الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

صورة مكتوبة!

صورة مكتوبة!
صورة مكتوبة!


عيناهُ نافذتان، وعينُ كاميرته نافذة أخرى مطلة على العالم الواسع.. على الحياة بكل ألوانها وضوئها الذى يكتب بخيوطه قصصاً أخرى.
يقول: «هناك دائماً الموهبة وهى فى المقدمة، أما ثانياً فهو الحب، وندخل فى الثالثة فهو الحب بجنون».
سعيد شيمى، أستاذ فن التصوير بالجامعة الفرنسية، أحد رواد مديرى تصوير السينما فى مصر، تميز بريادته فى التصوير تحت الماء.. وباحثٌ فى جماليات الصورة السينمائية. له ٧٥ فيلماً تسجيلياً، و١٠٨ أفلام روائية طويلة من أهم ما قدمت السينما المصرية، ومن بينها: «ضربة شمس، طائر على الطريق، البرىء، الحريف، الشيطان يعظ، كتيبة الإعدام، الحب فوق هضبة الهرم، الطريق إلى إيلات، ضد الحكومة، عمر ٢٠٠٠»، وغيرها مما لا يتسع المقام لذكرها الآن.. له كذلك ١٩ كتاباً فى التصوير السينمائى من أهمها: تاريخ التصوير السينمائى، والتصوير السينمائى تحت الماء، واتجاهات الإبداع فى الصورة السينمائية، وسحر الألوان من اللوحة إلى الشاشة والحيل السينمائية للأطفال..حاصل على العديد من الجوائز القومية والدولية، وله مقالات عن السينما والتصوير فى مجلات عدة منذ ١٩٦٨ وحتى الآن .. ويحاضر فى محافل وجامعات متعددة.
عن الفن الجميل، السينما، الذاكرة الأولى وقصصها، عن بقعة الضوء التى تفتقت عنها الأحلام.. وربما عن الصداقة باعتبارها عاطفة منبثقة بحرية عن دافع أخلاقى لأن الخير هو مصدر المحبة الخاصة بها.. هى نافذة للرؤية، للسمع.. نافذة إلى لحظة المعرفة والنظر والصمت .. والوقوف على عتبات المجهول لاستكشاف جماليات خالصة ننتظرها دائماً.. وأملاً نترقبه كثيراً.. حكاية صورة لفنان.. لوطن بأكمله.. ومشاهد من الحياة!..«الصورة قصادك ممدودة ومش محدودة.. بالطول والعرض.. والبرواز ضلعه الفوقانى فى السما.. والتانى مساوى الأرض.. وبما إنك حيلتك بس عينين.. فقصادك حل من الاتنين.. يتقرب جامد م الصورة.. وتاخد لك كادر تركز فيه.. وتعيش حكاويه..وساعتها مفيش ولا كادر يعيش.. ويكون له لزوم.. غير كادر الزووم.. أصغر تفصيل فى الصورة يبان.. ريحة الدنيا وطعم الأحداث.. الفرق فى تدريج الألوان.. شكل التجاعيد ف وشوش الناس.. فتعيش مستمتع بالتفاصيل!».
المكان: ميدان عابدين .. الزمان: ٢٣ مارس ١٩٤٣.. يبدأ المشهد، موسيقى توحى بالسعادة .. دقات لقلب .. صوت حياة.. مولود سعيد، منظر لنافذة.. الكاميرا تتحرك- فيد أوت -.. المشهد الأول بدأ .. الميدان والقصر.. وشرفتان متقابلتان.. شرفة القصر التشريفية، وأخرى لبيت أطل على التاريخ ببساطة . عينان لذلك الطفل المشاكس الذى اختزلت طفولته مخزوناً ما. وعين أخرى لكاميرته التى حكت بالضوء واللون والحركة والتكوين مشاعر خاصة.. صوت لموسيقى هادئة ربما لشوبان.. ومنظر صباحى للميدان، وتقترب الكاميرا -فيد إن- تدخل من نافذة البيت لتقف على لوحة لهنرى ماتيس «النافذة المفتوحة»، الصورة ثابتة. وصوت الراوى: «يوم ميلادى، وعلى اسم جدى سعيد شيمى».. يكتب أسفل يمين الصورة .. وبعد مرور خمس سنوات.
لقطة تبدأ، صوت صفارات إنذار، غارة، والصورة سودا ..حركة سريعة للاختباء. ويقول الراوى: «كانت عمتى سكينة تصحبنا حتى لا نفزع، وكل ما أذكره ترديدها أشتاتاً أشتاتاً».
مشهد ملون، الكادر حجرة تمتلئ جدرانها باللوحات والكتب، ورجل سبعينى يكتب.. الصورة تقترب وتتضح كلماته «ذاكرة الأيام والسينما».. فى الخلفية ذات الموسيقى لشوبان .. يضع القلم ويتضح وجهه ناظراً للكاميرا بابتسام «فى بيت أمام قصر عابدين فتحت عينىّ، المكان والزمان والناس.. ارتبط تاريخ عائلتى بتاريخ مصر، وحكايات كثيرة..» ويبتسم.
الكاميرا تفتح مرة تانية على مشهد قديم، وما بين ملون وأبيض فى أسود ستكون مشاهد.
السين بدأ، لونج شوت للميدان صباحاً، والقصر ظاهر فى اتجاه والبيت فى الاتجاه المقابل من الكادر، فرندتين وصوت موسيقى مبهر لتشريفة الملك.. طوابير جنود، نشاط.. نظام.. تخرج سيارة الملك صوت النشيد يعلى وينتهى عاشت مصر وعاش الملك. فيد إن على البيت.. صبى مشاكس يستعد ليوم دراسى ويرفض ارتداء الطربوش.. معجب بعصا قائد أوركسترا التشريفة.
مشهد له فى المدرسة، قصر شامبليون، صوت التلامذة فى الخلفية، والكاميرا بتدور مع عيون البطل فى دائرة كاملة تظهر تماثيل وتفاصيل فنية وتنتهى بالخروج لمشهد ملون تبدأ فى قاعة واسعة حديثة خالية من التفاصيل.. أستاذ بالجامعة يدرس طلابه الصورة السينمائية من السينما الصامتة إلى الرقمية.. الصورة تثبت ثانيتين، ويشوف شريط الفيلم كله قصاد عينيه.
الشاشة تبهت، لون ضباب .. الصورة تبعد فيد أوت، كل الملامح تختفى.. الصورة ترجع، الإضاءة نور نهار، الكاميرا تظهر ولد وصاحبه وتمشى معهما وآباؤهما لمشوار واضح أنه يتكرر سينما وأخرى وأخرى.. وصوت فى الخلفية لأفلام.. ضحكات، أغنيات، مطاردات، ونقاشاتهم حول كل ذلك .. بذور لحب الناس وحكايات الناس فى الأفلام . صوت الراوى «آباءنا كانا يحبان السينما من حسن حظنا فأحببناها معاً، كنا نقيّم ما نرى من أفلام بإعطائها نجومًا من عشرة وظلت عادتنا هذه لأيام خان الأخيرة.. محمد خان صديقى الذى كتبت عنه قميص خان الحرير وبصدد إصدار كتاب يضم رسائلنا التى استمرت لسنوات».. مشهد يبدأ -بعام ١٩٥٢ - مكتوب بلون أبيض على شاشة سودا.
مشهد ١: ١٦ يناير، ظهر الملك فى شرفته، أشار يحيى بمناسبة ميلاد ولى العهد . موسيقى رسمية فى الميدان والناس تهلل!.. مشهد ٢: ٢٦ يناير، موسيقى توحى بالغموض والقلق، تعلى وتعلى بالكريشندو مع حركة سريعة للكاميرا فى شوارع القاهرة، ضوضاء حريق، دخان كثيف من خلف شباك أتوبيس المدرسة. صوت الراوى: «سألت والدى قال دى هوجة عاملينها الإنجليز».
مشهد ٣: ٢٣ يوليه، الميدان، وموسيقى توحى بالترقب، الكاميرا فجأة تلتفت، زووم على الفرندة المطلة على الميدان، ومن بين ضباط كثير تأتى بصورة القصر كله مبتعداً ..! صوت الراوى «الميدان مليان جنود، أكثر من كل مرة، وقيل ثورة، طردوا الملك، والناس نفسها تهلل فى نفس الميدان.. نفس الفرندة فى القصر يخطب نجيب للشعب.. وهنا بدأت علاقتى بما يحدث فى هذا الميدان.. وسألت والدى وعرفت من أنا وحكاية عائلتى».
الكاميرا تبدأ سين جديد، مشهد قديم، زووم إن على صورة عائلية وتتحرك الكاميرا من صورة لأخرى، وصوت الراوى: «جدتى حميدة ابنة على باشا فهمى - صورة للجدة ثم للضباط الثلاثة: أحمد عرابى وعلى فهمى وعبد العال حلمى - نفى والدها مع عرابى إلى سيلان ١٩ سنة. وجدى سعيد شيمى زوجها الياور العسكرى للخديو عباس حلمى الثانى، نفى مع الخديوى ١٤ سنة للآستانة!».
مشهد جديد، مكتوب على الشاشة ١٩٥٩ عام آخر مهم.. مشهد ١: ١ يوليو .. صوت لعزف شجى للكمان، مشهد فى بيت مصر الجديدة للأب فى يوم وداعه. يقول الراوى: «أصر أبى ان ننتقل من عابدين خوفاً على من العمل بالسياسة ونظراً لتاريخ العائلة فانتقلنا لمصر الجديدة.. لم أنتهِ من دراستى الثانوية بعد».. مشهد ٢ : أكتوبر.. صوت إقلاع طائرة، والكادر للبطل من خلف نافذة ينظر للمدى المفتوح. صوت الراوى: «سافر محمد خان مع أسرته بعدما تعثرت تجارتهم إثر التغيرات السياسية».. والحب دائماً يختصر كل الكلام.
مشهد ٣ : ٢٤ أكتوبر .. الكادر لجورنال تحت الباب صباحاً، يدخل فى الصورة البطل ويتصفحه ليجد - زووم على الخبر - افتتاح د. ثروت عكاشة وزير الثقافة للمعهد العالى للسينما. يقول الراوى: «أصبح كل أملى فى الحياة دراستها ودخول هذا المعهد.. وبعد الثانوية أصبح خالي ولى أمرى. لم يقبل بدراستى للسينما وأراد لى دراسة التجارة لأعمل معه، وهنا حكاية عجيبة أخرى!».
...
مشهد يتكرر فى نفس المكان «معهد السينما» قاعة الامتحان ولجنة التقييم ..
أول مرة : الكادر صور فوتوغرافية يتأملها محمد كريم عميد المعهد، وينظر للكاميرا صارخاً بالأمن «اطلبوا له البوليس» الراوى: «يضحك قائلاً طردنى ولم تعجبه صورى رآها غير أخلاقية صورة لسيجارة وكاس تكوين تشكيلى».
ثانى مرة: الكادر نفسه، والعميد حسن فهمى، «لم أنجح أيضاً».
ثالث مرة: «كنت فى السنة الثالثة من الجامعة ودراسة التاريخ، لم أيأس ولم أكف عن المحاولة.. ولكن هذه المرة جئت بفيلم قصير «حياة جامعية» وجاءنى أول صحفى لعمل أول حوار معى، ومن بعدها أصبحنا صديقين «سامى السلامونى»، ولكن هذه المرة قيل لى تجاوزت السن القانونية ٢٤ سنة لم يعد لى أمل فى دراسة السينما. أصابنى إحباط وفى ندوة بجمعية الفيلم سألنى د. أحمد الحضرى مؤسسها عن المعهد وأخبرنى أنه لا صحة لشرط كهذا تركت الجامعة والتحقت بالمعهد .. فى أثناء تلك السنوات كانت رسائلى مع خان مستمرة وحكاياتنا عن السينما، درست التصوير الفوتوغرافى بالمراسلة .. تحقق أملى أخيراً».
=مشاهد لحياة دراسية ومشاهدات أفلام ورسائل وندوات وتصوير أفلام.. محاولات وتجريب.. وفى الخلفية صوت الراوى: «رشحنى شادى عبدالسلام للعمل معه فى المركز التجريبى بعد مناقشتى له عن فيلمه المومياء فى إحدى الندوات . وأصبحت مدير تصوير فى السنة الثالثة للمعهد. وبعد التخرج عملت فى المركز القومى للأفلام التسجيلية، صورت أفلامًا تسجيلية كثيرة».
مشهد جديد.. الكاميرا تعلو ..تملأ الصحراء الكادر، الشمس فى نهاية الطريق، الصوت لانفجارات وطيارات، الكاميرا تتحرك لتظهر جنود أشد بأساً من الحرب، جثث، طيارات.. رمضان/ أكتوبر ١٩٧٣.. والراوى: «فاجأتنى الحرب وطلبت مع أصدقاء الذهاب للتصوير، جاءت الموافقة يوم ١٢، ذهبت وداوود عبدالسيد ومحمود عبدالسميع وحسام على.. تجربة قاسية ولكن لم أفكر بتلك اللحظة غير مشهد ملون .. الكادر شاشة صغيرة، فيلم الطريق إلى إيلات، صوت الفيلم، يخفت أثناء ابتعاد الكاميرا ليظهر قائلاً: «من بين كل الأفلام التى شاهدتها طفلاً، لم أنس المشاهد تحت المياه، ترسخت فى ذهنى، وحاولت وجربت كثيراً وتعلمت الغوص وكان دائماً بذهنى الضفادع البشرية إلى أن صورت هذا الفيلم، من أجل ذلك كتبت عن التصوير وتجربتى مع المياه وضعت به كل خبرتى».
مشهد له بين كتبه ومكتبة أفلامه الغنية، يبحث فيها قائلاً: «كل هذا كان صعباً، ولكن الآن تطورت التقنيات وأصبح تحقيق الخيال ممكنًا، اتسعت آفاق التجريب، ولكن هذا الجيل لا يكاد يلاحق سرعة التطور التقنى فيبدو إبداعهم أقل.. لدى تلاميذ مبدعون وآخرون ليس لديهم مشروع حقيقى هؤلاء لن يستمروا.. أدرس لأنقل خبرتى وما تعلمته، ليس فقط بالجامعات فلدى ورش على هوامش المهرجانات. وكانت لى تجربة فى صالون لنشر الثقافة البصرية فى السينما».
مشهد صباحى له يروى زهوره الصغيرة فى شرفة منزله، أسفل يمين الكادر المعادى ٢٠١٨.. فى الخلفية ليلى مراد تغنى أنا زى ما أنا وأنت بتتغير .. الصوت يبتعد والكادر زووم إن على لوحة أخرى لهنرى ماتيس «الموسيقى».. وصوت الراوى: «ما يهمنى الآن هو نشر الثقافة البصرية، لتربية ذائقة جمالية لجيل جديد سعيد لذلك كتبت كتباً متخصصة فى السينما للأطفال».
مشهد مسائى.. أسفل يمين الكادر.. المعادى.. تفتح الصورة على التليفزيون مرة أخرى وتسأله المذيعة عن أعظم إنجازاته على الإطلاق، فيجيب: «أعتبر نفسى محظوظاً للغاية، فقد عشت حياة مفعمة بالأحداث والتفاصيل، وكل أفلامى ناجحة وأحبها وإن كنت أفضل من بينها «البرىء» كما تفضل كاميرتى وجه أحمد ذكى. عملت مع كل مخرجى جيلى تقريبا من الموهوبين والملهمين.. وبعد ١٠٨ أفلام روائية لم أجد سوى فيلم واحد مكتوب بلغة بصرية تشكيلية وهو عمر ٢٠٠٠ لمؤلفه ومخرجه أحمد عاطف».
ويدخل آخر كادر فى القصة على غفلة، الصورة تثبت ثانية، اثنان، ثلاثة، الصورة فجأة تجرى بسرعة مع صوت كأن حد بيلف الشريط، والصورة تفتح مرة أخرى على نفس كادر الأستاذ يجيب عن سؤال أحد التلامذة .. «الصورة ليه»؟
« كادر الحياة المشحون، فرْح وألم وشجون، لازم يكون بيلف، لازم يكون بيدور.. ويعشمك بالنور.. فى نهاية المشوار..». •