الجمعة 15 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

إلى الأمام..

إلى الأمام..
إلى الأمام..


ردد  الأقدمون عبارة لايزال صداها  حتى يومنا هذا (تعرف الصانع من جودة صنعته)، قول مختصر  جامع لحكمة غير مختلف عليها منذ الأزل، فلا جدال على أن خالق الكون سبحانه وتعالى صاحب المثل الأعلى فى الصنع المحكم والمعجز. وكما يلزم للصناعة صناع حذقون،  فلا بد  للدولة  من رجال يضعون  لبنتها  ويمنحونها سببًا للوجود ويؤسسون لها كيانًا يعيش فى وجدان مواطنيها وخرائط العالم من حولها.
صناع التاريخ
رجال الدولة صانعو التاريخ  وبناة الأمم لا يجود الزمان بهم كثيرًا، إلا أن تاريخ أوروبا  فى زمن صعود القوميات خلال القرن التاسع عشر يزخر بالشخصيات المتفردة من المناضلين الذين وهبوا حياتهم لخلق دول لأوطان توارت هوياتها  فى  ظل صراع الملكيات والموناركيات الأوروبية على الأراضى والشعوب والنفوذ والثروات بعد حروبهم الدينية التى انتهت بمعاهدة وستفاليا عام 1648.
بسمارك
ولد الرجل القوى متوقد الذهن صانع الوحدة الألمانية أوتو فون بسمارك عام 1815 فى براند بورغ بمملكة بروسيا (ألمانيا حالياً) لعائلة  بروسية أرستقراطية  موالية للعرش. تلقى تعليمه فى برلين وأكمل خدمته   العسكرية بقوات الاحتياط ثم عاد بعدها لمسقط رأسه للإشراف على أراضى أسرته الشاسعة،  وفى عام 1847 دخل ميدان السياسة حين انتُخب نائبًا  بالبرلمان البروسى. برزت مواهب بسمارك الخطابية وقدراته السياسية المتميزة بالمجلس النيابى مما رشحه ممثلًا  لوطنه فى المجلس النيابى للاتحاد البروسى  فى مدينة فرانكفورت.  كان بسمارك صاحب شخصية قوية حادة الطباع، يؤمن بالمبادئ الملكية وليس من المتحمسين للدساتير وأساليب الحكم الديموقراطية! الأمر الذى لفت أنظار ملك بروسيا فيلهلم الأول الذى عينه سفيرًا لبلاده فى روسيا عام 1859 ثم  فى  باريس عام 1862 التى استُدعى منها فى ذات العام ليترأس الحكومة البروسية. فى خطابه الأول فى البرلمان عقب توليه منصب الوزير الأول قال «إن أنظار ألمانيا لا تتطلع إلى الحركات التحررية بل إلى قوة بروسيا، وإن مشاكل العصر المهمة لا تحل بالخطب  وقرارات الأكثرية بل بالحديد والدم».  
توحيد ألمانيا
وضع بسمارك لتنفيذ هدفه الأول والأخير توحيد الإمارات والمقاطعات الألمانية المتشظية تحت مظلة مملكة بروسيا التى ستضطلع بأعباء الوحدة الألمانية.  للوصول إلى هذا الهدف وضع برنامجًا واسعًا سعى إلى تحقيقه بطريقة علمية مدروسة تضمن أربع نقاط رئيسية، وهى تعزيز قوة الجيش، وطرد نفوذ الإمبراطورية النمساوية المجرية من كل الأراضى الألمانية،  وضم الولايات الشمالية والوسطى الواقعة بين بروسيا وممتلكاتها الغربية فى منطقة الراين الاستراتيجية، وأخيرًا التفاهم مع الولايات الجنوبية المناهضة لبروسيا وإقناعها بالانضمام إلى اتحاد ألمانى تتزعمه بروسيا. فى الحقيقة،
أقوى جيش
كانت أساليب بسمارك لتنفيذ برنامجه تتسم بالشدة والبطش والضرب بعرض الحائط البرلمان والمعارضة، إلا أنه مضى فى تنظيم قواته المسلحة وتدريبه بصورة حديثة حتى يكون ركيزة فى خططه وتمكن من تجهيز أقوى جيش فى وسط  وغرب أوروبا. لم تخل سياسات بسمارك من فرض للضرائب لزيادة موارد الدولة ووضع قيود على الحريات العامة والصحافة التى كانت بعيدة تمامًا عن تبنى مفاهيم القومية والوحدة وقد كان له ما أراد بفضل سياساته الحازمة وإن وصفها بعض الباحثين بالديكتاتورية. تمكن فى خلال ثماني سنوات فقط من تحقيق الوحدة الألمانية دون الاستعانة بقوى غير ألمانية أو افتعال ثورات داخلية.  
اعتبر بسمارك منذ البداية كلًا من النمسا وفرنسا عدوتين لدودتين  للوحدة الألمانية، فاستعد أولًا لقتال النمسا وأجاد رسم خططه لقهرها وعقد اتفاقات مع الدول الكبرى ليكفل عدم عرقلتها خططه. وفى غضون شهر يونيو عام 1866 خاضت بروسيا الحرب ضد النمسا وانتصرت عليها انتصارًا كبيرًا تحقق خلال سبعة أسابيع فقط، وتمكن من انتزاع مقاطعتى شولتسويج  وهولشتاين وضمهما للاتحاد الألمانى الواعد.
الوثوب على فرنسا
أخذ بسمارك فى تحيُّن الفرص للوثوب على فرنسا والتى كانت تحت حكم الامبراطور نابليون الثالث آنذاك، فاستغل أزمة دبلوماسية نشبت عام 1869 تسبب فيها العناد الفرنسى بأن وجه الامبراطور خطابًا  لملك بروسيا  يتسم بالعجرفة طلب منه خلال التعهد بعدم التدخل فى أزمة خلافة  العرش الإسبانى بموافقته على تولى الأمير ليوبولد ولى عهد اليونان مملكة إسبانيا. هنا انبرى بسمارك وكلف الجيش الروسى باختراق الأراضى الفرنسية فى الشمال، محققة انتصارات ساحقة حتى تمكنت من حصار باريس وإسقاط نابليون الثالث ودخول فرنسا فى حالة من الفوضى وتمكنت بروسيا من ضم مقاطعتى الألزاس واللورين.
تمكن بسمارك من إقناع أمراء وحكام الولايات الألمانية بأهمية الوحدة وفائدتـها فى تعزيز قوة الأمة، واتفق معهم احتفاظ كل ولاية بسيادتها الكاملة فى الأمور الداخلية وتوحيد قيادتها العسكرية وإدارة الشئون الخارجية. فى يناير من العام 1971 اجتمع الأمراء والحكام الألمان فى قاعة المرايا فى قصر فرساى  بفرنسا معلنين
الامبراطورية الألمانية
قيام الامبراطورية الألمانية وتتويج ملك بروسيا كأول القياصرة وبداية الرايخ الثانى، وتحقق حلم بسمارك بخلق الدولة الوطنية الألمانية. كانت آخر كلمات رجل الدولة الصلب بسمارك على فراش الموت مخاطبًا ألمانيا الجديدة بعبارة (إلى الأمام).
خلال نفس الحقبة من القرن التاسع عشر كان هناك رجل دولة آخر من رواد السياسة الواقعية والصانع الحقيقى لإيطاليا الحديثة جنبًا إلى جنباً مع المناضلين الوطنيين ذائعى الصيت   ماتسينى   وجاريبالدى، فلم تشهد شبه الجزيرة الإيطالية وحدة سياسية حقيقية تحت حكم إيطالى منذ انهيار الدولة الرومانية فى القرن الخامس الميلادى – ربما يذكرك ذلك بمصر حتى ثورة يوليو 1952 - على أية حال، جاء دور مملكة (بييدمونت..عاصمتها مدينة صناعة السيارات الشهيرة تورينو) بشمال إيطاليا لحمل لواء القومية الإيطالية بعد جولات من النضال القومى الذى خاضه الزعيم ماتسينى مؤسس حركة (إيطاليا الفتاة)، وكانت فى ذلك الحين تحت حكم الملك فيكتور عمانوئيل الثانى والذى قام بتعيين الكونت كاميليو كافور مهندس الوحدة الإيطالية رئيسًا لوزرائه. آمن كافور بأن تحقيق الوحدة يحتاج إلى السياسة والدهاء والقوة العسكرية والاقتصادية مجتمعين، وهو ما بدأ فى تنفيذه بعد استقالته  من  منصبه  كمهندس فى جيش بييدمونت ثم مؤسس لحركة (البعث) التى جسدت فكرة القومية الإيطالية. شرع كافور فى تطبيق رؤيته لتوحيد إيطاليا كعضو فى البرلمان ثم رئيس للوزراء، وهو الموقع الذى احتله حتى مماته باستثناء فترة زمنية قصيرة استقال فيها احتجاجًا على بعض الأمور، فقام بوضع الأسس الاقتصادية لمملكة بييدمونت كحجر زاوية فى   مشروعه الوحدوى من خلال إجراء إصلاحات واسعة وتنفيذ  مشروعات البنية الأساسية وعقد الاتفاقيات الدولية.
تنظيم كارفور
عمد كافور إلى تنظيم القوات المسلحة وزيادة عددها وجاهزيتها وإدخال الصناعات العسكرية اللازمة لتقويتها استعدادًا للمواجهات الحتمية مع غريمه الرئيسى الإمبراطورية النمساوية التى سرعان ما اشتبك معها فى عدة معارك كانت أهم نتائجها طرد النمسا للأبد من سهل لمبارديا والتيرول. كما دخل فى صراع مباشر مع البابا عقب سنه عددًا من التشريعات أهمها (قانون سيكاردي) لتحجيم نفوذه الروحى وإنهاء سيطرته على الولايات وفرض الضرائب عليها وإلغاء امتيازات رجال الدين، إلا أنه لم يفت فى عضده لقناعته بأن الوحدة لن تتم إلا بمواجهة حاسمة  مع تغول المؤسسة الدينية الأبرز فى العالم، خاصةً وأن البابا كانت له أجندته وتحالفاته الخارجية. تمكن رجل الدولة الهمام من توحيد الإمارات والممالك الإيطالية تحت حكم أول ملوكها عمانوئيل الثانى عام 1866 واقتناص عاصمتها الأثيرة روما من يد البابا عام 1872.
أولى العزم من رجال مصر
لم تحرم السماء مصر فى تاريخها القديم والحديث من رجال دولة أولى عزم شديد، ولِم لا وهى من اخترعت فكرة الدولة ذاتها وقدمتها إلى العالم. لا ينتابنى الشك فى أن ما يجرى فى بلادنا على مدار السنوات الماضية من حركة نشطة لتحديث قواتنا المسلحة وصياغة  سياسة  خارجية مستقلة وإطلاق مشروعات بنية تحتية بجميع المحافظات سيكون له أثر بالغ على مصر الجديدة التى تصنعها أيادِ مصرية خالصة. •

المصادر:
https://www.history.com/topics/otto-von-bismarck
https://www.britannica.com/biography/Camillo-Benso-conte-di-Cavour