رحلة حب بين أشجار المعادى

هبة محمد حسنين وريشة نسرين بهاء
الجمال هنا هو الأمر السائد، فالمناظِر وهندسة الحدائقِ والنسق البريطانى للشوارع والفيلات القديمة، تجعلك تمشى بين أروقة متحف مفتوح من الأشجار الكثيفة، حيث يسكن الدفء والونس بين شجر الجميز الذى صنع تاريخه من هناك.. بين صخب أحياء وشوارع القاهرة، تبدو ضاحية المعادى مدينة صمت مدهش تغرق فى الخصوصية لعشاق الهدوء والجمال الذين فضّلوا الهروب من نار العاصمة واكتظاظها إلى جنة الأشجار والنباتات والأزهار.
حى أخضر تميّز منذ عهد الخديوى توفيق، بأشجاره الرائعة والنادرة، لذا يعتبر مأوى للكثير من الأشجار التى جاءت من كل أنحاء العالم، لتنمو فى جو مصر المعتدل.
أمام بوابة نادى المعادى فى تمام الساعة التاسعة والنصف صباحًا، تجّمع عدداً من محبى الطبيعة، من المصريين أو الأجانب، بدعوة من جمعية محبى الأشجار، كعادتها كل سنة.
هى المرّة السادسة والثلاثين التى تنظّم فيها جمعية محبّى الأشجار، جولتها السنوية، للتوعية البيئية والارتقاء بالتراث الطبيعى وحمايته من الانقراض، وسط إحساس بالهدوء والاسترخاء، ونقاء الأجواء ورائحة الأشجار العطرة، التى تضفى روحًا من الراحة والسعادة كلما اهتزت أوراقها بنسيم الربيع.
الشجرة المقدسة أقدم شجرة فى الحي
بدأت الجولة، بشرح مفصّل عبر الميكروفون من المهندسة أسماء الحلوجى، رئيسة الجمعية، لتاريخ أقدم شجرة فى الحى «الجميز»، وأثناء حديثها عن تاريخها الذى تعدّى مئات السنين، مرت على شجرة من نفس النوع، كانت زرعتها؛ تخليدًا لذكرى زوجها الراحل، المهندس أحمد الجندى، الرئيس السابق للجمعية.
ثم أخذت الدكتورة تريزا لبيب، استشارى علم النباتات، تتحدث عن أنواع الأشجار، باللغة العربية، والدكتور محمد الجبالى، باللغة الإنجليزية.
واحتضنت رئيسة الجمعية، شجرة «الفيكس الهندية» التى تزين أبواب المعابد والبيوت القديمة.. حرّكتها يمينًا ويسارًا وهى تنظر إلى فروعها المهندمة بشكل هندسى فريد، ليسمع الجميع خشخشة أوراقها الهادئة، لتؤكد ضرورة احترام الأشجار والشعور بقيمتها العظيمة.
وصف هؤلاء المختصون «شجرة الجميز» بأنها باتت تنتمى لمصر؛ فهى متواجدة منذ عهد الفراعنة، رغم أن موطنها الأصلى كان الهند، مشيرين إلى أن أوراقها ذات قيمة غذائية عالية، كما أن ثمارها تحتوى على فيتامينات ممتازة، بالإضافة إلى مادة لبنية تستخدم فى المواد الطبية كافة.
التف الدكتور مجدى كمال، المرشد السياحى، أيضًا - حول «الجميز» التى تقف حوله، وقال: «المصرى القديم كان يعتبرها شجرة مقدّسة، لأنها تتميز بضخامة جذعها، ويستظل بها المارون من تحتها، فوصفت بأنها إله الحنان لدى الفراعنة، كما ارتبطت أيضًا فى علاقة وثيقة مع السيدة مريم العذراء؛ حينما جاءت إلى مصر، خاصة منطقة المطرية، وجلست أسفلها، برفقة السيد المسيح عليه السلام.».
• بهجة أشجار الحب
فى مشهد طولى يرغم الشجر على إصدار أصواته المختلفة ترحيبًا بزوار اليوم - سار محبو الأشجار، حتى وصلوا إلى صحن أخضر مستدير، تزينه أزهار بنفسجية من شجر الجكراندا - الذى يشعرك بالبهجة ويرمز إلى الحب، وبجواره شجر البومباكس شاهق الارتفاع الذى يبلغ طول الواحدة منه 30 مترًا، وينتج ثمراته التى تشمل على ألياف تشبه الحرير أو القطن كان يستخدمه الهنود قديمًا فى صناعة مخدات النوم.
يدور الحضور العاشق لحى المعادى، بين شجرة «ودن الفيل» التى تشبه فى هيأتها ذات الفروع الرقيقة أذن الفيل، حتى يجدوا أنفسهم محاطين بشجر الـ«فيكس التيسميا» بفروعه المتشعبة والسميكة.
تقطع الدكتورة سامية زيتون، إحدى مؤسسى الجمعية، حوارات الثنائيات المنفصلة حول سحر الأشجار، مشيرة إلى أن تلك الساحة رغم صغرها؛ تحتوى على عشرين نوعًا مختلفًا من الأشجار من جميع أنحاء العالم.
بينما أحد الحضور على الرصيف الموازى، يمسك شجرة «البوهينا» أو كما يسميها البعض «خف الجمل» لتشابه أوراقها مع قدمه، مندهشًا بجمالها البراق الآخاذ فى الانتباه.
• استنشق بعمق ولا تخف رائحة الفلفل
قرر الحشد أخيرًا، الدخول إلى نادى المعادى، لاستكمال الجولة بين شجرة السرو التى تستخدم فى تصنيع أبواب الكنائس والمعابد، لما تتميز به من رائحة عطرة، جعلتهم يحاولون استنشاق عبيرها الجذاب.
أيضًا شجرة الـ«سيكنس مول» أو «الفلفل الرفيع»، التى بمجرد أن تفرق أوراقها بين أصابعك تنبعث رائحة الفلفل منه، فاستحوذت على إعجاب الحضور.
ومع الاسترسال فى تعديد مزايا شجر الكافور، يظهر خالد فهمى، وزير البيئة، قائلًا: إنه سعيد للغاية بجهود الجمعية فى حماية البيئة، خاصة الأشجار، مؤكدًا أن الوزارة لديها الكثير لتفعله من أجل حماية المواطنين من أضرار البيئة، كالاحتباس الحرارى وتلوث الهواء، مطالبًا فى الوقت ذاته بخلق جو صحى يتعاون فيه الجميع، قبل أن يتبادل الصور التذكارية مع أعضاء الجمعية ويجلسون لتناول بعض المشروبات.
تُعدد رسمية الخولى، إحدى المشاركات فى الجولة- وهى تحتسى مشروبها - مزايا الجولة، موضحة أنها كانت أكثر من رائعة، ورغم أنها كانت طويلة وشاقة، لم تشعر بالتعب أبدًا.. شاركها الرأى هانى، خاصة أنها تلك المرّة الأولى التى يوانس فيها أشجار المعادى، مشيدًا بأهميتها التى تركت فى نفسه كثيرًا من السعادة والسرور.
وتروى أمل عبدالمتعال، موقفا غريبا مع أشجار وازهار حديقة منزلها، «زوجى كان يوميًا يهتم بالنباتات ويرويها وأحيانًا يغنى لها، وبعد وفاته أوكلت مهمة الاعتناء بها لشخص متخصص، لكنى فوجئت أن الأشجار لا تثمر والورود لا تتفتح، لم أكن أتصور أن النباتات تشعر بنا بهذا القدر».
ذكّر موقف أمل، رئيسة الجمعية أسماء الحلوجى بموقف مشابه، حين كانت بحديقة منزل صديقتها وأخبرتها أنها تريد قطع شجرة الليمون، لأنها توقفت عن الأزهار وأصبح سنها كبيرا، فأكدت لها أسماء أن الشجرة تشعر بمن حولها، وربما تحزن لأنك تريدين الاستغناء عنها، فاعتذرت صديقتها للشجرة ورتبت على جذعها برفق، وبعد شهرين طلبت الصديقة أن تحضر المهندسة أسماء «عندما ذهبت إلى منزلها أخذتنى من يدى وتوجهت نحو شجرة الليمون التى كانت تريد قطعها، فوجدت أمامى الأزهار البيضاء تنتشر على فروع الشجرة وكأنها بوكيه عروس وثمر الليمون أنبت بكل الغصون».
رسالة جمعية محبى الأشجار التى تأسست عام 1973، على يد مصطفى معين وزوجته وآخرين، من محبى الطبيعة والانتماء لها والحرص على ازدهارها ومنع الاعتداء عليها هى: أن يحب الناس الأشجار، أو على الأقل أن يحترموها ويشعروا بقيمتها والمحافظة عليها، والآن أصبح قطع الأشجار والاعتداء عليها مجرم فى قانون العقوبات بالحبس والغرامة معا. •