صيدلانية الصناعة الوطنية
ايمان عثمان
تحكى بكتابها 0دواء وعلل، تاريخ حقبة شديدة الخصوصية والثراء، اجتماع، اقتصاد وربما سياسة .. ليست مجرد سيرة ذاتية بين صفحات .. لكنها حكاية وطن ، حكاية تجربة ، استطاعت به أن تحكى عن الصناعة فى مصر ، كيف نمت وتطورت ثم كيف خفت ضوؤها ..؟!
يناقش الكتاب قضية العمل والصناعة فى مصر ، وقضية أمن قومى وهى على وجه الدقة «صناعة الدواء».
رائدة من زمن النضال من أجل قضايا قومية ، مبدعة فى الإدارة والقيادة ، مدرسة فى العطاء ، وقوة بالغة فى الحضور وجرأة الطرح . كان لابد لها أن تعمل وتنجز بشكل مختلف لتؤسس حضورها وفق قدراتها وجوهرها الإنسانى والوطنى الراقى . اختارت حياتها بين عدة جسور، جسر العمل والبحث العلمى، التصنيع والنضال من أجل قضية الوطن، و جسر الأمومة . .
شغف بالغٌ بالعمل ، طالما بحثت عن التفرد فى مشروع ينتصر للإنسان أولاً وقبل كل شئ . ابنة العلم والثقافة ، ابنة الحرية رغم سنوات الاحتلال والحرب..
تبدأ كتابها بسنوات التكوين ، قاصدة لفت نظر الآباء الى ذلك المستوى من التربية الجمالية الذى وفر الجرائد والمجلات مع رغيف الخبز فى مشهد الصباح المتكرر . وخصوصية عائلتها التى قدرت القراءة والفن وفتحت أعين أطفالها على عالم ملئ بالمعارف . شكل تكوينا خاصا لمواطنين من طراز رفيع . تقول :"أن الثقافة تضيف لقدرات الإنسان العملية وتعزز الانتماء للوطن والكفاءة فى أى عمل" .
قصة حياة لإنسانة وصناعة من أصعب وأعمق التجارب على حد سواء ، فى صفحات ..
بدايات العمل ..
اكتشفت فور تخرجها أن استعدادها النفسى لا يلائم عمل الصيدلى الذى يمتلك صيدلية . لم تستطع خيانة نفسها وتتاجر بآلام الفقراء ، وحيننا جاءتها فرصة العمل بمصنع من خمس مصانع فى البلد كله سارعت إليها . تعرف جيداً ما تريد عمله فى مصر ، ولها .
كانت جميع المصانع تنتج آنذاك ١٩٥٦ خمسة بالمائة فقط من احتياجات الشعب المصرى من الأدوية . بينما يحتكر الوكلاء الأجانب استيراد وتخزين وتوزيع خمسة وتسعين بالمائة من الأدوية . أدركت حاجة مصر للصناعة . كما أدركت قدراتها فى هذا المجال فقررت العمل دون السياسة واختارت مجال التصنيع لتخوض معاركه .. تلك الطفلة المسحورة بالمصانع منذ رحلاتها الأولى ، التى بهرها مصنع ياسين للزجاج ولم ينطفئ داخلها ذلك البريق يوماً .
فأصبحت صناعة الادوية المصرية قضيتها..
تجد محاولات الدول النامية للقضاء على احتكار الشركات عابرة الحدود للسوق العالمى للأدوية، بمثابة حرب مستمرة حتى اليوم . ولكن الغلبة فى مصر اليوم صارت للشركات الكبرى على العكس من أيامها .
لم يكن لينجح الأمر دون مشاركة عبد الناصر الحلم وعمله على تحقيقه . ومعه لفيف من الأكفاء الوطنيين ، يمتلكون رؤية واضحة لتقديم الرعاية الصحية للشعب ، كل الشعب وبخاصة الغلابة منهم د. النبوى المهندس وزير الصحة المنحاز دائما للناس ، د. عبده سلام رئيس مؤسسة الأدوية ، د. عزيز البندارى رئيس الهيئة العليا للأدوية ، د. محمد الخفيف ادارة التصنيع ، د. مصطفى السماع ادارة التخطيط والمتابعة ، ا. عبد المجيد فريد أحد الضباط الأحرار .
معركة مستمرة
"كان مفتاح النجاح ، الاعتماد على ذوى الحلم والكفاءة، وخلال عهدى السادات ومبارك تم تحويل ما أنجز من تنمية مستقلة فى قطاع الدواء الى تبعية لمصالح الشركات الدولية العملاقة، وظهرت حملات التشويه بالجرائد فى منتصف السبعينيات. ومجموعة من الإجراءات الموازية التى استهدفت إعاقة تطوير القطاع العام وتجريده من كفاءاته مثل الغاء المؤسسات النوعية ، وتجميد المرتبات، وايقاف الاستثمارات، والقرار بوجوب تمثيل وكيل مصرى للشركات الأجنبية ، القضاء على مشاريع التكامل العربى، هجوم شركات الأدوية الأجنبية العملاقة" تشرح ناهد .
لطالما كان التصنيع فى بلد نام معركة مستمرة ، ولأنها كانت طرفاً فاعلاً فى حقب هامة من هذه المعركة ، ولأن صناعة الدواء تقع فى القلب من هذه المعركة ، فى الصفوف الأولى ، جنباً إلى جنب مع معركة صناعة الغذاء . فصناعة الدواء هى محصلة الاهتمام بالتعليم والبحث العلمى . وأحد خطوط الجبهة فى معركة اللحاق بالدول المتقدمة بامتياز . وهى لذلك تواجه بكم هائل من العراقيل من قبل شركات الدواء العالمية ، وهى شركات معدودات ، من أوربا الغربية ومن الولايات المتحدة الأمريكية تحظى بدعم حكومى كبير من بلدانها . وتمد فروعها مى تنشر منتجاتها وتمنع الشركات المحلية من ان تكبر وتعتمد على ذواتها .
ولذلك تضغط تلك الشركات من خلال دولها لتغيير القوانين الدولية لصالحها ، كى توفر لها الحماية من المنافسة ، وتقييد الآخرين من حرية تطوير المنتجات المخترعة حديثاً .
وفى التاريخ الحديث، تتحدى الهند والصين والبرازيل وجنوب افريقيا هذه الشركات العالمية، لتنقذ حيوات مواطنيها . وقد شهدت مصر معارم مماثلة فى الستينات من القرن الماضى .
حلم ممكن
تحكى الدكتورة ناهد يوسف:"اليوم لن يجدى البكاء على أطلال أزمنة فائتة ، لدينا ١٢٥ مصنع للأدوية وعبواتها بمقاييس عالمية . تضم المديرين والفنيين الذين يعملون وفقاً لأحدث التقنيات وشروط منظمة الصحة العالمية . وما تمتلكه مصر الآن من الكوادر الفنية والثروة البشرية والاستثمارات ما زال قادراً على القيام بالطفرة المطلوبة فى وقت قصير ، اذا وضعت ونفذت السياسات الدوائية والتصنيعية المناسبة" .
هذه الشروط كما تراها ناهد، تنجح إذا ناضلنا من أجل مشروع تأمين صحى جيد يخدم كل مواطن، وباستخدام الإمكانات الحالية. بدءاً من كليات الطب لوضع خريطة صحية لكل محافظة يتم على أساسها تحديد الأمراض المنتشرة بها والعلاج اللازم لها بدون استثناء ، واستغلال الطاقات الإنتاجية القائمة .وإجراءات تخلقها الدولة تمنع اغتيال الصناعة الوطنية من الشركات الأجنبية .
مسيرة حياتية وعملية حافلة لا يمكن اختصارها فى كلمات ولا فى عمر هذه السيدة الفذة التى لا تشيخ قريحتها رغم مرور السنين .. لها دور حقيقى وفعال وبارز فى العديد من شركات صناعة الأدوية ان لم تكن جميعها .. بداية من مصنع ايكاديل بشبرا ومروراً بشركة النيل للأدوية، وشركة مصر، وشركة ممفيس وشركة سيد ، والشركة العربية للأدوية، وشركة النصر وشركة العبوات الدوائية، وغيرها . .
هى تجربة عملية وعلمية خالصة . اهتمت وانشغلت بالقضية الصناعية إنسانياً ووطنياً وليس سياسياً . نجحت فى فرض طرق مغايرة للعمل والإنجاز والنجاح . مرتكزة على استقلاليتها وفلسفتها الخاصة ، ورؤيتها الواضحة . أعمالها تدل على أننا أمام جيل مختلف . تكشف المسكوت عنه وتكسر الحواجز وتحاول طرح مشاكل المجتمع .. تستطيع قول كل شئ ، تدهش العقل وتحاول إثارة أسئلة كبيرة حول العديد من القضايا والقوانين بأداءٍ ذكيّ وحضور خاص ..
