كل غنوة حب حلوة قلتها لي

صباح الخير
ابتسام كامل
لم يعرف فن الغناء مطرباً استطاع التعبير عن أغلب المشاعر الإنسانية مثلما فعل «عبدالحليم حافظ»، حتى إننا لا نزال نجد كلمات أغنياته هى الأقرب للتعبير عما يجول بنفوسنا من الحب والحزن والفرح والانتماء للوطن وغيرها من المشاعر، رغم مرور 41 عامًا على رحيله..
نتذكرها كجيل عاش لحظات ميلاد أغنياته وتركت آثارها على ملامح شخصيته، وكجيل لم يعش فنه، ولكنه تأثر بصدق إحساسه وتفرد صوته، ووجد فيه أيقونة الفن الجميل .. بمفهوم جديد.
فى يوم.. فى شهر.. فى سنة
«عبدالحليم» كان ولايزال حالة حب يدخل القلب ولا يخرج، بظروفه وقصة حياته التى تركت آثارها على صوته وملامحه، بكل ما فيه... فهو »أكتر واحد كان ولايزال بيعيطنى لما باسمع أغانيه« كما يقول إبراهيم ليشع - مدير المبنى الإدارى بجمعية كاريتاس-مصر - ويشرح: «أغنية مثل «فى يوم.. فى شهر.. فى سنة» ... كانت بالنسبة لى درسًا فى ارتقاء الإنسان بالحياة التى لخصها عبد الحليم فى أنها مجرد يوم وشهر وسنة! فلم يكن غريبًا أن نتعلم -كشباب صغار- أن نعيشها ونستمتع بكل ما فيها، فكان لكل أغنية جديدة قصة حب جديدة، فهو الشخص الذى علمنا أن الحب إحساس طبيعى فصرنا »حبيبة« على يديه، ولكن بمفهوم »الحب النظيف«، وليس كما نسمع ونشاهد هذه الأيام من كلمات، مثل: »شلح يالا، شمر يالا ..« وغيرها من الكلمات والألحان النابية التى يقولون عنها غناءً!
موعود
كنتُ فى العاشرة حين استمعتُ إلى صوته يغنى »موعود« فى حفلة الربيع عام 1971، وكانت أسرتى تتجمع حول التليفزيون، أمى تشير إلى أن صحته تبدو أفضل من حفلته الأخيرة، وأبى يستمتع باللحن متسائلا إن كان تأليف بليغ حمدى أو كمال الطويل؟ أما خالى.. فلفتَ انتباهنا ببحثه عن ورقة وقلم ليكتب فوقها كلمات محمد حمزة، متمنيًا أن يعيدها حليم ثانية بصدقه وتأثره، حيث تقول: »كل حاجة فكرت فيهـــا فى لحظة واحدة ردت عليهــــا بنظـــرة حلـــوة من عينيها . الأمان فى عينيها .. حسيت إنى عديت للأمان فى عينيهـــا، والحنان خـد منى وادفا .. ياللى محروم من الحـــنان«!
ولا أنسى كيف انطلقتْ ضحكات الأسرة وسخريتها من لهفة خالى لكتابة هذه الكلمات، وكيف أوضح هو أنه أول مرة يجد أغنية عبقرية تلخص فى مقطع واحد احتياج الرجل من المرأة، ومفهوم الأنوثة ... كما غناها حليم! وهكذا، كان لخالى ولأغنية عبد الحليم الفضل الحقيقى فى تحديد ملامح شخصيتى كامرأة تعلمت أن تدرك نفسية الرجل، وتفهم احتياجاته من المرأة، ضاحكة، حتى اسألوا زوجى!
كل كلمة حب حلوة قلتها لى
كان فيلم »شارع الحب« يعرض على روتانا سينما المقررة علينا بأمر والدتى، بين سخريتى ومحاولات إثنائها عن رغبتها فى متابعة هذا الفيلم الذى تقول إنها على استعداد لمشاهدته ألف مرة! حتى قررتُ الانعزال فى أحد أركان الغرفة لمشاهدة هذا الفيلم لأتعرف على سر عشق أمى له، معلقًا بين الحين والحين على أسلوب الكلام، وسير الحوار، وأساليب الخمسينيات فى تدبير المؤامرت، حتى غنى عبد الحليم «كل كلمة حب حلوة قلتها لى» وإذا بصوته وأدائه يأخذانى لذكريات قصة حبى الوحيدة التى عشتها بعمرى كمهندس نظم ومعلومات فى الخامسة والعشرين من عمرى، وإذا بدموعى تنهمر وتتدفق وفجأة شعرتُ بتوحدى الكامل مع هذا الرجل الذى يغنى بكل هذا الألم والإحساس الذى عشته حينما تركتنى حبيبتى منذ بضعة شهور، وأنا أتظاهر بأننى غير مهتم، وأنها مجرد قصة حب، ومجرد بنت، و.. و... حتى فجرتْ تلك الأغنية آلامى وأحزانى، بعدها قررتُ مواجهة نفسى، واتخذت مشاعرى منحى مختلفًا تمامًا.. وهكذا ساهمت تلك الأغنية فى شفائى!
حاول تفتكرنى
لهذه الأغنية ذكرى لا تمحى، إذ ارتبطت فى ذاكرتى بمعاكسة البنات! يضحك »سعيد«- أخصائى علاج طبيعى- قائلا: كنت صغيرًا حينما كانت أمى تبحث عن أية طريقة لتتخلص من شقاوتى التى تعطل مذاكرة إخوتى! فتأمر أخى الأكبر أن يصطحبنى معه فى خروجه للقاء أصحابه على القهوة، التى أتذكر أن معظم أحاديثهم -وقتها - لم تخرج عن مناقشة ماذا بعد الجامعة، ومغامرتهم مع البنات، دونما أفهم تمامًا ماذا يقولون إلا حينما يلفت أخى نظرهم قائلا: يا جدعان معانا عيال صغيرة... فيضحكون ويتمادون بحجة أننى راجل ولابد أن أتعلم.
وبتهريج يليق بتلك الأيام، كانوا ينادون على عم »عبدالتواب« صاحب القهوة الذى يمتلك جهاز كاسيت، ليذيع أغنية «حاول تفتكرنى» التى كانت الأشهر وقتها. ولا أنسى كيف كانوا يلقون مفاتيح أحدهم بالطريق حينما تمر فتاة أمامهم، ويطالبوننى أن أحضرها لهم بسرعة، فى نفس توقيت غناء عبدالحليم لفقرة »تعال .. تعال.. خلى الدنيا تشوف فرحتنا« فينطلق صوتهم عاليًا بالغناء لتنظر الفتاة إليهم وهم ينهون غناءهم مع عبدالحليم بكلمة »تعال تعال.. مافيش حد«! أيام علمتنا السعادة والفرح الذى نعيش على بقاياه.
بالأحضان
أجمل ما عرفته عن عبدالحليم حافظ أنه كان سبب زواج والديّ- تقول شريفة -محاسبة: أبى محمود كان يعمل مدرسًا للرياضة البدنية، بإحدى المدارس الحكومية الابتدائية فى بداية السبعينيات، جذبته أمل زميلته معلمة الموسيقى المثقفة الفنانة التى كانت تدرب التلاميذ على رقصات إيقاعية من تصميمها على صوت أغنيات عبدالحليم الوطنية، خاصة أغنية صورة وبالأحضان .. فأحبها وعشق شخصيتها واختياراتها الجميلة، فنشأت بينهما قصة حب انتهت بالزواج، فصارت أمى! الطريف أنهما ظلا يحتفلان فى كل عيد زواج على أنغام نفس الأغنيات الوطنية التى كانت سببًا فى حبهما وزواجهما... حتى توفاهما الله، تقول شريفة مستطردة: ولكنى على عهدهما أسير، وأشعل البيت غناء بصوت عبدالحليم فى ذكرى زواجهما، حتى عشق أبنائى صوته وغناءه، مما كان السبب فى ارتقاء ذوقهما الفنى .. ليومنا هذا !
الغناء .. صلاة
انطلاقًا من عملها كباحثة بإحدى شركات البورصة، أخبرتنى »مارينا سامى« أن الغناء والموسيقى قدرات بشرية وطبيعية أوجدها الله لترتقى بروح الإنسان التى يقال إنها تظلّ مُتَوتّرة وفى سعى وحنين دائم إلى عالم الروح، فلا ترتاح ولا تهدأ ولا تَسْكُن إلّا بالموسيقى الّتى هى صوت الروح وحديثها السامى. من هنا أعتبر غناء عبدالحليم حافظ مدرسة فنية، تستطرد مارينا: رغم أننى تعرفتُ عليه من خلال غناء كاظم الساهر، حينما كنت أبحث عن قصائد نزار التى غناها، فتعرفتُ على عالم عبدالحليم وخاصة قصيدة قارئة الفنجان التى أبهرتنى حينما سمعته يغنى تلك القصيدة كما لو كان ينعى نفسه، وقصيدة لا تكذبى لكامل الشناوى، حينها فهمت معنى فن الغناء، وأنه حوار الفكر للفكر من خلال كلمات جميلة، والروح للروح من خلال موسيقى رائعة تضع الإنسان فى حالة سمو أقرب للصلاة، كما كان داود النبى يفعل من خلال مزاميره مصليًا لله، على عود ومزمار.
غنِ يا حليم .. غنِ يا عندليب فـ »كل غنوة حب حلوة« غنيتها لنا منذ سنوات لاتزال تؤثر فينا، وتخلق لنا ذكريات جديدة، تهذب نفوسنا، وتشجينا، وترتقى بالحب والإنسان الذى .. كاد أن يموت فينا!•