السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

آخر أيام الزمن الجميل!!

آخر أيام الزمن الجميل!!
آخر أيام الزمن الجميل!!


كنت ما زلت أحبو فوق أول درجة من سلم المراهقة .. عندما أدركنى عقد السبعينيات من القرن العشرينى فى بلدى أم الدنيا مصر.. وعند رحيله كانت خطواتى مرتبكة فوق أول أعتاب الأمومة..

عقد كامل من سنين أسست لعمرى كله، سنوات تحديد مجال الدراسة واختيار المهنة ولقاء شريك الحياة..تجارب الدراسة والزمالة والصداقة والزواج انتهاء بتجربة الأمومة التى كانت ولا تزال وسوف تبقى دائمًا أهم التجارب فى حياة كل امرأة.
عشر سنوات من عمر بلدى مصر كانت إلا قليلًا وبالصدفة البحتة فترة حكم الرئيس الثانى للجمهورية المصرية الرئيس محمد أنور السادات..
فترة جمعت أهم تجارب الوطن وأهم تجارب الذات
على المستوى الشخصى كانت الحياة لا تزال فى بدايتها مشرقة طازجة والمشاعر حادة متوهجة والآمال طموحة محلقة.. كانت بدايات التفتح والدهشة والترقب والترصد والاكتشاف، ربما وقتها لم أكن أدرك كم كانت جميلة وعذبة وصافية مثل كل البدايات الخالية من كل تلك الشوائب التى تخلفها التجارب القاسية المؤلمة..
على المستوى العام كنا نحن جيل السبعينيات آخر بقايا زمن جميل رغم التناقضات الواضحة؛ فبرأيى لم يحظ جيل فى مصر باهتمام فى بدايته بقدر ما حظى جيلى وبنفس قدر الاهتمام لم يحصد فى نهاية العقد سوى خيبة الأمل !! ..
جيلى.. ولد وتفتحت عيونه مع ثورة يوليو 1952، لم يرَِ الملكية ولم يعايشها، لكن منحته دولة يوليو نظامًا تعليميًا جيدًا يضارع أعتى النظم الغربية، نظامًا اعتبر التعليم حقًا كالماء والهواء من الابتدائى وحتى الجامعة.. وأسست له مؤسسات قومية قدمت كل أنواع المعرفة والثقافة والفنون؛ ترجمت من أجله المئات من الكتب والروايات العالمية بقروش زهيدة، أنتجت له مؤسسة السينما أفلامًا عظيمة من إخراج يوسف شاهين وصلاح أبوسيف وكمال الشيخ، شاهد وعايش أسطورة مسرح الستينيات الفريد فرج وجلال الشرقاوى وغيرهما.. قرأ فى الصحف اليومية مقالات عمالقة الفكر والأدب أمثال طه حسين ونجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس وهيكل وتوفيق الحكيم، استمتع بكل ما يقدم فى الإذاعة المصرية العملاقة من برامج ثقافية وترفيهية، استمع عبر محطات إذاعة أم كلثوم لأجمل أغنيات نجوم الغناء: ثومة وحليم وفريد وعبدالوهاب ونجاة وشادية وصباح وسعاد محمد ونجاة على ونازك وحورية حسن وغيرهم كثير.. ذهب لدور العرض السينمائى المنتشرة فى كل مكان وشاهد بقروش زهيدة أحدث أفلام عمالقة السينما..
جيلنا هذا جيل السبعينيات عايش لحظات زهو وانتصار من الاستقلال ودحر العدوان الثلاثى وبناء السد العالى.. جيلنا أدرك مصر وهى رائدة دول الشرق فكان من الصعب فيما بعد أن نتأقلم ونقنع بما دون هذه المكانة.
ثم.. بدأت الأخطاء، فتوالت الصدمات بالطبع لم ندرك هذا ولم نستوعبه حينها، أولى الصدمات جاءت مبكرًا مع النكسة فى 5 يونيو 1967، ثم مرة أخرى فى 28 سبتمبر 1970مع وفاة الزعيم الذى التففنا حوله رغم النكسة ..وقبل أن نذوق طعم الفرحة مرة أخرى بانتصار أكتوبر صدمتنا أخبار المقاطعة العربية وضياع الحلم العربى مع أنباء اتفاقيات السلام، وبدء عصر جديد من الأخطاء والصدامات و..الانهيارات ..
أول الأخطاء جاءت بعد الاطمئنان إلى النصر واستعادة الأرض؛ فبدلًا من احتواء هذا الجيل وقطف الثمار من ورائه والدفع به فى مجالات التنمية، حدث العكس تمامًا؛ تم استنزافه فى مواجهة شرسة مع التيارات التكفيرية التى أخرجها السادات من السجون ومن تحت الأرض ليكونوا ظهيره السياسى فى دولته التى أسماها دولة «العلم والإيمان» فأصبحت الجامعات بؤرًا علنية لأنشطة الجماعة الإسلامية والجهاد والتكفير والهجرة وبدأت بذور الفكر الوهابى تغرس فى التربة المصرية وظهر الحجاب ثم النقاب على استحياء فى البداية إلى أن ملأ الآفاق بعد أن تاجر به أصحاب الموضة وبيوت الأزياء، وخرج لنا دعاة جدد من مرتدى البدلة الغربية ومتحدثى اللغات الأجنبية ومروجى الإسلام العصرى فى النوادى والجامعات.. وتعبأ الجو برائحة جديدة تصبغ كل مجالات الحياة بصبغة دينية غير سمحة، غريبة على مصر أم الدنيا.. كانت نتيجتها تزايد معدلات الإرهاب الدينى التى نجحت فى اغتيال بعض الشخصيات السياسية، وخلّفت الدمار حولها إلى أن نجحت فى اغتيال السادات نفسه فى (أكتوبر) 1981 وسط قواده ورجال دولته..
 وبعدها لم يعد جيل السبعينيات هو نفسه.. فقد تخطاه الزمن وفقد الفرصة والبوصلة للأبد..وبدأ الانهيار والتهاوى مع الأجيال اللاحقة لدور ومكانة أم الدنيا مصر..
.. فى ركن بعيد من ذكريات الطفولة المنسية تقبع مشاهد كالخيالات عصية على الاستدعاء - إلا قليلًا- تنفذ بصعوبة من خلال زجاج نافذة غلفه أبى بورق أزرق يخفى أى بصيص من ضوء فى الداخل عندما تنطلق صفارة تعلن عن غارة، كانت سنوات عمرى حينذاك -سنة 67- قليلة لا تسمح بإدراك حدث الحرب ولكنها سمحت بشعور مبهم بالخوف والحزن على (خالي) العزيز والمقرب إلى قلبى والذى اضطررنا لتوديعه عندما استدعى إلى الخدمة العسكرية وقتها كانت صفارة الغارة تعنى بالنسبة لى أن خالى فى خطر ويحتاج إلى الدعاء..
.. مشهد آخر عثرت عليه محفورًا فى ذاكرة الطفولة المنسية وقد التف حول جهاز الراديو بشكله القديم فوق رف بارز فى جدار صالة منزلنا كل الكبار من أفراد عائلتى حيت كان يقطن أخوالى وخالاتى فى منزل قريب ونجتمع جميعًا فى كل المناسبات.. الكل جالس فى ترقب وانتباه لسماع خطاب عبدالناصر بعد النكسة: «لقد اتخذت قرارًا أريدكم أن تعينونى عليه، أن أتنحى» فى هذه اللحظة انتفض الجميع فى نفس واحد معلنين الرفض التام، ورغم سنواتى القليلة فقد انتقلت إلىّ كل مشاعر الخوف والفزع وقلة الحيلة التى رأيتها فى عيون الكبار وإحساس اليتم يلفهم جميعًا ويسكن أرواحهم..
 .. ينطلق قطار العمر ومرة أخرى تومض الذاكرة بمشهد آخر هذه المرة كان يعرض على صندوق صغير له شاشة فضية مضيئة، مشهد لجنازة مهيبة لزعيم عظيم كانت الملايين تردد «الوداع ياجمال ياحبيب الملايين» وإحساس بالمستقبل مبهم مظلم ..و .. جاء رئيس جديد يحمل أملًا لكنه بلا ملامح واضحة.
..هكذا بدأت السبعينيات.. أرضًا محتلة ورئيسًا جديدًا مطالبًا بتحرير الأرض واستعادة الكرامة.. وقد كان وتحقق النصر فى 73، حررنا الأرض واستعدنا العرض ذلك النصر الذى مكّن أبناء جيلى فيما بعد أن نعيش لحظة رفع العلم المصرى على آخر قطعة أرض محتلة التى ربما كانت آخر لحظة كرامة وعِزة فى تاريخ مصر، ذلك اليوم اللى غنينا فيه كل الأغانى الوطنية الجميلة: مصر هى أمى (عفاف راضي)، بلدى يا بلدى (محمد ثروت وهانى شاكر)، مصريتنا (محمد ثروت)، المصريين أهما (ياسمين الخيام).
.. كان جيلى جيل السبعينيات آخر جيل حامل للمسئولية، مسئولية نفسه وربما والديه، قبل أن يأتى جيل لاحق -أبناؤنا- تعود أن يأخذ أكثر مما يعطى أو نحن من عوده ذلك..يوفر له الآباء كل شىء: المدرسة الخاصة والنوادى الخاصة والشقة والجهاز، وتكاليف الشبكة وإقامة الفرح و...
 ..جيلنا تربى على أفكار رواية «أنا حرة» وكيف أن الحرية والاستقلالية تنبع من الشعور بالمسئولية، وأن العبودية تبدأ من الاعتمادية على الغير حتى ولو كان هذا الغير هم الآباء.. لذلك كان البحث عن شقة مناسبة للزواج أهم ما يشغل أبناء جيلى.. لم يكن يشغل جيل الآباء آنذاك توفير شقة لكل ابن كما يحدث الآن..وإنما كانت «المأثور»: لقد ربّينا وعلّمنا وكفى..لذلك كانت أغلب قصص الزواج لأبناء وبنات جيلى بداياتها بسيطة متواضعة ولكنها استمرت بالصبر والكفاح حتى وصلت للنجاح على المستوى العملى والأسرى .. عكس ما يحدث الآن من الزيجات التى يقدمها الأهل على طبق من فضة للأبناء، وتفشل سريعًا لدرجة أن يرصد المركز القومى للبحوث الاجتماعية حالة طلاق كل 6 دقائق وهى ظاهرة نشعر بها جميعًا..
 ..فى عقد السبعينيات، كانت ظاهرة الشقة التمليك فى بداياتها بعد أن فشلت سياسة الانفتاح بالاحتفاظ بنظام التأجير للعقارات واختفت عن الأنظار لافتة «شقة للإيجار» كرد فعل لتدخل الدولة فيما بين المالك والمستأجر لدرجة إجبار ملاك العقارات بإعادة مبالغ «خلو الرجل» التى كانت منتشرة آنذاك إلى المسـتأجرين، ولم يعد تأجير الشقق مشروعًا مربحًا على الإطلاق علاوة على إلزام المالك بكافة الإصلاحات والترميمات، ومع بدايات ظهور مبدأ «اخطف واجرى» فى كل مناحى الحياة بدأت أزمة الإسكان فى مصر.. كانت الأزمة أول ما بدأت هى حظ ونصيب جيل السبعينيات لدرجة أن أغلبنا سافر وتغرب لبلاد الريالات فقط، حتى يتمكن من توفير شقة مناسبة بعد سنوات من الغربة.. وكان شقاء السنوات ثمنًا للشقة التمليك والتى تطورت فيما بعد لفيللا الساحل الشمالى مع تزايد وتفاقم النزعات الاستهلاكية فى أم الدنيا مصر مما أدخلها فى دائرة الديون فضاعت البوصلة وتاه الطريق..
 ..بعد الحرب لم يعد الحال هو الحال انقلبت السياسة مع مبادرة السلام التى كانت سببًا فى سقوط الحلم العربى، وانهيار المشروع القومى العروبى وتبدل الاقتصاد مع سياسة الانفتاح والعولمة..وتطورت التكنولوجيا فبدأ عصر السرعة وانهيار منظومة القيم الأصيلة، و..تبدلت الحياة بالأسرة المصرية من النقيض إلى النقيض وتاهت الطبقة المتوسطة بقيمها الأصيلة التى شكلت حنينًا فيما بعد إلى ما أسميناه الزمن الجميل.. تلك الطبقة حامية القيم والتى كانت رمانة الميزان وبوصلة الطريق الذى تاه منا.
وبدأت الأجيال المتلاحقة تلهث خلف منظومة تعليم جيدة ومنظومة ثقافة مفيدة ونظام صحى سليم ومنظومة اقتصادية توفر بعض الرخاء و.. ما زلنا.. نلهث. •