الأربعاء 20 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

«تَدَيُّنُ شعبى واحدٌ»

«تَدَيُّنُ شعبى واحدٌ»
«تَدَيُّنُ شعبى واحدٌ»


أشرف أيوب معوض
المصريون جميعًا مسلمين ومسيحيين يجمعهم نفس طرق التدين الشعبى، فى إقامة الموالد للأولياء والقديسين وفى التبرك بهم ومدحهم وتوقيرهم، وإرسال الرسائل إليهم ليشفعوا لهم عند الله، ليحقق أمانيهم وآمالهم وطموحاتهم  فى الدنيا. وتلحظ التشابه الكبير فى الممارسات والطقوس التى تجرى عند ضريح الوليّ أو عند مزار القديس، من تقبيل مقصورة الوليّ أو القديس، والصلاة فى المكان، وطلب الشفاعة والدعاء.
فيقف كل الزائرين أمام (أيقونة القديس) أو أمام ضريح الوليّ ويرجونه فى حل مشاكلهم وتلبية طلباتهم وشفاء أمراضهم، وأن يوسع فى رزقهم وأن يهبهم حملاً وإنجابًا، وينجح أولادهم وأن يوفقهم فى زواج بناتهم، وغيرها من أمور حياتهم، فهم واثقون ومعتقدون فى سماع القديس أو الوليّ لهم وتحقيق أمنياتهم، وبعد هذا الدعاء والطلبات يلمس الزائر أيقونة القديس أو ضريح الولى باليد، ثم يُقبِّل اليد بالتناوب أو على رأس الزائر.
ويرجع أصل الموالد إلى مصر القديمة، فمارَسَ الفراعنة أنواعًا من الاحتفالات الدينية للآلهة آمون وإيزيس وغيرهما من الآلهة المحلية، وقدموا إلى هذه الآلهة النذور و الأضاحى لحل مشاكلهم، وكذلك إقامة الصلوات والاحتفالات الشعبية الخاصة بهم.
تخصصات القديس والولى
وما يثير التعجب فى تبرك المسلمين والمسيحيين بالأولياء والقديسين، هو اعتقادهم بتخصصات القديس والولى، فذلك القديس أو ذلك الولى له قدرة على الشفاء من بعض الأمراض وطرد الأرواح الشريرة، وعلاج العقم وعلاج أمراض العيون، أو بالشفاء من جميع الأمراض.
والمسلمون والمسيحيون جميعًا يكتبون رسائل للقديس مار جرجس أو الإمام الشافعى، وتنطوى كتابة الرسائل للقديسين والأولياء على اعتقاد من أصحابها بأنهم يكتبونها ليتذكرهم القديس أو الولى، لكى يحل هذه الشكاوَى وألا ينسى أصحابها، ويعتقد أصحاب هذه الرسائل فى قدرات القديس أو الولى  المعجزية، وأن لديه كل ما يطلبونه.
والأكثر غرابة أن مضمون الرسائل للقديس أو الولى هى واحدة، وهى أن يقوم القديس أو الولى بتلبية أو حل الشكاوَى. وتشير دراسة «د. سيد عويس» إلى أن إرسال الرسائل إلى مقابر الموتَى ظاهرة قديمة جدّا، وجدت فى العصر الفرعونى، فقد كانت توجَّه إلى الموتَى الأقرباء المقربين فى العادة ولم تكن موجهة إلى إله أو إلى قديس أو إلى ولى، لكن هذه الظاهرة المصرية القديمة تستمر فى العصر المسيحى والعصر الإسلامى.
شمعة لأم هاشم..وشمعة لمارى جرجس
الشموع هى الشكل المفضل للنذور لدى المسلمين والمسيحيين، يوقدونها أمام أيقونة القديس أو فى ضريح الولى، بالإضافة إلى تقديم النذور والأضاحى التى ترجع أيضًا إلى المصريين القدماء، حيث كانوا يقدمون النذور للآلهة، باعتبار أن هذه الآلهة قادرة على تحقيق ما يتمنون.
وهناك تبادل الاعتقاد بين الأولياء والقديسين، فقد ينذر شخص مسيحى نذرًا لولى مسلم، وقد ينذر شخص مسلم نذرًا لقديس مسيحى، وكما يشترى الأقباط عروسة المولد وحصان الحلوى فى المولد النبوى، يصوم بعض المسلمين صوم العذراء مريم، وهناك تبادل أطباق الحلوى والكعك فى الأعياد بين الأقباط والمسلمين.
وفى موالد المسيحيين والمسلمين وبجانب أضرحة الأولياء والقديسين، ينتشر النشاط التجارى من بيع الفول والحمص والحلوى والملابس، والخدمات المقدمة للزائرين من طعام وشراب.
وما لفت انتباهى أثناء زيارتى لمولد مار جرجس (بالرزيقات- أرمنت) أنى شاهدت كثيرًا من البائعين يعرضون براويز بها صور السيد المسيح والعذراء، متجاورة مع براويز الآيات القرآنية عند نفس البائع.
ويشترك الأقباط والمسلمون فى زيارة موالد بعضهم البعض أو زيارة الموالد عمومًا، وفى الأنشطة الترفيهية بالموالد من الألعاب والساحر والمراجيح، كلها موجودة فى الموالد، قبطية كانت أو إسلامية.
يمكنك أن تلاحظ أيضًا لوحات الوشْم المنتشر كثيرًا فى الموالد، فنرى كثيرًا من لوحات الوشْم المعروضة وعليها نماذج وصور للسيد المسيح والعذراء ومار جرجس والقديسين وأيضًا صور ونماذج إسلامية لأبوزيد الهلالى والعروسة وغيرهما. نحن إذن أمام ثقافة شعبية واحدة وموروث شعبى واحد وجذور تاريخية واحدة للأقباط والمسلمين.
مكرم المنياوى..مَدّاح الرسول والعذراء
ينتشر فى الموالد عمومًا مغنى الربابة الذى يغنى المدائح الدينية والأغانى الشعبية، فيغنى المدائح القبطية فى الموالد القبطية ويغنى المدائح الإسلامية فى الموالد الإسلامية، والأجمل أننا نجد فنانًا مصريّا ينشد المدائح القبطية والإسلامية معًا..ومن أشهر هؤلاء الفنان الشعبى مكرم المنياوى، الذى يغنى لأولياء الله الصالحين ويمدح الرسول، ويغنى أيضًا للعذراء مريم والقديسين، ولا يجد غُضاضة ولا تناقضًا فى ذلك، فالدين الشعبى به رحابة يسع الجميع وينبذ التطرف. 
وتعبر أغانى الحج عن وحدة الموروث الشعبى للأقباط والمسلمين، فنرى أن الأغانى التى تقال للحاج المتوجه للحجاز وزيارة النبى صلى الله عليه وسلم، هى نفسها التى تقال للحاج المسيحى المتوجه لزيارة القدس، ومنها:
الأغانى التى تقال للحاجة «المقدسة»:
على فين يا مقدسة بتوبك القطيفة
رايحة أزور المسيح وأعول الضعيفة
وللحاجة المسلمة: 
رايحة فين يا حاجة يام الشال قطيفة
رايحة أزور النبى محمد والكعبة الشريفة
ومثلها:
إن نويت يا مقدس    عند بحر الشريعة
خد أبيض وشيله     يا محلى غسيله
ومقابلها:
لما نويت يا حاج     على جبل عرفات
خد الأبيض وشيله    يا مَحلى غسيله
وللحاج المقدس:
يا أحمر يا دومى      يا أحمر يا دومى
يا أحمر يا عدسى      يا أحمر يا عدسى
يا بابور السفر         يا أحمر يا دومى
شق نور المسيح       يا ما قل نومى
يا بابور السفر         يا أحمر يا عدسى
شق نور المسيح       ياما قل نعسى
ومقابلها:
وابور السفر     شب نور محمد
يا وابور النبى     من يوم ما هويت
يا أحمر يا دومى    وصحانى من نومى
يا أحمر يا عدسى     النبى صحانى من نعسى
أى أن أغنية الحج هى أغنية شعبية واحدة، من موروث شعبى واحد، يعبر عن وجدان الجماعة المصرية وتقديرها لأداء الشعائر الدينية المقدسة، وأغلب الظن أن فنانًا شعبيّا واحدًا هو الذى غَنّى للاثنين.
الأم القديسة إيزيس.. العذراء.. زينب
الوجدان الشعبى يحمل ذاكرة مَرنة طيعة تقبل الجديد وفى الوقت نفسه لا ينمحى من ذاكرتها  ما هو قديم، بل تُطيع الجديد  لما هو راسخ وأصيل فيها.
فالوجدان الشعبى يقدس إيزيس وبعد فترة يقدس العذراء مريم وبعد فترة أخرى يقدس السيدة زينب، فكأنهن شخصية واحدة مقدسة، الأم، القديسة، الطاهرة، الحامية، المنقذة، وإن تعددت الأسماء وإن اختلفت الأزمنة، والإله حورس ممتطيًا جوادًا يطأ «سِت» إله الشر تحت أقدام جواده هى نفس صورة مار جرجس الذى يطعن التنين، وهى نفس صورة أبوزيد الهلالى، هى صورة البطل الشعبى.
والمسلة الموجودة أمام المعبد تدعو الناس للدخول إلى المعبد،  ومنها جاءت المنارة فى الكنيسة تحمل الجرس لدعوة الناس للصلاة، ثم جاءت المئذنة يدعو منها المؤذن إلى الصلاة فى الجامع كاستمرارية للحضارة المصرية.•