متقدم حديث، دون المساس بثوابت الدين وتقديسه. وقد اتضح ذلك جيدًا فى افتتاحية الأهرام، فى 31 مايو 1962 «إن الأهرام تقدس الدين وتحترمه، لكنها ترفض محاولة الشيخ الغزالى أن يجعل الخلاف فى الرأى بينه وبين صلاح جاهين رسام الجريدة.. قضية دينية، وإن الجريدة تؤمن بحرية الرأى، وتنشر نص كلمة الغزالى، احترامًا لحقه فى إبداء رأيه مهما كان مختلفًا مع رأى الجريدة، ومع إعطاء جاهين الحق فى أن يبدى رأيه هو الآخر فيما يقوله الشيخ». لم تتوقف المعركة التى أعيد وأؤكد أن هذه الوقائع عرفتها ولا أمل من متابعتها عندما كبرت، تلك الوقائع التى كانت أطياف الأحاديث حولها تمر أمامى وأسمعها وأرى جدى وهو يحمل جريدة الأهرام، ويدعو شباب العائلة لمتابعة المعركة، وبالمناسبة أيضًا هؤلاء الشباب الذين كانوا كبارًا وكنت طفلة، علموا بناتهم، وعندما تزوجوا ارتبطوا بنساء متعلمات وعاملات.
كان الواقع فارقًا ومؤسسًا لما نحلم به من حقوق، وأن نكون كيانات معتبرة مستقلة لها وجود فاعل، فى بلدها وربما للإنسانية كلها. لذا ظلت المعركة عالقة بذاكرتى، وها أنا أستدعيها بعد مرور كل هذه السنوات، أستدعى سنة إقرار الميثاق الوطنى 1962، حق الطفلة التى كانت.. فى أن تتعلم وتعمل وأن تتساوى مع الرجال وأن تسقط بقايا الأغلال التى تعوق حركتها الحرة، وأن تُشارك بعمق وإيجابية فى الحياة، وأكتشف الآن كم أنا مدينة لعام 1962، ولصلاح جاهين ولجريدة الأهرام وللمفكرين والكتّاب الذين دافعوا عن هذه الحقوق، ومدينة لجمال عبدالناصر الذى انتصر بنص ملزم فى الميثاق بالحقوق التى حصلت عليها منذ أن كنت طفلة، ومازلت أسند ظهرى عليها الآن. •
أبو زيد الغزالى سلامة
قصيدة صلاح جاهين
`هنا يقول أبوزيد الغزالى سلامة
وعينيه ونضارته يطقّو شرار
أنا هازم الستات ملبسهم الطرح
أنا هادم السينما على الزوّار
أنا الشمس لو تطلع أقول إنها قمر
ولو حد عارض.. يبقى م الكفّار
ويا داهية دقى لما أقول ده فلان كفر
جزاؤه الوحيد الرجم بالأحجار
فأحسن لكم قولوا «آمين» بعد كلمتى
ولو قلت الجمبرى ده خضار!!.