السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

بين التضحية والوهم أمى ليست مثالية

بين التضحية والوهم أمى ليست مثالية
بين التضحية والوهم أمى ليست مثالية


«ضيَّعت عمرى عليكم»، «ضحِّيت بسعادتى عشانكم»، «بدِّيتكم على  نَفسى».. كلمات تخرج من بين شفاه جافة، تصاحبها نظرة قهر.. وعينان دامعتان، موجهة لوجه تملأه البراءة.. لا يعى معنى الكلمات ولكنه يشعر بقوتها، تمر السنون وتظل هذه الكلمات تصاحبه وتؤلمه.

يبدأ فى التفكير فى معناها وأسبابها، هل هو سبب لحزن أُمِّه، هل وجوده فى الحياة هو القيد الذى ربط رقبتها وأحلامها وبدَّد سعادتها ؟ هناك سبيلان لا ثالث لهما يضطر الابن اتخاذهما للتخلص من ألم الضمير.. إمَّا أن يكون خاضعًا خانعًا لأُمِّه تعويضًا عن الضرر الذى ألَمَّ بها جراء وجوده فى الحياة، وإمَّا أن يقنع نفسه ويعى تمامًا أن الحياة اختيارات، وهى اختارت.. ولن يقبل أن يتحمل هو مسئولية اختياراتها.
فالأُمُّ كانت يومًا شابة ناضجة أحبت أو لم تحب لكنها اختارت شخصًا وقبلت به وأنجبت أطفالاً وقررت البقاء، والقبول به حُلوه ومُرِّه.. لماذا تُحَمِّلى ابنك أو ابنتك ثمَن اختيارك؟
أبى مُزواج..
يروى مروان عبدالحميد، مدير مبيعات 32 سنة،  قصته مع أمِّه قائلاً: فى يوم من الأيام وجدت أُمِّى تصرخ وتُلقى سماعة الهاتف فى الأرض.. تلطم وتنوح، فظننت أن جَدِّى توفَّى، حضنتنى قائلة «أبوك متجوز وعنده بنت».. فرحت بخبر وجود أخت لى، كنت فى السادسة وأطوق لأخ أو أخت.. فأجبت عليها بسرعة «أريد أن ألعب معها».. لن أنسى النظرة التى رمقتنى بها وقتها.. حتى الآن.
عرض أبى عليها البقاء أو الطلاق وأخذ حقوقها كاملة وأنه سيأخذنى معه وترانى وقتما تشاء.. رفضت.. وأصرَّت على البقاء، فى كل مشكلة مهما كانت بسيطة كانت تبكى وتُلعن اليوم الذى ضحَّت بنفسها وحياتها لتجلس معى! كانت دائمًا تروى لمن حولها أنها فعلت ذلك من أجلى، لكن الحقيقة أن والدتى من الصعيد ولو طُلِّقت لأرجعها جَدِّى إلى الصعيد وزوَّجَها هناك، فآثرت البقاء مع والدى رُغْمَ كل ما فعله، لم تكن هذه الزيجة الوحيدة لأبى، بل تزوج مَرَّة ثانية وثالثة، وفى كل مَرَّة أسمع نفس البكاء والنواح.. كبرتُ وأنا أشعر بالذنب، أحاول ألا أخطئ  ولكنى قررت أننى لن أعيش لأدفع ثمن اختيارها، هى أُمِّى وأُحبها ولكن المبرر الوحيد لعذابها هو اختيارها وليس أنا.
ظلت تحبه..
أمَّا فريدة أمين، 24 سنة خريجة هندسة الجامعة الألمانية، فتقول: كانت أُمِّى الأجمل على الإطلاق، كنت أراها جذابة ونشيطة، حتى بعد أن توفت جَدَّتى « والدتها»، شعرتُ بأن أبى الأهم دائمًا لها، تعامله مثل «الست أمينة وسى السيد»، ظللت أحبهما سويّا حتى كان عمرى 10 سنوات، وفجأة.. انقلب كل شىء، تزوج أبى بغير أمى وجاء جَدِّى وطلب من والدى أن يُطلقها، فبكى وبكت أُمِّى أيضًا وقالت لن أتركه، ووسط صدمة الجميع، تركتنا ودخلت غرفتها لتبكى بحرقة، لم أرها منذ هذا الحين تضحك كما كانت، ولم تعد بنفس النشاط ولا الجمال، كلما حدثت أى مشادة بينى وبينها تنظر لى بحرقة وتقول «أنا  قاعدة فى البيت ده عشانكم».  فى أحد الأيام صرخت فى أخى وقالت نفس الجملة فقلت لها: ها قد كبرنا اطلبى الطلاق ونحن معك. فظلت صامتة لا تتحدث.
لأن السبب الحقيقى وراء صبرها ليس وجودها فقط بجانبنا، لكن لأنها تحبه وظلت على أمل أن يترك الزوجة الثانية حتى بعد أن أنجب منها!
للصبر حدود..
نهلة توفيق، ربة منزل 42 سنة، تقول: تزوجتُ بأول عريس طرَق بابنا، فنحن 6 بنات ووالدى كان يريد أن يخف الحِمْل عن كاهله، كان رجلاً جافّا، لا يتكلم ولا يُعبر عن مشاعره، أنجبتُ بنتين وتحمَّلتُ حياتى التعيسة، ظنّا أننى أُضحى من أجلهما، كان يسبنى ويضربنى ويعايرنى بأننى لا أعمل، وكان يقطر على ابنتيه، وكنت أبيع التريكوه لأساعد فى مصاريف البنتين بعدما كبرت احتياجاتهما، مَرَّت عشرون عامًا دون أن أدرك، لكن البنتين أصبحتا عصبيتين، لا تتحملان مِنِّى لومًا ولا عتابًا، وفى يوم قلت لهما «سأترككما مع والدكما وأذهب وكفانى تضحية.. فوجئتُ بردِّ ابنتى الكبرى تقول لى «لم نجبرك على التضحية ولم نطالبك بالبقاء»!
نزل عليَّ كلامها كالصاعقة وجلستُ أفكر طويلاً وفى أول مشكلة بينى وبين والدهما طلبتُ الطلاق وحصلتُ عليه بعد تنازلى عن كل حقوقى! وخرج من البيت الذى كان مِلكًا لى، وخيَّرت البنتين بين البقاء أو الذهاب معه، فقررتا البقاء.. والآن نادمة على كل السنوات التى مَرَّت وأنا أعيش فى وهْم التضحية، أعمل الآن بشكل أوسع على التريكوه بجانب بعض التجارة، وعلاقتى بابنتيّ أصبحت أهدأ.. فالصبر له أيضًا حدود. •